مذهب الصَّرْفة
القرآن معجزة النبي (ص)
اهتمّ المسلمون من الصدر الأول بالبحث عن وجه إعجاز القرآن، وكان الرأي السائد بينهم في إعجازه هو كونه في الطبقة العليا من الفصاحة، والدرجة القُصْوى من البلاغة، مع ماله من النَّظم الفريد، والأسلوب البديع. وهذه الأُمور الأربعة أضْفَتْ على القرآن وصف الإعجاز حتى صار معجزة القرون والأعصار.
عدد الزوار: 115
اهتمّ المسلمون من الصدر الأول بالبحث عن وجه إعجاز القرآن، وكان الرأي السائد بينهم في إعجازه هو كونه في الطبقة العليا من الفصاحة، والدرجة القُصْوى من البلاغة، مع ماله من النَّظم الفريد، والأسلوب البديع. وهذه الأُمور الأربعة أضْفَتْ على القرآن وصف الإعجاز حتى صار معجزة القرون والأعصار.
نعم نَجَم في القرن الثالث مذهب اشتهر بمذهب الصَّرْفة، وإليه ذهب جماعة من المتكلمين، وهو يقوم على أساس أنّ العرب لم يقدروا على الإتيان بمثل القرآن، لا لإعجازه بحدّ ذاته، وأنّ القرآن بلغ في فرط الفصاحة والبلاغة، وروعة النظم وبداعة الأُسلوب شأواً لا تبلغه الطاقة البشرية، بل لأجل أنّه سبحانه صرَفَ بُلَغَاء العرب وفصحاءَهم عن المعارضة بطريق من الطُرق الآتي ذكرها.
وقد حُكي هذا المذهب عن أبي إسحاق النَّظام، وهو أقدم من نسب إليه هذا القول. وتبعه أبو إسحاق النصيبي، وعبّاد بن سليمان الصَّيمري، وهشام بن عمرو الفوطي، وغيرهم.
واختاره من الإمامية الشيخ المفيد (ت 338 ـ م 413 هـ) في أوائل القالات، وإن حُكي عنه غيره. والسيد المرتضى (ت 355 ـ م 436 هـ) في رسالته الخاصة بهذا الموضوع الّتي أسماها بـ"الموضح عن جهة إعجاز القرآن". والشيخ الطوسي (ت 385 ـ م 460) في شرحه لجمل السيد، وإن رجع عنه في كتابه "الاقتصاد". وابن سنان الخفاجي (م 464 هـ) في كتابه "سِرّ الفصاحة".
ولما كان هذا المذهب قد أحاط به الإبهام، واضطربت في تفسيره الأذهان، فأقرب ما يمكن اعتماده في الوَقوف على حقيقته، الرجوع إلى نفس عبارات المتمسكين به.
حقيقة الصَّرْفَة
إنّ القائلين بأنّ القرآن معجزة من حيث الفصاحة، والبلاغة، وروعة النظم وجماله، وبداعة الأُسلوب والسَّبك، يقولون بأنّ القرآن وصل من فرط كمالِهِ فيها إلى حدّ تقصر القدرة البشرية عن الإتيان بمثله، من غير فرق بين السابقين على البِعثة واللاحقين عليها.
وأمّا القائلون بمذهب الصَّرْفة، فإنهم يعترفون بفصاحة القرآن وبلاغته، وروعة نظمه وبداعة أُسلوبه، لكنهم لا يرونه على حدّ الإعجاز، بل يقولون: ليس الإتيان بمثله خارجاً عن طوق القدرة البشرية، فهي كافية في مقام المعارضة، وإنّما العجز والهزيمة في حلبة المبارزة لأمر آخر، وهو حيلولته سبحانه بينهم وبين الإتيان بمثله.
وبعبارة أخرى: إنّ القائلين بكون إعجاز القرآن من جهة فصاحته وبلاغته ونظمه وأُسلوبه، يقولون إنّ الإعجاز إنّما يتعلق بأمر ممكن بالذات، لأنّه لو كان محالاً بالذات كاجتماع النقيضين وارتفاعهما فلا تتعلق به القدرة مطلقاً، سواء أكانت قدرة إلهية أو قدرة بشرية. وعلى ضوء ذلك، فالإتيان بكتاب مثل القرآن، أمر ممكن بالذات، وليس امراً محالاً بالذات، غير أنّه لا تكفي لذلك القدرة البشرية العادية. فإلإتيان بمثله محال عادي، لا تزول استحالته إلاّ أن يتجهّز الآتي بمثله بقدرة فوق القدرة العادية.
