ذكر الله وتربية الروح
قيد الدراسة2
ذِكر الله وتربية الرّوح: أعطى علماء الأخلاق، الأهميّة القُصوى لِلذكر، وذلك تبعاً لما ورد، في الرّوايات الإسلاميّة والقرآن الكريم، واعتبروه من العناصر المهمّة في خطّ العبادة، وتطهير النّفس وتهذيبها، وذكروا لكلّ مرحلة من مراحل السّير والسّلوك، الذّكر الخاص بها.
عدد الزوار: 65
ذِكر الله وتربية الرّوح:
أعطى علماء الأخلاق، الأهميّة القُصوى لِلذكر، وذلك تبعاً لما ورد، في الرّوايات الإسلاميّة والقرآن الكريم، واعتبروه من العناصر المهمّة في خطّ العبادة، وتطهير النّفس وتهذيبها، وذكروا لكلّ مرحلة من مراحل السّير والسّلوك، الذّكر الخاص بها.
فمثلاً في مرحلة التّوبة، ينبغي للسالك في طريق الحقّ، الإهتمام بِذِكر: "ياغَفّار"، وفي مرحلة محاسبة النّفس: "ياحَسيب"، وفي مرحلة إستنزال الرّحمة: "يا رحمان" و"يا رَحيم"... وَهَلُمَّ جرّا. وهذه الأذكار تتناسب وحالات الإنسان، والسّلوك الذي يسلكه الإنسان في خطّ الإستقامة، والإلتزام بها على كلّ حال حسن، ولا تختص بعنوان: قصد الوُرود إلى ساحة الرّحمة الإلهيّة. نعم فإنّ ذكر الله تعالى، من أكبر العبادات وأفضل الحسنات، في عمليّة التّصدي للتحديات النّفسية الصّعبة، وتحقيق الصّيانة من الوساوس الشّيطانية.
ذكرُ الله، يخرق حُجب الأنانيّة والغرور والنّوازع النّفسانية، التي تُعدّ من أَقوى العوامل، لِهَدم سعادة الإنسان، ويمنح الإنسان وعياً في أجواء السّلوك إلى الله تعالى، من الأخطار التي تهدّد سعادته، ويرسم له معالم مسيرته في حركة الحياة والواقع.
ذكر الله تعالى: هو المطر الذي ينزل على أرض القَلب، لِيسقي بذور التّقوى والفضيلة، ويعمل على تقويتها وتنميتها. والحقيقة أنّ المحاولة للإحاطة بعظمة هذه العبادة، وإحصاء معطياتها على مستوى تهذيب النّفس، لا تفي بالغرض، ولا تحيط بأهميتها في خطّ السّلوك المعنوي للإنسان.
بعد هذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم، لنستوحي من آياته، أهميّة ذكر الله تعالى:
1- ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾(الرّعد:28).
2- ﴿وَأَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ﴾(العنكبوت:45).
3- ﴿إِنَّني أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَآعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾(طه:14).
4- ﴿إذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتي وَلاَ تَنِيَا في ذِكْرِي﴾(طه:42).
5- ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا﴾(طه:124).
6- ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾(الكهف:28).
7- ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾(النّجم:29).
8- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى آلنُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾(الأحزاب:41-43).
9- ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ﴾(المائدة:91).
10- ﴿رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ﴾(النّور:37).
تفسير وإستنتاج:
"الآية الاُولى": تطرّقت للحديث عن دور ذكر الله تعالى، في خلق حالة الطّمأنينة في القلوب; لِتتولّى إنقاذ الإنسان من حالات الزلّل والتّوتر، وتوجهه فيها إلى تحقيق الفضائل الأخلاقية في واقع النّفس، فيقول تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ﴾. ثمّ يبيّن قاعدةً كليّةً، تقول: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾.
فما يجول في خاطر الإنسان وخُلدِه، من الحُزن من المستقبل والتّفكير بالرّزق، والموت والحياة والمرض وما شابهها من اُمور الدنيا، كلّها تدفع الإنسان للتّفكير الجاد في مصيره، وتسلب منه الرّاحة النّفسية، وتورثه القلق الحقيقي نحو المستقبل المجهول.
وكذلك عناصر: البخل والطّمع، والحرص، هي أيضاً من الاُمور التي تزرع القلق والتّوتر في نفس الإنسان، ولكن عندما يتجسّد ذِكر الله الكريم، الغني القوي، الرّحمن الرّحيم، الرزّاق في وعي الإنسان، ويعيش الإيمان بأنّ الله تعالى، هو الواهب والمانع الحقيقي، فعندما تَتَجسّد هذه المعاني والمفاهيم، وتتفاعل مع بعضها في واقع الإنسان في حركة الحياة، فسوف يعيش الإطمئنان، والسّكينة أمام تحدّيات الواقع، فكلّ شيء يراه مسيّراً لقدرة الله تعالى وإرادته المطلقة، وما شاء كانَ وما لَمْ يَشأ لم يكن.
