بساطة العيش والزهد
قيد الدراسة2
مأوى الأسد: الأجَمات كان قد طرق سمع ناصر الدين شاه كلمات اطراء حول مؤلف كتاب المنظومة في المنطق والحكمة، الحاج هادي السبزواري، فأحب ان يراه عن كثب، ولذلك عزم على السفر إلى خراسان ولكن سفراً غير رسمي حتى يتوفق لرؤيته. فلما وصل في طريقه إلى نيشابور
عدد الزوار: 61
مأوى الأسد: الأجَمات
كان قد طرق سمع (ناصر الدين شاه) كلمات اطراء حول مؤلف كتاب (المنظومة) في المنطق والحكمة، الحاج هادي السبزواري، فأحب ان يراه عن كثب، ولذلك عزم على السفر إلى خراسان ولكن سفراً غير رسمي حتى يتوفق لرؤيته. فلما وصل في طريقه إلى نيشابور، زاره فيها العلماء وشخصيات البلد، ولم يكن فيما بينهم الحاج هادي السبزواري، فأضطرّ ان يذهب وحده إلى سبزوار علّه يحظى هناك بزيارته. ولما وصلها توجّه إلى داره ودخل عليه بلا خبر مسبق، فرآه جالساً على حصير عادي في بيت متواضع، خال من كل زخارف الحياة ومباهجها، فتعجب من ذلك. لكن زاد تعجبه لما صار وقت تناول طعام الغداء، حيث جاء إليه خادمه بطبق فيه قرصان يابسان من الشعير، وقليل من الملح الجريش، ومقدار من اللبن الحامض، وملعقتان من خشب، ووضعه أمامهما.
عندها توجه السبزواري إلى الملك وقال: تفضل على اسم اللّه. فلما رأى الملك انّه لا يستطيع الأكل منه، اخرج منديلاً وأخذ كسرة من ذلك الخبز الشعير اليابس للتبرك ووضعها فيه، ليكون قد شارك السبزواري في طعامه وغدائه، ثمّ عزم على مغادرته فقام وهو يودّعه ليخرج من عنده. فشيّعه السبزواري ببيت من الشعر مضمونها: إنك لو رأيت عندي الحصير العادي والبيت المتواضع، فلا تتأثر فإن الأسد الذي هو سلطان الغاب يسكن الأهوار والأجمات. فاستحسن الملك كلامه وودعه وهو متعجب من شدة زهده وتقشفه.
حياة كحياة الأنبياء عليهم السلام
قيل: انه لما اشتهر الشيخ الأنصاري قدس سره بالمرجعية وعلا صيته في الآفاق، أرسل الخليفة العثماني آنذاك مبعوثاً إلى النجف الأشرف ليرى الشيخ من قريب، فلمّا جاء ودخل على الشيخ في داره، رأى ما أثار تعجّبه وغرابته، رأى داراً عادية وبسيطة، ورأى الشيخ جالساً في غرفة متواضعة قد فرش بعضها ببساط عادي، وعليه عمامة وعباءة وقباء مادون المتوسّط، وبين يديه كتب كثيرة وهو مشغول بها. فلمّا دخل ورآه الشيخ، قام إليه واستقبله وأجلسه على البساط، ثم جلس إليه يحدثه وسأل عن صحّته، ثم قام وجعل قليلاً من الدبس في إناء من خزف وصبّ عليه الماء وقدّمه للمبعوث، وبعد أن شرب، قال له الشيخ معتذراً: لقد حان وقت الدرس وان الطلاب في انتظاري وأنا عازم مع إذنكم على أن أذهب إليهم، فقام المبعوث وودّع الشيخ وخرج. ولما رجع المبعوث إلى الخليفة ونقل له ما رآه من الشيخ، قال الخليفة: وجدته كما يحكى عن رسول اللّه صلى الله عليه وآله وسلم. يقصد بذلك ما عند الشيخ من الزهد في الدنيا والبساطة في العيش.
