الحاجة الى الانبياء كمشرعين
مباحث النبوة العامة
اذا أدركنا الحاجة الى الانبياء من حيث التربية و التعليم. ندرك دور القوانين الاجتماعية والدور المهم الذي يضطلع به الانبياء بهذا الشأن. إننا نعلم أنَّ أهم سمة تتسم بها حياة الانسان، والتي تعدّ أهم عامل في تقدم الانسان وانجازاته في مختلف أدوار حياته، هي الحياة الاجتماعية.
عدد الزوار: 205
اذا أدركنا الحاجة الى الانبياء من حيث "التربية" و"التعليم". ندرك دور القوانين الاجتماعية والدور المهم الذي يضطلع به الانبياء بهذا الشأن.
إننا نعلم أنَّ أهم سمة تتسم بها حياة الانسان، والتي تعدّ أهم عامل في تقدم الانسان وانجازاته في مختلف أدوار حياته، هي الحياة الاجتماعية.
لو أنَّ الانسان بقي يعيش منفصلاً عن إخوته لكان الآن باقيا على مستواه الفكري والحضاري المنحط الذي كان عليه انسان العصر الحجري.
نعم، إنَّ المحاولات والمساعي الجماعية هي التي أوقدت مشعل الثقاقة والحضارة، وهي التي كانت الدّافع الى بلوغ كل هذه الاكتشافات والاختراعات العلمية.
خُذ مثلاً الوصول الى القمر، تجد أنَّ هذا الانجاز كان حصيلة عمل عدد من العلماء، بل الآلاف منهم تضافرت جهودهم على مدى مئات السنين في البحث والتجربة. وما كان هذا ليتم لولا الحياة الاجتماعية التي تراكمت فيها الخبرات والمعارف حتى حققت هذا الانجاز العظيم.
إذا نجح طبيب حاذق في عصرنا في زرع قلب انسان ميت في صدر انسان حي ذى قلب مريض، فانقذه من موت محقق، فإنّه يكون مديناً بنجاحه الى آلاف التجارب السابقة التي أجراها آلاف الاطباء والجراحين انتقلت على امتداد التاريخ من طبيب الى طبيب حتى وصلت اليه.
غير أنَّ للحياة الاجتماعية مشكلاتها الى جانب محاسنها الكثيرة، كتضارب المصالح والرّغبات والحقوق، ممّا يؤدي أحياناً الى إندلاع نيران المصادمات الدموية والحروب الطاحنة.
هنا تظهر حاجتنا الى القوانين والتعليمات الواضحة التي تحل لنا ثلاث مشكلات كبيرة:
1- القانون يحدد واجبات كل فرد نحو المجتمع، وواجبات المجتمع نحو الافراد، بحيث تنفتح المواهب ضمن مساع متعاونة.
2- القانون يمهد طريق الإشراف على حسن اداء الافراد واجباتهم.
3- القانون يحول دون قيام الافراد بالاعتداء على حقوق الآخرين، ويمنع انتشار الفوضى والتّضارب بين الافراد والجماعات، ويقرر العقوبات المناسبة على المعتدين.
من هو خير المشّرعين؟
في هذه الحالة يتعين علينا أنَّ نعرف من هو أفضل شخص يستطيع أنْ يسنّ القوانين التي تتطلبها حياة البشر الاجتماعية، بحيث تتحقق فيها المبادى الثلاثة المذكورة: بيان الحقوق والواجبات للفرد والمجتمع والاشراف السليم على تنفيذ القوانين، ووقف عدوان المعتدين.
ولنضرب هنا مثلاً بسيطاً: يمكن أنْ نشبه المجتمع البشري بقطار كبير، والهيئة الحاكمة بماكنة القطار التي تقود القطار في مسيره، والقانون بمثابة السكة الحديدية التي تعين الخط الذي يجب أن يسير عليه القطار كي يصل الى غايته، ماراً بالمنعطفات والمرتفعات والمنخفضات والجبال والوديان.
لا شك أنَّ السّكة الحديدية الجيدة يجب أنْ تتوفر فيها الاُمور التّالية:
الارض التي تمتد عليها السّكة يجب أنْ تكون صلبة تتحمل أقصى ضغط يمكن أنْ يسلط عليها. الفاصلة بين الخطين يجب أنْ تكون متساوية على امتدادهما بدقّة متناهية بحيث تساوي الفاصلة بين عجلات القطار.
كما أنَّ جدران الانفاق وارتفاعاتها يجب أن تناسب القطار الذى يمرّ بها.
الارتفاعات والانحدارات يجب أن لا تكون حادة الى درجة لا تستطيع معهما الماكنة من سحب القطار، أو ايقافه عند اللزوم.
ثمّ هناك إحتمالات الانهيارات الجبلية وتهاوي حافّات الوديان التي يمرّ بها القطار، وكذلك السيول والثلوج الساقطة، يجب أنْ تؤخذ كلّها بالحسبان الدقيق لكي يستطيع القطار أن يواصل مسيرته في مختلف الظروف والحالات، وأن يصل هدفه بسلام.
