مراتب ومعطيات التوبة
قيد الدراسة2
مراتب التّوبة: ذكر علماء الأخلاق، درجات ومراتب مختلفة للتّوبة والتّائبين. ويمكن تقسيم التّائبين من جهة، إلى أربعة أقسام: القسم الأوّل: اُولئك التّائِبون الذين لا يقلعون عن الذنوب، ولا يتأسفون على ما فعلوا، حيث وقفوا عند مرحلة النّفس الأمّارة، وعاقبتهم غير معلومة أصلاً.
عدد الزوار: 93
مراتب التّوبة:
ذكر علماء الأخلاق، درجات ومراتب مختلفة للتّوبة والتّائبين.
ويمكن تقسيم التّائبين من جهة، إلى أربعة أقسام:
القسم الأوّل: اُولئك التّائِبون الذين لا يقلعون عن الذنوب، ولا يتأسفون على ما فعلوا، حيث وقفوا عند مرحلة النّفس الأمّارة، وعاقبتهم غير معلومة أصلاً، فَمِن المُمكن أن يعيش حالةَ التّوبة في آخر أيّام حياته، وتكون عاقبته الحُسنى، ولكنّ الطامّة الكبرى، عندما يتفق موتهم مع معاودتهم للذنب، وهناك ستكون عاقبتهم السّوآى، وفيها الخُسران الأبدي.
القسم الثاني: التّائبون بحق الّذين يستمرون في طريق الحقّ والطّاعة، ويتحرّكون في خطّ الإستقامة، ولكن الشّهوات تغلبهم أحياناً، فيكسرون طوق التّوبة، ويرتكبون بعض الذّنوب، من موقع الشّعور بالضّعف أمامها، ولكنّهم لا يقعون في هذا الخطأ، من موقع الّتمرد والجُحود والعِناد، على وعي الموقف، بل من موقع الغفلة والإندفاع العفوي في حالات الضّعف، الّتي تفرزها حالات الصّراع مع النّفس الأمّارة، ولهذا يحدثون أنفسهم بالتّوبة من قريب، هؤلاء الأشخاص وصلوا إلى مرحلة النّفس اللّوامة، والأمل بنجاتهم أقوى.
القسم الثّالث: التوّابون الذين يجتنبون كَبائِر الإثم، ويتمسّكون باُصول الطّاعات، ولكنهم قد يقعون في حبائل المعصية، لا عن قصد وعمد، ولذلك يتوبون مباشرةً عن الذّنب، فيلومون أنفسهم ويعزمون على التّوبة والعودة إلى خطّ الإستقامة بإستمرار، ويعيشون حالة الإبتعاد عن الذّنب دائماً.
النّفس اللّوامة لهذه المجموعة، مهيمنةٌ عليهم، ويعيشون على مقربة من النّفس المُطمئنّة، والأمل بنجاتهم أكبر.
القسم الرابع: التّوابون بعزم وقوة إرادة، في طريق الطّاعة لله تعالى، فلا تهزّهم العَواصف التي تفرضها حالات الصّراع مع الخَطيئة، ولا يخرجون من أجواء التّقوى، صحيح أنّهم ليسوا بمعصومين، ولَرُبّما فكّروا بالمعصية، ولكنّهم محصّنين مُبعدين عنها، فَقِوى الإيمان والعقل عندهم، سَلبت هوى النّفس فاعليّته في واقعهم الباطني، وكبّلته بالسّلاسل الغلاظ، في خطّ التّزكية والجهاد الأكبر، فلا سبيل للشّيطان والأهواء عليهم.
فاُولئك هم أصحاب: "النّفوس المطمئنّة"، الذين نعتتهم الآيات (27الى30) من سورة الفَجر، وخُوطِبوا بأبلغ خِطاب، فقال عز من قائل: ﴿يا أَيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَةُ آرجِعِي إِلَى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيِّةً﴾.
فدخلت بإفتخار في أجواء النّور والقُرب الإلهي: ﴿فَادْخُلِي فِي عِبادِي وآدْخُلي جَنَّتِي﴾.
ومن جهة اُخرى، فإنّ لِلتوبةِ مراحل على مستوى المصاديق أيضاً:
المرحلة الاُولى: التّوبة من الكفر إلى الإيمان.
المرحلة الثّانية: التّوبة من الإيمان الموروث التّقليدي، والتّحرك نحو الإيمان الحقيقي المُستحكم.
المرحلة الثّالثة: التّوبة من الذّنوب الكبيرة الخَطرة.
المرحلة الرّابعة: التّوبة من الذّنوب الصّغيرة.
المرحلة الخامسة: التّوبة من التّفكير بالذّنب، والخواطر المشوبة بالمعصية، وإن لم يرتكب الُمخالفة في دائرة الفعل والمُمارسة.
فكلّ فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من إضطراب السّر،(في كلّ لحظة لم يتوجهوا فيها إلى الله تعالى بالباطن والسِّر).
وتوبةُ الأصفياء من كلّ تنفّس بغير ذكر الله1.
وتوبةُ الأولياء من تلوين الخطرات.
والخَواص من الإشتغال بغير الله.
وتوبة العوام من الذّنوب.
وكلّ واحد منهم، يشتمل على نوع من المعرفة والعلم، في أصل توبته، ومُنتهى أمره2.