من حياة المرجعية
نقل لي أحد العلماء: انه كانت له عمّة، لها مزاورة مع أُسرة الشيخ الأنصاري قدس سره وعائلته، فحكت لي ذات مرة وهي تقول: كنت أختلف إلى دار الشيخ الأنصاري قدس سره لمعرفة لي مع زوجته، ففي ذات يوم لما جاءت ابنة الشيخ من الدرس إلى الدار أخذت تشتكي إلى أمّها قائلة: ان زميلاتي في الدرس يأتين كل يوم بمختلف الأطعمة وأنواعها، وأنا أذهب كل يوم بخبز ولبن، فلقد عجزت عن أكل لون واحد من الطعام في كل يوم. قالت: ثم جاء الشيخ، فنقلت الأم إلى الأب كل كلام البنت وانتظرت جوابه. فقال الشيخ بأنها تصدق لابدّ من التنويع، فأعطيها في يوم خبزاً فقط، وفي يوم خبزاً ولبناً وهكذا، حتى تشتهي ذلك، ولا تملّ من أكل لون واحد من الطعام كلّ يوم. نعم هكذا يروّض المرجع الإلهي نفسه وعائلته على الزهد والتقشف، حتى لا ينزلق في المغريات وزخارف الدنيا الفانية.
الزهد مرقاة الكمال
من المتعارف أن يكون لمن يبدأ بالدراسة زملاء في الدرس يرتقون معاً مدارج التقدّم، وقد يتّفق لأحدهم سبق الجميع، كما اتّفق ذلك للشيخ الأنصاري قدس سره مع زملائه في الدراسة، فقد كان له زميل ملازم له، لكنه لم يتوفّق لما وفق له الشيخ، وذلك لأن الشيخ توفق لأن يبقى في النجف الأشرف، حتى استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه، بينما سافر زميله ذلك إلى بلده، وعاد إبان رئاسة الشيخ إلى النجف الأشرف للزيارة والإلتقاء بالشيخ. لمّا رأى عظمة الشيخ قال له متسائلاً: شيخنا لقد كنّا زميلين في الدرس فكيف وصلت أنت إلى ما وصلت إليه اليوم، وبقيت أنا على ما كنت عليه في السابق. أجابه الشيخ وهو يشير إلى قضيّة كانت بينهما قائلاً: لأنّي تركتُ أكل الدبس وأنت أقدمت عليه. وكانت تلك القضية التي اتّفقت لهما في أيام الدراسة هو أنهما قصدا ذات مرّة مسجد الكوفة وهناك صار وقت الغداء، وأرادا تهيئة الطعام لهما، فلم يجدا عندهما إلا فلساً واحداً وكان رغيف الخبز بفلس واحد آنذاك، وذهب الزميل ليشتري به رغيف خبز يأكلانه معاً، لكنه عاد وقد اشترى خبزاً وشيئاً من الدبس على الخبز. فقال له الشيخ متعجّباً: بكم اشتريتهما؟ قال: بفلسين. قال الشيخ: ومن أين لك الفلس الثاني؟ قال: اشتريت الخبز نقداً والدبس دَيْناً. فقال الشيخ: أما أنا فلا آكل من الدبس شيئاً، لأني لا أعلم هل أتمكّن من قضاء هذا الدين أم لا؟ فضحك الزميل وقال: وأمّا أنا فآكله وحدي وعليّ قضاؤه، فأكل هو ولم يأكل الشيخ إلا أطراف الخبز...
نعم الزهد في الدنيا من مأكل ومشرب وملبس وغير ذلك هو الذي ارتقى بالشيخ الأنصاري قدس سره إلى ما ارتقى إليه، بينما عدم الزهد يضع زميله على ما كان عليه، ولعلّ الشيخ أراد بإشارته إلى تلك القضية الفات الزميل إلى حقيقة من حقائق الحياة، وإعلامه ومن بلغته القصّة: بأنّ اللازم على طالب العلم أن يزهد في الدنيا ويحتاط فيما يرتبط بها هذا المقدار من الاحتياط حتّى يصل إلى مرتبة من العلى.