وأمّا القائلون بالصرفة، فيقولون إنّ معارضة القرآن والإتيان بمثله ليس محالاً عادياً حتى يحتاج فيه وراء القدرة العادية إلى قدرة خارقة. ولأجل ذلك كان يوجد في كلام السابقين على البعثة من فُصَحاء العرب وبُلَغائهم، ما يضاهي القرآن في تأليفه، غير أنّه سبحانه لأجل إثبات التحدّي، حال بين فصحاء العرب وبلغائهم، وبين الإتيان بمثله بأحد الأمور الثلاثة التالية:
1ـ صَرْف دواعيهم وهممهم عن القيام بالمعارضة، فكلّما هموا بها وجدوا في أنفسهم صارفاً ودافعاً يصرفهم عن منازلته في حلبة المعارضة. ولم يكن ذلك لعدم قدرتهم على الإنصداع لهذا الأمر، بل إنّ المقتضي فيهم كان تامّاً غير أنّ الدواعي والهمم صارت مصروفة عن الإلتفات إلى هذا الأمر، بصرف الله سبحانه قلوبهم عنه، ولولا ذلك لأتوا بمثله.
2ـ سَلْبُهُمْ سبحانه العلومَ الّتي كانت العرب مالكة لها، ومتجهزة بها، وكانت كافية في مقابلة القرآن. ولولا هذا السلب وكان وضع العرب حال البعثة كوضعهم بعدهالأتوا بمثله.
3ـ أَنَّهم كانوا قادرين على المعارضة، ومجهزين بالعلوم الوافية بها، مع توفّر دواعي المعارضة وعدم صرف هَمِهم عنها، ولم يمنعهم عنها إِلاَّ إلجاؤه تعالى، فتقهقروا في حلبة المعارضة لغلبة القوة الإلهية على قواهم. وهذا نظير من يريد أن يتحرّك نحو المطلوب، فيحال بينه وبين مقصده بقاهر يصدُّه عن التقدم.
وفي خلال عبارات أصحاب هذا القول، إيماءات إلى هذه الوجوه المختلفة2، الّتي يجمعها قدرة العرب على معارضة القرآن.
1ـ قال النظام: "الآية والأُعجوبة في القرآن ما فيه من الإخبار عن الغيوب، فأمّا التأليف والنَّظم، فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أنّ الله منعهم بمنع وعجز أَحدثهما فيهم"3.
وقال أيضاً في إعجاز القرآن: "وإنّه من حيث الإخبار عن الأُمور الماضية ومنع العرب عن الإهتمام به جبراً وتعجيزاً، حتى لو خلاّهم لكانوا قادرين على أن يأتوا بسورة من مثله، بلاغةً وفصاحةً ونظماً"4.
2ـ وقال أبو الحسن علي بن عيسى الرماني (ت 296 ـ م 386 هـ): "أمّا الصَّرْفة فهي صرف الهمم عن المعارضة، وعلى ذلك كان يعتمد بعض أَهل العلم في أنّ القرآن معجز من جهة صرف الهمم عن المعارضة، وذلك خارج عن العادة، كخروج سائر المعجزات الّتي دلّت على النبوة، وهذا عندنا أحد وجوه الإعجاز الّتي يظهر منها للعقول"5.
3 ـ وقال أبو سليمان حمد بن محمد إبراهيم الخطابي (ت 319 ـ م 388 هـ): "وذهب قوم إلى أنّ العلّة في إعجازه الصرفة أي صرف الهِمَم عن المعارضة، وإن كانت مقدوراً عليها، غير معجوز عنها، إلاّ أنّ العائق من حيث كان أمراً خارجاً عن مجاري العادات، صار كسائر المعجزات فقالوا: ولو كان الله عز وجل بعث نبياً في زمان النبوات، وجعل معجزته في تحريك يده أو مَدّ رجله في وقت قعوده بين ظهراني قومه، ثم قيل له ما آيتك فقال آيتي أن أُخرج يدي أو أَمُدّ رجلي ولا يمكن أحداً منكم أن يفعل مثل فعلي، والقوم أصحاء الأبدان، لا آفة بشيء من جوارحهم، فحرّك يده أو مدّ رجله فراموا أن يفعلوا مثل فعله، فلم يقدروا عليه، كان ذلك آيةٌ دالّة على صدقه. وليس ينظر في المعجزة إلى عظم حجم ما يأتي به النبي، ولا إلى فخامة منظره، وإنّما تعتبر صحتها خارجاً عن مجرى العادات ناقضاً لها، فمهما كانت بهذا الوصف، كانت آية دالّة على صدق من جاء بها. وهذا أيضاً وجه قريب"6.