ـ معطيات وبركات التّوبة
إذا كانت التّوبة توبةً حقيقيةً وواقعيةً ونابعةً من الأعماق، فلابدّ من أن تقع مورد القَبول من قبل الله تعالى، العَفوّ الغَفور، وستنشر خيرها وبركاتها على صاحبها في حركة الحياة، وتُغطَّي على ما صدر منه من معاصي، أدّت به إلى السّقوط في منحدر الضّلال والزّيغ.
مثل هذا الإنسان، يعيش أجواء الحَذر الدّائم من مجالس السّوء والعصيان، ومن كلِّ عوامل الذّنب والوساوس، والتّداعيات الاُخرى، الّتي توقعه في وحل المعصية مرّةً اُخرى. ويعيش حالة الخجل والنّدم، ويدأب بإستمرار لتحصيل رضا الله تعالى، وجبران ما فاته من الطّاعات.
هذه هي العلاقات الفارقة لهم، عن المتظاهرين والمرائين.
قال قسم من المفسّرين، في معرض تفسيرهم للآية الشّريفة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾( التحريم:8).
قالوا: إنّ المراد من التّوبة النّصوح، هي تلك التّوبة التي تفعّل في الإنسان عناصر الخير من موقع النّصيحة، وتتجلى في روح التّائب على مستوى حثها له، للقضاء على جذور العصيان في باطنه، قضاءً تامّاً بلا رجعة بعدها.
وفسّرها قسم آخر، بالتّوبة الخالصة، وقال آخرون إنّ: "النّصوح" من مادّة "النّصاحة"، وهي بمعنى الخِياطة والتّرقيع، لما حدث من تمزيق، وبما أنّ الذّنوب: الإيمان والدّين فتقوم التّوبة بتوصيلها ببعض، وتعيد التّائب إلى حضيرة الأولياء، كما تجمع الخياطة بين قطع الثّوب3.
إنّ بركات وفوائد التّوبة جمّةٌ لا تُحصى، وقد أشارت إليها الرّوايات والآيات العديدة، ومنها:
1- تمحو وتُفني الذّنوب، كما ورد في ذيل الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾، ورد ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾(التحريم:8).
2- تمنح التّائب بركات الأرض والسّماء، كما ورد في الآيات (10 و11 و12) من سورة نوح عليه السلام: ﴿فَقُلْتُ آسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَال وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّات وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً﴾.
3- تبدل التّوبة السّيئات حسنات، كما ورد في سورة الفرقان الآية (70): ﴿إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَات﴾.
4- يتعامل الله مع هذا الإنسان، من موقع السّتر على الذّنوب، وينسي الملائكة الكاتبين ذنبه، ويأمر أعضاء بدنه بالستر عليه يوم القيامة، وكتمان أمره، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "إِذا تابَ العَبْدُ تَوبَةً نَصُوحاً أَحَبَّهُ اللهُ وَسَتَرَ عَلَيهِ فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ"، فَقُلْتُ: وَكَيفَ يَسْتُرُ؟ قَالَ: "يُنْسِي مَلَكَيهِ ما كَتَبَا عَلَيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيُوحِي إِلَى جَوَارِحِهِ: اُكْتُمِي عَلَيهِ ذُنُوبَهُ، وَيُوحِي إِلى بِقاعِ الأَرْضِ: اُكْتُمِي ما يَعْمَلُ عَلَيكَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَيَلْقَى اللهَ حِينَ يَلْقَاهُ وَلَيسَ عَلَيهِ شَيءٌ يَشْهَدُ عَلَيهِ بِشَيء مِنَ الذُّنُوبِ"4.
5- التّائب الحقيقي، يُحبّه الله تعالى، لدرجة أن ورد في الحديث: "إِنّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعطَى التّائِبِينَ ثَلاثَ خِصال، لَو أَعطى خِصْلَةً مِنْها جَمِيعَ أَهْلِ السَّمواتِ والأَرضَ لَنَجَوا بِه".
وبعدها يشير إلى الآية الشريفة: ﴿إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾(البقرة:222).
وقال: "مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ لَمْ يُعَذِّبْهُ".
ثمّ يُعرّج على الآية: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَحْمَةً وَعِلْماً فَآغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا َ آتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ* رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْن الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾"(غافر:7-9).
نعم، فإنّه ما لم ينجلِ عن القلب والروح صدأ الذُنوب، ويتحرك الإنسان لتطهير النّفس من مخلفات المعصية بماء التّوبة، فلن يشرق القلب بنور ربّه، ولن يتمكن هذا الإنسان من السّير على خطّ الإيمان، والسّلوك إلى الله تعالى والفوز بجواره، ولن يذوقَ طعم التجلّيات العرفانيّة، في حركة الحياة المعنويّة.
هذا هو أوّل محطٍّ للرحال، وأهمّها، ولا يمكن تخطّيه إلاّ بعزم صادق وإرادة راسخة، يدعمها لطفٌ إلهي وتوفيقٌ ربّاني، ولا يُلقّيها إلاّ ذو حظٍّ عظيم.
* الأخلاق في القرآن (الجزء الأول)، أصول المسائل الأخلاقية، آية الله العظمى الشيخ ناصر مكارم الشيرازي, المؤسسة الإسلامية, الطبعة الثانية/1426ه, قم.
1- فسّر المرحوم المجلسي: التّنفس بنفس ذلك المعنى، ولكنّ بعض كتب اللّغة، فسّرته: بالخطابات الطّويلة.
2- بحار الأنوار، 68، ص31.
3- بحار الأنوار، ج6، ص17.
4- اُصول الكافي، ج2، ص430، (باب التوبة، ح1). 2009-07-29