وبهذا سيطمئن الإنسان، ويسلّم أمره إلى بارئِه، وستزرع في نفسه حالة التّقوى وحبّ الفضائل، وهو ما نَقرأه في الآية الشّريفة:
﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾(الفجر:27-30).
وتحركت "الآية الثّانية"، بعد ذكرها لمعطيات الصّلاة، على مستوى النّهي عن الفحشاء والمُنكر: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾، إلى تقرير هذه الحقيقة وهي: ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ﴾.
نعم، فإنّ ذكر الله هو روح الصّلاة، والرّوح أشرف شيء في عالم الوجود، فإذا ما منَعت الصّلاة عن الفحشاء والمُنكر، فإنّما ذلك بسبب تضمّنها لذكر الله، لأنّ ذكر الله هو الذي يذكّر الإنسان بالنّعم، التي غرق بها الإنسان في واقع الحياة، وتذكّر نِعم الله، بِدوره يمنع الإنسان من العصيان والطّغيان، وسيخجل من إرتكاب الذّنوب، هذا من جهة.
ومن جهة اُخرى، سيدعو الإنسان للتّفكير بيوم القيامة، الذي لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون، ويوم تنشر الصّحف وتَتطاير الكُتب، ويعيش المُسيئون الفضيحة والعار، في إنتظار ملائكة العذاب التي تأخذهم إلى الجحيم، ويكتب الفوز والنّصر للمحسنين، وسيكون في إستقبالهم ملائكة الرّحمة الذين يقولون لهم، اُدخلوها بسلام آمِنين، فذِكر هذه الاُمور، وتجَسيدها في وعي الإنسان، سيدفع إلى التّوجه نحو الفضائل، ويمنعه من مُمارسة الرّذيلة والإثم.
وقال بعض المفسّرين، إنّ جُملة: ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ﴾، إشارةً إلى أنّ ذِكر الله تعالى، هو أسمى وأرقى العبادات، في مسيرة الإنسان المعنويّة. ويوجد إحتمالٌ آخرٌ، وهو أنّ المقصود من: ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ﴾، هو ذِكر الله لِعبده، (وذلك في مقابل ذكر العبد لله تعالى)1.
حيث يصعد ذكر الله تعالى به، إلى أسمى وأعلى درجات العبوديّة، في آفاقها الواسعة، ولا شيء أفضل من هذه الحالة المعنويّة للإنسان، ولكنّ الإحتمال الأوّل، يتناسب مع معنى الآية أكثر.
"الآية الثّالثة": ذكرت أوّل كلام لله تعالى، مع نبيّه موسى عليه السلام، في وادي الطّور الأيمَنِ، في البُقعة المباركة عند الشّجرة، فسمع موسى عليه السلام النداء قائلاً: ﴿إِنَّني أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاٌعْبُدْني وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾.
والحقيقة أنّ الآية ذكرت، أنّ الهدف والفلسفة الأصليّة للصّلاة، هي ذكر الله تعالى، وما ذلك إلاّ لأهميّة الذّكر، في حركة الإنسان المنفتحة على الله تعالى، وخُصوصاً أنّها ذكرت مسألة الصّلاة، وذكر الله بعد بحث التّوحيد مباشرةً.
"الآية الرابعة" خاطبت الأخوين موسى وهارون عليهما السلام، من موقع نَصبهما لِمقُام النّبوة والسّفارة الإلهيّة، وأمرتهما بمحاربة قوى الإنحراف والزّيغ، والتّصدي لفرعون وأعوانه: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾.
فالأمر بذكر الله تعالى وعدم التّواني فيه، لِلوقوف بوجه طاغية: مثلَ فِرعون، هو أمرٌ يحكي عن دور الذّكر وأبعاده الوسيعة، وأهميّته الكبيرة في عمليّة السّلوك إلى الله تعالى، فذِكر الله يمنح الإنسان عناصر القّوة والشّجاعة، في عمليّة مواجهة التّحديات الصّعبة، لِلواقع المُنحرف.
وَوَرد في تفسير: "في ظِلال القرآن"، في مَعرض تفسيره لهذه الآية، قوله: ﴿إنّ الله تعالى أمر موسى وهارون عليهما السلام، أن اُذكروني، فإنّ ذِكري، هو سِلاحكم ووسيلتكم لِلنجاة﴾2.