نعود الى "المجتمع الانساني" لتطبيق هذا المثال عليه:
إنَّ المشرّع الذى يريد أن يضع خير القوانين للبشر يجب أنْ تتوافر فيه الشروط التالية:
1- أنْ يكون عارفاً معرفة تامّة بالبشر، بغرائزهم، وعواطفهم، وحاجاتهم، ومشكلاتهم وكل ما يتعلق بهم.
2- أنْ يأخذ بنظر الاعتبار جميع مؤهلات الناس واستعداداتهم ومواهبهم لكي يستخدم القوانين في سبيل تفتحها وازدهارها.
3- أنْ يكون قادراً على التنبؤ بما يمكن أنْ يقع في المجتمع من حوادث وطرق مواجهتها على أفضل وجه.
4- أنْ لا تكون له أية مصالح شخصية ولا لأيّ من أقربائه والمختصين به.
5- أنْ يكون عارفاً بكلّ ما حققه الانسان في تقدمه، وما أصابه من احباط واخفاق.
6- أنْ يكون في أقصى درجة من العصمة ضد الخطأ والنسيان.
7- وأخيراً، على هذا المُشرِّع أن يكون شجاعاً وجريئاً، فلا ترهبه أية قوّة ولا شخصية في المجتمع، ولايخشى أحداً أبداً، على أنْ يكون، في الوقت نفسه، على قدر كبير من المحبّة والعطف.
من الذي تتوفر فيه هذه الشّروط؟
هل يكون الإنسان أفضل مشرّع؟
أهناك من عرف الإنسان حتى الآن معرفة تامَّة؟
هل عرفت نفسية الإنسان وغرائزه وميوله و عواطفه معرفة تامَّة حتى الآن؟
هل يمكن العثور بين الناس على شخص لا تكون له مصالح خاصّة في المجتمع؟
أهناك بين الناس العاديين إنسان يكون مصوناً من كل خطأ ونسيان، وله. معرفة تامّة بجميع مشكلات المجتمع البشري وأفرادة؟
إذن، لن تجد بين الناس العاديين من تتوفر فيه الشروط المطلوبة، لذلك ليس سوى الله، ومن اختاره لتلقّي وحيه، يمكنه أنْ يكون أفضل مشرّع للبشرية.
وهكذا نصل الى هذه النّتيجة: إنَّ الله الذي خلق البشر ليسيروا في طريق التكامل، لابدّ أنْ يبعث اُناساً يأمرهم بهداية البشر نحو الله و يبيّن لهم شريعة السّماء الالهية الجامعة والشاملة.
ولا ريب أنَّ الناس إذا علموا أنَّ الشريعة التي بين أيديهم نازلة من الله، فانهم يطبقونها بكل ثقة واطمئنان، أي أنَّ علمهم بذلك يضمن تطبيق القوانين بصورة جيدة.
العلاقة بين التّوحيد والنّبوّة
هنا ينبغي أنْ نلتفت الى هذه النقطة، وهي أنَّ نظام الخلق نفسه خير شاهد حي على ضرورة وجود الانبياء ورسالاتهم الالهية.
وذلك لان نظرة واحدة الى نظام الخليقة العجيب تدلّنا على أنَّ الله تعالى لم يغفل بلطفه عن تأمين أي حاجة من حاجات الانسان، فهو عندما خلق العين لكي ننظر بها، خلق معها الأجفان والأهداب للحفاظ عليها ولتنظيم سقوط الضوء عليها. وخلق في زوايا العين غُدداً تفرز الدّموع لكي يبقى سطحها رطباً دائماً، إذ أنَّ جفافها يذهب بها. وفضلاً عن ذلك خلق في العين نافذة صغيرة تسيل خلالها الدّموع الزائدة الى الأنف، ولولا هذه النافذة، الصغيرة لاستمرت الدّموع تسيل على وجوهنا.
ويمنح بؤبؤ العين من الحساسية الشديدة بحيث أنَّه يتأثر بشدّة الضوء وضعفه فيضيق ويتسع تبعاً لذلك بصورة لا إرادية لكيلا يصيب العين ضرر من جراء شدة الضوء. وفي اطراف كرة العين عضلات مختلفة تسهل عليها الدوران الى الجهات المختلفة بغير حاجة الى إدارة الرأس والجسم.
فهل الله الذي لا يغفل عن حاجات الانسان الدّقيقة هذه يمكن أنْ يحرم الانسان من هاد وقائد موثوق به ومعصوم من الخطأ ويأتمر بأوامر الله ووحيه؟
يقول الفيلسوف المعروف ابن سينا في كتابه "الشّفاء" المشهور: "لاشك أنَّ حاجة الانسان الى ارسال الانبياء اليهم لبقاء النوع ولبلوغ الكمالات أشدُّ ضرورة من نمو الأهداب والحواجب وتقعر باطن القدم وامثالها، وذلك لأنَّه ليس من الممكن أن يوجب الله سبحانه وتعالى تلك الاُمور ولا يوجب هذا الامر".
*سلسلة دروس في العقائد الاسلامية،آية الله مكارم الشيرازي . مؤسسة البعثة،ط2 ، ص74-80