4 ـ وقال الشيخ المفيد في جهة إعجاز القرآن: "إنّ جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثله في النظام عند تحدّيه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله ـ وإن كان في مقدورهم دليلاً على نبوته. واللُّطف من الله تعالى مستمر في الصرف عنه إلى آخر الزمان. وهذا أوضح برهان في الإعجاز، وأعجب بيان. وهو مذهب النظّام، وخالف فيه جمهور أهل الإعتزال"7 هذا.
وقد نقل القُطب الراوندي (م 573 هـ) في كتاب "الخرائج"، قولاً آخر للشيخ المفيد، ولا نعلم أَياً من الرأيين هو المتقدم. قال في بيان وجوه إعجاز القرآن: "ما ذهب إليه الشيخ المفيد، وهو أنّه إنّما كان معجزاً من حيث اختصّ برتبة في الفصاحة خارقة للعادة، قال: لأنّ مراتب الفصاحة إنّما تتفاوت بحسب العلوم الّتي يفعلها الله في العباد، فلا يمتنع أن يجري الله العادة بقدر من المعلوم، فيقع التمكين بها من مراتب في الفصاحة محصورة متناهية، ويكون ما زاد على ذلك غير معتادة معجزاً خارقاً للعادة"8.
5ـ وقال السيد المرتضى: "إنّ تعالى سلب العرب العلوم الّتي كانت تتأتّى منهم بها الفصاحة الّتي هي مثل القرآن متى راموا المعارضة، ولو لم يسلبهم ذلك لكان يتأتى منهم"9.
6ـ قال الشيخ تقي الدين أبي الصلاح الحلبي (ت 374 ـ م 447 هـ) بعد استعراضه الوجوه المحتملة لإعجاز القرآن: "وإذا بطلت سائر الوجوه، ثبت أنّ جهة الإعجاز كونهم مصروفين". ثم قال: "معنى الصرف هو نفي العلوم بأضدادها أو قطع إيجادها في حال تعاطي المعارضة الّتي لولا انتفاؤها لصحّت المعارضة، وهذا الضرب مختصّ بالفصاحة والنّظم معاً، لأنّ التحدي واقع بهما، وعن الجميع بينهما كان الصرَّف"10.
7ـ وقال الشيخ الطوسي: "القرآن معجز سواء كان معجزاً خارقاً للعادة بفصاحته فلذلك لم يعارضوه، أو لأنّ الله تعالى صرفهم عن معارضته، ولولا الصرف لعارضوه".
وقال: "إنّ التحدّي إنّما وقع لعجزهم عن معارضته في المستقبل، لا لأنّه ليس في كلامهم مثله، ولو كان في كلامهم مثله لكان ترك المعارضة أبلغ وأعظم في باب العجز".
وقال: "إنّ القائلين بالصَّرفة يقولون إنّ مثل ذلك كان في كلامهم وخطبهم، وإنّما صُرفوا عن معارضته في المستقبل، فلا معنى لكونه أفْصح"11.
وقال: "وأما قولُهم إنّه كان في كلامهم ما هو مثل القرآن، فلا يتوجه على أصحاب الصرفة لأنّهم يسلمون ذلك، لكنهم يقولون إنّهم منعوا من مثله في المستقبل فلا ينفع بأن ذلك فيما مضى منهم موجود، بل ذلك يؤكّد الحجة عليهم"12.
وقال: "إنّ من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بالفصاحة والبلاغة، وإنّما يقول هذه المزية ليست ممّا تخرق العادة ويبلغ حدّ الإعجاز. فليس في طرب الفصحاء وشهادتهم بفصاحة القرآن وفرط براعته، ما يوجب بطلان القول بالصرفة"13.