أزهد علماء البلد
يذكر ان أحد الخلفاء قال لوزيره ذات ليلة: يا ترى من هو أزهد العلماء في عصرنا هذا لنذهب إليه فينصحنا؟ قال الوزير: فلان وفلان، فمضيا حتّى وصلا إلى باب دار أحدهما، فطرق الوزير الباب، فجاء العالم خلف الباب وقال: من الطارق؟ قال الوزير: الخليفة بالباب. قال العالم بكل حفاوة: اصبر حتى آتي بالمصباح، فلم يلبث إلا أن جاء بالمصباح وأقبل نحو الباب وفتحه، وأخذ يسلّم على الخليفة بإمرة المؤمنين ويقول: لماذا لم تبعث عليّ حتّى آتيك أنا بنفسي ولا تتحمّل تعب المجيء؟ ثم عرض عليهما الدخول، فأبى الخليفة من الدخول وودعه والوزير وانصرفا، فلما ابتعدا عنه، التفت الخليفة إلى الوزير وقال له: ما أردت مثل هذا. فذهبا حتى أتيا باب دار العالم الثاني، فطرق الوزير الباب وانتظر فتحه، ولكن لم يُفتح عليهما، فسمعا صوت العالم وهو يتلو القرآن، وبعد عدّة طرقات، قال العالم وهو في مصلاّه: من بالباب؟ قال الوزير: انّه الخليفة، يريد زيارتك. قال العالم بكل برودة: فليذهب الخليفة من حيث جاء فإنّي مشغول مع ملك الخليفة يعني بالملك اللّه تعالى. وكلّما ألحّ الوزير على العالم بفتح الباب، أصرّ العالم على عدم الإجابة، حتّى اضطرّا إلى أن يجعلا سلّماً ويتسلّقا الجدار، ويدخلا عليه في مصلاّه.
فلما أحسّ العالم بذاك ورأى الخليفة والوزير عنده في مصلاّه، وقد مدّ الخليفة إليه يده للمصافحة، رأى العالم نفسه أمام الأمر الواقع، واضطرّ إلى أن لا يردّ يده إلا بما ينبّهه به، ويردّه عن غفلته، فلمّا استقرّت يد الخليفة في يد العالم، قال العالم: آه ما ألينها لنار جهنّم؟ فوقع الخليفة مغشياً عليه من البكاء، فلمّا أفاق جلس بين يدي العالم كالغلام، وطلب منه أن ينصحه، فنصحه العالم بالشفقة على الرعية والعدل فيهم والإحسان إليهم، ثمّ ودّعاه وقاما وخرجا، عند ذاك إلتفت الخليفة إلى وزيره وقال: لمثل هذا أردت، انه العالم حقّاً.
مع المقدس الكاظمي
يذكر انّ المقدّس الكاظمي قدس سره صاحب الوسائل في الفقه، كان من الزهادة والورع بمكان، حتّى انه زاره من إيران بعض الشخصيات المرموقة في سفرة له إلى العراق في داره، فوجد الدار في غاية البساطة بادية عليها آثار القناعة والعزوب عن الدنيا، ووجد صاحب الدار في غاية العظمة بادية عليه آثار الزهد والورع. وبعد أن جرى بينهما ما تعارف من التحيّة والترحاب، وتفقّد كلّ منهماأحوال صاحبه، وتزاورا، أطال الزائر جلوسه وهو لا يعلم بأنّ المقدّس قد أخرج زوجته وطفله الصغير إلى ساحة الدار تحت الشمس المحرقة في حرّ الظهيرة، ولذلك التفت المقدّس إلى زائره وقال: لو دار الأمر بين مستحب وحرام فما هو الأهم؟ أجاب الزائر: معلوم انّ الحرام هو الأهم، فإنّه يجب ترك المستحب حتّى لا يرتكب الحرام، ثمّ قال: وكيف؟ فأجابه المقدّس: هل تسمع صراخ طفل صغير؟ أنصت الزائر إليه ثمّ قال: نعم وما هو؟ قال المقدّس: انّه وزوجتي تصهرهما الشمس حيث لا ظلال لنا إلاّ هذا المكان وقد أخلياه لنا. عندها عرف الزائر مغزى سؤال المقدّس فاعتذر من إطالة جلوسه وقام وإنصرف وهو معجب بزهد المقدّس وورعه. ولمّا رجع الزائر إلى إيران، وزاره الملك، سأله: هل أتيت من العراق بهديّة؟