وبعض المفسّرين فسّروا كلمة "الذّكر"، الواردة في الآية، بإبلاغ الرّسالة، وقال البعض الآخر، أنّها مطلق الأمر بالذّكر، وقال آخرون: إنّها ذِكر الله تعالى خاصّةً، والحقيقة أنّه لا فرق بين التّفسيرات الثّلاثة، ويمكن أن تجتمع كلّها في مفهوم الآية.
ومن المعلوم أنّ الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله، ولاِجل أن يستمر في إبلاغ الرّسالة، والتّحرك في خطّ الطّاعة والتّصدي لقوى الباطل والإنحراف، عليه أن يستمد القوّة والقدرة من ذكر الله تعالى، والتّوجه إليه في واقع النّفس والقلب.
وتناولت "الآية الخامسة"، إفرازات ونتائج، الإعراض عن ذكر الله تعالى في حركة الإنسان، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَومَ القِيامَةِ أَعمى﴾.
فعذابهم بالدّنيا أنّهم يعيشون ضنك العيش، وفي الآخرة العمى، وفَقد البَصر!.
فضنك العيش، ربّما يكون بتضييق الرّزق على من يعيش الغفلة عن ذكر الله تعالى، أو ربّما بإلقاء الحرص على قلب الغني، فيتحرك في تعامله مع الآخرين، من مَوقع الطّمع والبُخل، فلا يكاد يُنفق درهماً في سبيل الله، ولا يعين فقيراً ولو بشقّ تَمرة، فيكون مِصداق حديث أميرالمؤمنين عليه السلام، حيث يقول: "يَعِيشُ فِي الدُّنيا عَيْشَ الفُقَراءَ وَيُحاسَبُ فِي الآخِرَةِ حِسابَ الأَغِنياء"3.
ففي الحقيقة أنّ أغلب الأغنياء وبسبب حرصهم الشّديد على النّفع المادي، يعيشون في حالة قلق دائمة، ولا ينتفعون من أموالهم بالقدر الكافي، وتكون عليهم حسرات في الدّنيا والآخرة.
ولكن لماذا يُحشر أعمى؟
وَلَربّما لِتشابُه الأحداث هناك، مع الأحداث في الدنيا، فالغافل عن ذكر الله تعالى في الدنيا، ولإعراضه عن الحقيقة وآيات الله تعالى، وتَجاهله لدواعي الحقّ والخير في باطنه، فإنّه لا يرى الحقّ بعين البصيرة، في حركة الحياة والواقع، ولذلك سوف يُحشر أعمى في عَرصات القِيامة.
كيف يكون ذِكر الله؟
فسّرت الكثير من الرّوايات الإسلاميّة، ذِكر الباري تعالى: "بالحج"، وَوَرد في البعض الآخر، أنّ الذّكر هنا: بمعنى الولاية لأمير المؤمنين عليه السلام. والحق أنّ الإثنين هما مِصداقان من مَصاديق ذكر الله تعالى، فالحجّ هو مجموعةٌ من الأعمال والسّلوكيات، تذكّر بالله تعالى، وكذلك علي عليه السلام، فذِكره والنّظر إليه عبادةٌ، تُعمّق في الإنسان روح الإيمان، وتُذكّره بالله تعالى.
"الآية السّادسة": خاطبت الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، من موقع النّهي عن طاعة الأشخاص الذين يعيشون في غفلة، وحثّته على معاشرة الّذين يذكرون ربّهم، صباحاً وبِالغَداة والعَشِي، ولا يريدون إلاّ الله تعالى، فقال تعالى:
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾.
ومن المعلوم أنّ الله سبحانه وتعالى، ما كان ليعذّب أحداً بالغفلة عن ذكره، بل لأنّ مثل هؤلاء الأشخاص، ينطلقون في تعاملهم مع الحقّ، من موقع العناد والّتمرد والتّكَبّر والتعصّب لِلباطل.
وبناءاً عليه، فإنّ القصد من الإغفال هو سلب نعمة الذّكر منه، لِيلاقي جزاءه في الدّنيا قبل الآخرة، ولهذا، فإنّ ذلك لا يستلزم الجَبر.
ولا نرى أحداً من هذه الجماعة، إلاّ مُتّبعاً لِهواه، مُتّخذاً سبيل الإفراط والتَّفريط في كلّ فعاله، لذلك تعقّب الآية قائلةً: ﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾.
ويُستفاد من هذه الآية، أنّ الغفلة عن ذِكر الله تعالى، تؤثّر سلباً في أخلاق وروح الإنسان، وتُؤدّي به إلى وادي الأهواء، وتجرّه إلى منحدرِ الأنانية.