وقد كان الشيخ الطوسي قائلاً بالصرفة، ولكنه عدل عنه بعد ذلك، كما يعترف به هو نفسه في كتابه "الإقتصاد"، قال: "وأقوى الأقوال عندي قول من قال إنّما كان معجزاً خارقاً للعادة لاختصاصه بالفصاحة المفرطة في هذا النظم المخصوص، دون الفصاحة بإنفرادها، ودون النظم بانفراده، ودون الصرفة. وإن كُنْتُ نصرتُ في شرح الجمل القولَ بالصَّرْفة على ما كان يذهب إليه المرتضى ـ رحمه الله ـ ، من حيث شرحت كتابه فلم يحسن خلاف مذهبه"14.
8ـ وقال ابن سنان الخفاجي: "إذا عدنا إلى التحقيق وجدنا إعجاز القرآن، صرف العرب عن معارضته، بأن سلبوا العلوم الّتي بها كانوا يتمكنون من المعارضة في وقت مرامهم ذلك".
ثم قال: "إنّ الصحيح أنّ إعجاز القرآن هو صرف العرب عن معارضته، وأنّ فصاحته كانت في مقدورهم لولا الصرف".
وقال في موضع آخر: "متى رجع الإنسان إلى نفسه، وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار، وجد في كلام العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه"15.
9ـ وبسط ابن حزم (م 548 هـ) الكلام في إعجاز القرآن، وذكر لإعجازه خمسة وجوه وردّها، وممّا قاله:
"والنحو الرابع: ما قالت طائفة: وجهُ إعجازه، كونه في أعلى مراتب البلاغة. وقالت طوائف إنّما وجه إعجازه أنّ الله منع الخلق من القدرة على معارضته.
فأمّا الطائفة الّتي قالت إنّما إعجازه لأنّه في أعلى دَرْج البلاغة، فإنّهم شغبوا في ذلك بأن ذكروا آيات منه مثل قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فيِ القَصاصِ حياةٌ﴾(البقرة:179).
وَمَوّهَ بعضهم بأن قال: "لو كان كما تقولون من أنّ الله تعالى منع من معارضته فقط، لوجب أن يكون أغثّ ما يمكن أن يكون من الكلام، فكانت تكون الحجة بذلك أبلغ".
ثم ردّ على هذين الدليلين بوجه تافه غير قابل للنقل، وقال في آخر كلامه: "فإنّها معجزة لا يقدر على المجيء بمثلها أبداً، لأنّ الله تعالى حال بين الناس وذلك"16.
10ـ قال المحقق الطوسي: "وإعجاز القرآن قيل: الفصاحة، وقيل: الأُسلوب وفصاحته معاً، وقيل: للصرفة، والكلُّ محتمل"17.
هذه حقيقة نظرية الصرفة، ذكرناها على وجه رفعنا عن وجهها الغشاوة والإبهام.
مناقشة نظرية الصَّرفة
إنّ نظرية الصرفة، نظرية قاصرة وسقيمة من جهات
أما أوّلاً: فلأنّه لو كان القرآن من حيث الفصاحة والبلاغة وروعة النظم وبداعة الأسلوب، غير بالغ حدّ الإعجاز، وكان العرب قبل البعثة متمكنين من إلقاء الخطب والأشعار على هذا النمط من الكلام، فيجب أن ينتشر ما يضاهي القرآن في البلاغة، والفصاحة بين أوساطهم وأندية شعرهم وأدبهم، ويكون مثله متوفراً بينهم، فعندئذ نسأل: أين هذه الخطّب والجمَل المضاهية للقرآن الكريم، الرائجة بينهم؟ وهل يمكن لأصحاب مذهب الصرفة إراءة نماذج منها؟! ونحن مع ما بذلنا من الفحص والتتبع عنها في مظانها من مجاميع الكتب الأدبية، لم نجد حتى النزر اليسير منها.
وثانياً: فإنّ مذهب الصرفة يبتني على حصول الحيلولة بين العرب والمقابلة، بعد البعثة، بما تقدم، لا قبلها، فعندئذ كان في وسع العرب القاء كلم وجمل وخطب مضاهية للقرآن الكريم من دون أن يتحملوا عبء المقابلة بإنشاء مثله، حتى يقال بأنّهم صرفوا عن المقابلة بسلب الهمم والعلوم والقدرة، لأنّ الإتيان بما هو دارج بين العرب لا يتوقف على مؤنة. إلاّ أن يقال إنّهم صرفت هممهم حتى عن هذا المقدار، وهو كما ترى.