قال: نعم وأعظم الهدايا، ثمّ ذكر للملك ما شاهده من المقدّس الكاظمي من زهد وورع، فتأثّر الملك بذلك تأثّراً كبيراً وأمر بمال كثير للمقدّس الكاظمي، فجيء بالمال مع مبعوثين من قبل الملك إلى الكاظميّة، ولمّا وصل مبعوث الملك إلى الكاظمية زارهما الأعيان والأشراف بإستثناء المقدّس الكاظمي، فكلّما ألِحّ عليه بأن يزورهما لم يقبل، حتّى اضطرّا مبعوثا الملك أن يزوراه بأنفسهما، فأقبلا إلى دار المقدّس وزاراه بأنفسهما، وقصّا عليه قصّتيهما وإرسال الملك المال معهما إليه على أثر ما جرى بين المقدّس الكاظمي وبين زائره، حيث قد قصّ الزائر ذلك على الملك وأطلعه عليه. فلمّا سمع المقدّس الكاظمي مقالتهما أجهش بالبكاء وإعتذر من قبول المال المبعوث إليه وأصرّ على ذلك حتّى يأس مبعوثا الملك من قبوله وأرجعا المال إلى إيران. وبعد ذلك قيل للمقدّس الكاظمي: ممّ كان بكاؤك؟ قال: من جهة علمي بأنّ ماجرى بيني وبين زائري قد صار سبباً لأن يذكر اسمي في ديوان الظالمين. بين سلوكين من المعروف: انه لما توفي صاحب الجواهر قدس سره انتقلت الرئاسة العامة بعده إلى الشيخ الأنصاري قدس سره وكان الشيخ الأنصاري قدس سره يسلك سلوك الزهد في الدنيا، بينما كان صاحب الجواهر قدس سره يسلك سلوك الرؤساء والملوك. فجاء شخص إلى الشيخالأنصاري قدس سره وقال: أيّها الشيخ إن كان مسلككم حقّاً، فإنّ صاحب الجواهر على باطل، وإن كان مسلك صاحب الجواهر حقاً، فإنّ مسلككم على باطل، فأيّهما حقّ وأيهما باطل؟ أجاب الشيخ قائلاً: ليس الأمر كما زعمت محصوراً في الشقّين، بل هناك شقّ ثالث: وهو انه يمكن أن يكون كلاهما حقّاً، فصاحب الجواهر كان يعكس بسلوكه عظمة الإسلام وشوكته، وأنا أعكس بسلوكي زهد الإسلام ويسره، وحيث انّ للإسلام جوانب متعدّدة، كان كل واحد منّا يسلك جانباً منه.
ثم انه بعد أن نقل لي أحد الأعلام هذه القصّة الموحية أُردفِ قائلاً: انّ الأمر كما قال الشيخ، والدليل على ذلك: ما روي انّ شخصاً جاء إلى دار الإمام الحسن عليه السلام فرآها غاصّة بالضيوف وهم على موائد وفيها ألوان الأطعمة، ثم ذهب إلى دار الإمام الحسين عليه السلام فرآه وأصحابه صائمين يتلون القرآن، فسئل من الإمام الحسين عليه السلام عن سبب اختلافه مع أخيه الإمام الحسن عليه السلام في أسلوبه؟ فأجاب عليه السلام بما مضمونه: انّ أخي الإمام الحسن أخذ بالجانب الاجتماعي في الدين، وإنّما أخذت بالجانب العبادي في الدين.