نعم، فإنّ روح وقلبَ الإنسان، لا يسع إثنان، فإمّا "الله تعالى"، وإمّا "هوى النّفس"، ولا يمكن الجمع بينهما. فالهَوى هو مصدر الغَفلة عن الله تعالى، وخلقه، وسَحق جميع القِيم والاُصول الأخلاقية، وبالتّالي فإنّ هَوى النّفس، يغرق الإنسان في عتمة ذاته الضّيقة، ويُعمي بصره عن كلِّ شيء يدور حوله في واقع الحياة، والإنسان الذي يتحرّك من موقع الهَوى، لا يرى إلاّ إشباع شَهواته، ولا مفهوم عنده لمفاهيم أخلاقيّة، مِثلَ: صلة الرحم وَالمُروّة والإيثار.
"الآية السابعة": خاطبت الرّسول الأكرم صلى الله عليه وآله أيضاً، من موقع التّحذير، عن مُخالطة المُعْرِض عن ذِكر الله تعالى، فقالت: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾.
في تفسير "ذِكر الله"، قال البعض: أنّ المراد منها في هذه الآية، هو القرآن الكريم، واعتبرها البعض الآخر، إشارةً لِلأدلّة العقليّة والمنطقيّة، وقال آخرون، أنّها الإيمان، والظّاهر أنّ ذكر الله تعالى، له مفهومٌ واسعٌ يشمل كلّ ما ذُكر آنفاً.
وذَكر آخرون، أنّ هذه الآية تدعو لترك جهاد هؤلاء، ولهذا السّبب، نُسخت بآيات الجهاد التي نزلت بعدها، والحقّ أنّه لا نَسخ في البَيّن، وكلّ ما في الأمرِ، أنّها تمنع من مُجالسة الغافلين عن ذِكر الله تعالى، ولا مُنافاة بينها وبين مسألة الجهاد بشرائطها الخاصة.
وأخيراً تبيّن هذه الآية، العلاقة والرّابطة الوثيقة بين: "حبّ الدنيا" و"الغفلة عن ذِكر الله"، فكَما أنّ ذِكر الله تعالى له خصائصه، ومعطياته الإيجابية على الإنسان، على مستوى تَقوية عناصر الفضيلة وترشيد القيم الأخلاقيّة، فكذلك الغفلة لها آثارها، ونتائجها السلبيّة على روح الإنسان، على مستوى تقوية عناصر الشّر والرذيلة فيها.
"الآية الثّامنة": خاطبت جميع المؤمنين، ودعتهم إلى ذِكر الله تعالى، والخروج من دائرة الظّلمات إلى دائرة النّور، فتقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا * هُوَ الَّذِي يُصَلّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾.
والجدير بالذّكر في هذا الأمر، أنّ الآية الكريمة، بعد الأمر بالذّكر الكثير، والتّسبيح له بكرةً وأصيلاً، تخبرنا عن أنّ الله تعالى، سيصلّي هو وملائكته علينا، ويخرجنا من الظّلمات إلى النّور، ألَيسَ ذلك هو هدفنا في حركة الحياة، أَلَيس ذلك هو مُبتغانا من الإلتزام في خطّ الرّسالة، وكلّ ما نريده هو، أنّ الذّكر وصلاة الربّ والملائكة علينا، سيزرع فينا روح التّوفيق لِلطاعة والسّير في طريق الخَير، ويقلع من واقعنا بذور الشرّ، وجذور الفساد، ولتحل محلّها عناصر الفَضيلة والنّسك والأخلاق الحميدة؟!.
وقد وَرد في تفسير الميزان، أنّ ذيل الآية الكريمة، هو بِمنزلة التبيّن لعلّة الأمر، بـ: "الذّكر الكثير"، وهو يؤيّد ما أشرنا إليه آنفاً4. وقد وَردت تفاسيرٌ مختلفةٌ، وآراءٌ مُتغايرةٌ لعبارة: "الذّكر الكثير"، فقال بعضهم، أن لا يُنسى الله تعالى في كلّ وقت ومكان. وقال بعضٌ آخرٌ أنّه الذّكر والتّسبيح، بأسماء وصفات الله الحُسنى.
وذكرت روايات اُخرى، أن المقصود به، هو التّسبيحات الأربعة، أو تسبيح الزّهراء عليها السلام. وقال إبن عباس: كلّ أوامر الله تعالى تنتهي إلى غاية ما، إلاّ الذّكر فلا حدّ له أبداً، ولا عُذر لتاركه أبداً. وعلى كلّ حال، فإنّ "الذّكر الكثير"، له مفهومٌ واسعٌ، ويمكن أن يجمع بين طيّاته كلّ ما ذكر آنفاً.