وثالثاً: فلو كان العرب قبل البعثة قادرين على الإتيان بكلام يشبه القرآن ويضاهيه، فلماذا اندهش الوليد بن المغيرة عندما سمع آيات من سورة فصلت وقال: "لقد سمعت من محمد كلاماً لا يشبه كلام الإنس والجن"18. ولماذا ارتمى عتبة بن ربيعة مدهوشاً مبهوتاً ملقياً يديه وراء ظهره متكياً عليهما، مشدقاً بفيه مصعوقاً عندما سمع بعض آيات القرآن من النبي الصادع بالحق. فلو كانت فصاحة القرآن وبلاغته أو نظمه وأُسلوبه من حيث العذوبة والأناقة على نمط كلام الآخرين من فصحاء العرب وبلغائهم، فلم اهتزوا وتأثّروا بسماع آية أو آيات منه ولم تكن لهم هذه الحالة في سماع شعر امرئ القيس، ولا عنترة، ولا غيرهما من أصحاب المعلقات، ولا من سماع خطب قس بن ساعدة وسحبان بن وائل وغيرهما من أصحاب الخطب والكلام.
وإلى هذا الوجه يشير الإمام يحيى بن حمزة العلوي في نقد هذا المذهب، ويقول: "لو كان الوجه في إعجازه هو الصرفة كما زعموا، لما كانوا مستعظمين لفصاحة القرآن، فلمّا ظهر منهم التعجّب لبلاغته وحسن فصاحته، كما أثر عن الوليد بن المغيرة حيث قال: "إنّ أعلاه لمورق، وإنّ أسفله لَمُعْذِق، وإنّ له لطلاوة، وإنّ عليه لحلاوة"، فإنّ المعلوم من حال كل بليغ وفصيح سمع القرآن يتلى عليه فإنّه يدهش عقله ويحيّر لبّه، وما ذاك إلاّ لما قرع مسامعهم من لطيف التأليف وحسن موانع التصريف في كل موعظة، وحكاية كل قصة، فلو كان كما زعموه من الصرفة، لكان العُجب من غير ذلك، ولهذا فإنّ نبيّاً لو قال: إنّ معجزتي أن أضع هذه الرمانة في كفي. وأنتم لا تقدرون على ذلك، لم يكن تعجّب القوم من وضع الرمانة في كفه، بل كان من اجل تعذّره عليهم، مع أنّه كان مألوفاً لهم، ومقدوراً عليه من جهتهم. فلو كان كما زعمه أهل الصرفة، لم يكن للتعجّب من فصاحته وجه. فلمّا علمنا بالضرورة إعجابهم بالبلاغة، دلّ على فساد هذه المقالة"19.
وما أجاب به الشيخ الطوسي عن هذا الدليل بأنّ من قال بالصرفة لا ينكر مزية القرآن على غيره بالفصاحة والبلاغة، وإنّما يقول هذه المزية ليست ممّا تخرق العادة ويبلغ حدّ الإعجاز، فليس في طرب الفصحاء وشهادتهم بفصاحة القرآن وفرط براعته ما يوجب بطلان القول بالصرفة20، غير تام، إذ لو كان مثل القرآن متوفراً في الأوساط الأدبية قبل البعثة، لما كان لهذا الطرب والإهتزاز والإنبهار والتضعضع، وجه وجيه، لأنّ المفروض أنّ القرائح العربية لم تكن قاصرة قبل البعثة عن إبداع أمثاله، وسمعت آذانهم كثيراً من هذا النمط من الكلام وإن قصرت من بعد. ولو كانت قرائحهم قادرة قبل البعثة على إنشاء كلام مثل القرآن، فلماذا جمع الوليد صناديد قريش وقال لهم: "إنّ العرب يأتونكم فينطلقون من عندكم على أمر مختلف، فأجمعوا أمركم على شيء واحد، ما تقولون في هذا الرجل؟ الخ21.فلو كانت قرائحهم كافية قبل صرف هَمِمِهم، أو سلب علومهم، أو الجائهم على الإنقباض في مقام معارضته لكان الجواب عن قرآن الرجل واضحاً، وهو أنّه كلام عادي ما أكثره بيننا، وأكثر مثله في كلام خطباء العرب وشعرائهم.
ورابعاً: فإنّ القول بالصرفة نجم من الإغترار بما روي من رشيق الكلمات، وبليغ العبارات، عن العرب، فزعم هؤلاء أن كل من قدر على تلك الأساليب البلاغية، يقدر على المعارضة، إلاّ أنّه سبحانه عرقلهم عنها وثبّطهم فيها.
ولكن أين الثرى من الثريا، وأين المدر من الدُرَر، وليس إعجاز القرآن رهن العذوبة والأناقة فقط، وإنّما هو رهن حلاوة ألفاضه وسمو معانيه، ورصانة نظمه على وجه لو غُيِّرت كلمة أو جملة منه، لم يكن أن يؤتى بدلها بلفظة هي أوفق من تلك اللفظة وبداعة أسلوبه، مجتمعة. فهذه الأُمور بجملتها، أضفت على الكلام جمالاً رائعاً لا يجد الإنسان له مثيلاً في كلام مَنْ غَبَر وَسَبَقَ، أو تَبعَ وَلَحَق. فهو بنظمه العجيب، وأسلوبه الغريب، وملاحته وفصاحته الخاصة، ومعانيه العميقة، تحدّى الإنس والجن، ولأجل ذلك لم يجد العرب لإغراء البسطاء، إلاّ تفسيره بالسحر، لأنّه يأخذ بمجامع القلوب، كلما يأخذ السحر بها.
وخامساً: فإنّ المتبادر من آيات التحدّي أنّها تعرف القرآن بأنّه فوق قدرة الإنس والجن، وأنّه مصنوع لا تصل إليه يد المخلوق، وهذا لا يجتمع مع مذهب الصرفة الّذي لا يضفي على القرآن ذاك الجمال الرائع الّذي يجعله متفوّقاً على القدرة البشرية، وإنّما يضعه في عداد كلام عامة الفصحاء والبلغاء، غاية الأمر أنّه سبحانه ـ كما همّت العرب بمباراته ـ صرف عنهم الهمة والقوة ومنعهم من الإتيان بما اقترحه عليهم.
وبعبارة أخرى: إنّ المتبادر من ظواهر الآيات، أنّ القرآن في ذاته متعال، حائز أرقى الميزات، وكمال المعجزات، حتى يصحّ أن يقال في حقّه بأنّه لو اجتمع الجن والإنس الخ..
يقول الخطابي بأنّ قوله سبحانه: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجنُّ﴾(الإسراء:88) الآية، يشهد بخلاف هذه النظرية، لأنّها تشير إلى أمْر، طريقُهُ التكَلّف والإجتهاد، وسبيله التأهّب والإحتشاد، وما فُسِّرت به الصرفة لا يلائم هذه الصفة22.
وسادساً: فلو كان وجه الإعجاز في نكتة الصرفة، لكفى في ذلك أن يكون القرآن كلاماً مبذولاً ومرذولاً للغاية، وركيكاً حدّ النهاية، لكن كلّما أراد سفلة الناس وأوباشهم، الذين يقدرون على صنع مثل تلك الكلم، الإتيان بمثله، حال سبحانه بينهم وبين مباراته. وهو كما ترى، لا يتفوّه به من له إلمام بهذه المباحث.
وسابعاً: فلو كان عجز العرب عن المقابلة، لِطاريء مباغت أبطل قواهم البيانية، لأُثر عنهم أَنَّهم حاولوا المعارضة ففوجئوا بما ليس في حسبانهم، وَلَكان ذلك مثار عجب لهم، ولأعلنوا ذلك في الناس، ليلتمسوا العُذْر لأنفسهم وليقللوا من شأن القرآن في ذاته23.
وقد أشار إلى هذا الوجه علي بن عيسى الرماني في نكت الإعجاز، كما أشار إليه الإمام يحيى بن حمزة العلوي، قال: "إنّهم لو صُرفوا عن المعارضة مع تمكنهم منها، لوجب أن يَعْلَموا ذلك من أنفسهم بالضرورة، وأنْ يُميزوا بين أوقات المنع والتخلية. ولو علموا ذلك، لوجب أن يتذاكروا في حال هذا المعجز على جهة التعجّب. ولو تذاكروه، لظهر وانتشر على حدّ التواتر. فلمّا لم يكن ذلك، دّلّ على بطلان مذهبهم في الصرفة"24.