أمّا ما ذكر من، "الظّلمات" و"النّور" في هذه الآية، فما المقصود منه؟.
إختلفوا في تفسيرها أيضاً، فقال البعض أنّها الخُروج من ظلمات الكفر إلى الإيمان، وقال الآخرون، أنّها الخروج من ظلمات عالم المادة، إلى نور الأجواء المعنويّة والرّوحانية، وقال بعضٌ آخر، إنّها الخروج من ظلمات المعصية إلى نور الطّاعة، ولا تَنافي في البَين هنا. إضافةً إلى أنّها، تشمل الخروج من ظلمات الرّذائل الأخلاقيّة إلى نور فضائلها، وهي أهمّ معطيات ذِكر الله جلّ شَأنه.
"الآية التّاسعة": حذّرت المؤمنين من نتائج مُعاقرة الخَمرة والقِمار، فقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ﴾.
فذكرت هذه الآية، ثلاثة مفاسد لِشرب الخمر والمقامرة:
إيقاع العداوة بين النّاس، والردع والصدّ عن ذكر الله، وعن الصّلاة، ويستفاد من ذلك أنّ ذكر الله، كالصّلاة والمحبّة بين النّاس، أمرٌ ضروري وحياتي للإنسان في واقعه النّفسي، والحِرمان منه، يعتبر خَسارةً كُبرى لا تُعوّض.
بالإضافة إلى أنّه يستفاد من جوِّ الآية، وجود علاقة بين: "الغفلة عن ذِكر الله، والصّلاة"، و"ظهور العداوة والشّحناء والمفاسد الأخلاقيّة الاُخرى"، وهذا هو بيت القصيد، وما نُريد التّوصل إليه.
وفي " الآية العاشرة": والأخيرة، أشارةٌ إلى رجال، أحاطهم الله تعالى بأنوارِ قُدسه، في بيوت ليس فيها إلاّ ذِكرُه وتَسبيحُه والتّقديسُ له، وهي الآية: (36-37) من سورة النّور، فقالت: ﴿فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ، * رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ...﴾.
وبناءً عليه، فإنّ أوّل خُصوصيات الرّجال الإلهيين: هو المُداومة على ذِكر الله في أي وقت وفي كلّ مكان، حيث لا تغرّهم الدّنيا، بغرورها وزخارفها وملاهيها الجميلة الخدّاعة، وهو أسمى إفتخار يعيشونه في واقعهم.
ثم تذكر الآية، خصوصيّات اُخرى، لهؤلاء المؤمنين في دائرة السّلوك الدّيني، من قبيل إقامة الصّلاة وإيتاء الزّكاة.
النّتيجة:
نستنتج ممّا ذُكر آنفاً من الآيات الكريمة، والآيات الاُخرى التي لم نذكرها تجنّباً لِلاطالة، أن ذكر الله تعالى يورث الإنسان إطمئنان القَلب، ويَنهى عن الفحشاء والمنكر، ويزّود النّفس بالقُدرة والقُوّة الّلازمة، في مقابل التّحديات الصّعبة لِلعدو الدّاخلي والخارجي، ويميت الرّذائل الأخلاقيّة في قلب الإنسان، كالحِرص والبُخل وحبّ الدنيا، الذي هو رأس كلّ خطيئة.
فلا ينبغي للسّائر في خطّ التّقوى والإيمان، أن يغفل عن هذا السّلاح الفعّال، فهو الدّرع الحصين لكلّ من يريد أن يتحرّك، على مستوى تهذيب النّفس وتربية عناصر الفضيلة فيها، وهو السدّ المنيع للمؤمنين، مقابل قوى الشّر والانحراف، وسلاحهم الذي يمدّهم بالقوّة والعزيمة، في مقابل الأعداء، والأخطار التي تحدق بهم في هذه الدنيا، المليئة بالوُحوش الضّارية الكاسرة، التي لا تعرف الرّحمة والشّفقة، وليكن ذِكرُهم للهِ كَذِكرهم لأنفسهم، بل أشدّ وأقوى.
* الأخلاق في القرآن (الجزء الأول)، أصول المسائل الأخلاقية، آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي, المؤسسة الإسلامية, الطبعة الثانية/1426ه, قم.
1- المحجّة البيضاء، ج2، ص266.
2- في ظِلال القرآن، ج5، ص474.
3- بحار الأنوار، ج69، ص119.
4- تفسير الميزان، ج16، ص329، ذيل الآية المبحوثة..