وثامناً: فإنّ القول بالصرفة، يستلزم القول بأن العرب قد تراجعت حالها في الفصاحة والبلاغة،، وفي جودة النظم وشرف الأسلوب وأن يكونوا قد نقصوا في قرائحهم وأذهانهم، وعدموا الكثير ممّا كانوا يستطيعون، وأن تكون أشعارهم الّتي قالوها، والخطب الّتي قاموا بها من بعد أن أوحى الله إلى النبي، قاصرةً عمّا سمع منهم من قبل ذلك، القصور الشديد، وأن يكون قد ضاق عليهم في الجملة مجال كان يتسع لهم، ونضبت عنهم موارد قد كانت تغزر، وخذلتهم قوى كانوا يصولون بها، وأن تكون أشعار شعراء النبي الّتي قالوها، في مدحه عليه السَّلام، وفي الردّ على المشركين، ناقصة متقاصرة عن شعرهم في الجاهلية، وأن يكون شعر حسان بعد الإسلام دون شعره قبله، والكل كما ترى.
وتاسعاً: فإنّ الظاهر من مذهب الصرفة أنّ النقصان حدث فيهم من غير أن يشعروا به، ولازمه أن لا تتم الحُجَّة عليهم، لأنّهم وإن عدموا فضلهم في مجال الفصاحة والبلاغة، لكنهم غير شاعرين بهذا النقصان. وإذا كانوا لا يعلمون أنّ كلامهم الّذي يتكلمون به بعد التحدّي، قاصرّ عن الّذي تكلموا به أمس، إستحال أن يعلموا أنّ لنظم القرآن فضلاً على كلامهم الّذي يسمع منهم. وإذا لم يتصوروا للقرآن تلك المزية، كان كلاُمُهم بعد التحدّي عندهم مساوياً للقرآن. فلازم ذلك أن يعتقدوا أنّ في جمله ما يقولونه في الوقت ويقدرون عليه، ما يشبه القرآن ويوازيه، فعندئذ لا تتم الحُجَّة عليهم، إذْ لهم أن يقولوا بأنّ أشعارنا وخطبنا لا تقصر عن قرآنك، لأنّ المفروض أنّهم غير واقفين على نزول كلامهم عن الذروة والقمة السالفة، ومتصورين أنّه بعد التحدي كما كان قبله. ومن كانت له هذه الحالة، لا يتصور للقرآن مزية.
وعاشراً: فإنّ القائل بدخول النقصان على قرائح العرب، إمّا أن يستثني النبي من ذلك، أوْ لا. فعلى الأَوّل يجب أن يقول بأنّ النبيّ عندما كان يتلو عليهم قوله تعالى: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرا﴾(الإسراء:88) كان يستطيع أن يأتي بمثل القرآن، ويقدر عليه.
وعلى الثاني يلزم أنّ النبوة صارت وسيلة لنقصان مرتبة النبي في حلبة الفصاحة والبلاغة، اللهم إلاّ أن يقولوا بأنّ النبي كان دونهم في الفصاحة والبلاغة قبل التحدي، مع أنّ الأخبار تحكي عن أنّه كان أفصح العرب25.
ولأجل وَهْن هذه النظرية، صار السائد بين المسلمين عامّة، وأكابر الشيعة خاصة، كون القرآن معجزاً من حيث الفصاحة المفرطة والبلاغة السامية، والنَّظم المخصوص، والأسلوب البديع، الّذي جعله "مجتمعاً" كلاماً خارقاً للعادة. وزيادة في إيضاح الحال نورد ما ذكره الشيخ الطبرسي (ت 471 ـ م 548 هـ) في تفسير قوله سبحانه: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيرا﴾(الإسراء:88)، قال: "المراد أنّه لئِن اجتمعت الجن والإنس متعاونين، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في فصاحته وبلاغته ونظمه على الوجوه الّتي هو عليها من كونه في الطبقة العُليا من البلاغة، والدرجة القُصوى من حسن النظم، وجودة المعاني وتهذيب العبارة، والخلو من التناقض، واللفظ المسخوط، والمعنى المدخول على حدّ يشكل على السامعين ما بينهما من التفاوت، لعجزوا عن ذلك، ولم يأتوا بمثله (وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً)، أي معيناً على ذلك مثلما يتعاون الشعراء على بيت شعر"26.
وقال العلامة الحلّي في كشف المراد: "امّا إعجاز القرآن، فقد تحدّى به فصحاء العرب بقوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله)، (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات)، (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً). والتحدي مع امتناعهم عن الإتيان بمثله، مع توفّر الدواعي عليه، إظهاراً لفضلهم، وإبطالاً لدعواه، وسلامة من القتل، يدلّ على عجزهم وعدم قدرتهم على المعارضة"27.
وعلى أيّ حال، فإنّ القائلين بالصرفة، وإن كانوا من أعلام العلماء، لكن الحق لا يعرف بالرجال، وإنّما يعرف بسلامة الإستدلال، وقد خَفَّت هذه النظرية في ميزان النَّصَفة والبرهنة، والحق أنّها ليست بنظرية قيّمة قابلة للإعتماد، وخلافاً صالحاً للإحتجاج.
وليس كلُّ خلاف جاءَ معتبراً إلاّ خلافٌ له حظٌ من النَّظَر
*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص337-350
1- التاء في الصرفة، تاء المصدرية الّتي تلحق كثيراً من المصادر مثل: الرحمة، والرأفة، وغيرهما.
2-. وقد أشار إلى هذه الوجوه الثلاثة الإمام يحيى بن حمزة العلوي في كتابه "الطراز"، ج 3، ص 391-395، ط مصر سنة 1332 هــ 1914 م.
3- نقله الأشعري في: "مقالات الإسلاميين" ج 1، ص 225. ولاحظ "الطراز"، ج 3، ص 391 ـ 395، ط مصر سنة 1332 هــ 1914 م.
4- نقله الشهرستاني في "المِلَل والنِحَلْ"، ج 1، ص 56-57.
5- النكَت في إعجاز القرآن، ص 101.
6- بيان إعجاز القرآن، للخطابي، ص 21. غير أنه يشير في ذيل كلامه إلى أنّ هذه النظرية يخالفها قوله سبحانه قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ... الآية. وسيوافيك نصّه عند نقد النظرية.
7- اوائل المقالات، ص 31.
8- البحار، 92، ص 127.
9- الإقتصاد، ص 172.
10- تقريب المعارف، ص 107، ط 1404هـ.
11- الإقتصاد، ص 166، وص 170، وص 171.
12- تمهيد الأصول في علم الكلام، ص 331.
13- المصدر السابق، ص 337 ـ 338، وهذا الكتاب شرح على كتاب "جُمَل العلم والعمل"، للسيد المرتضى، فإنّه يشتمل على قسمين: قسم يختص بالعقائد، وهو الّذي شرحه الشيخ الطوسي وأسماه: "تمهيد الأصول في علم الكلام"، نشرته جامعة طهران، وقد جعل المتن في أول الكتاب والشرح بعده، وليس المتن متميزاً في الشرح عمّا علّق عليه وقسم يختصّ بالأحكام، وهو الّذي شرحه تلميذ السيد، القاضي ابن البراج المتوفى عام 481 هـ، وطبع باسم: "شرح جُمل العلم والعمل". ثم إنّ للسيد نفسه شرحاً على هذا الكتاب أملاه على بعض تلامذته، وهو بعد مخطوط لم ير النور، وستقوم مؤسسة الإمام الصادق بنشره محقَّقاً إنشاء الله تعالى.
14- الإقتصاد، ص 173.
15- سرّ الفصاحة، ص 89، وص 217.
16- الفصل، ج 3، ص 17 وص 21.
17- كشف المراد، ص 223، ط صيدا.
18- السيرة النبوية لابن هشام، ج 1، ص 293-294.
19- الطراز، ص 393 -394.
20- تمهيد الأُصول، ص 338
21- مجمع البيان، ج 5، ص 386 ".
22- بيان إعجاز القرآن ص 21.
23- لاحظ مناهل العرفان في علوم القرآن، للزرقاني، ج 2، ص 314.
24- الطراز ج 3، ص 393.
25- الإشكالات الثلاثة الأخيرة، ذكرها الرماني في كتابه "النكت في إعجاز القرآن"، ص 133-155، وقد نقلناها بتلخيص وتصرّف.
26- مجمع البيان، ج 3، ص 438.
27- كشف المراد، ص 221، ط صيدا وممن أفاض الكلام في وجوه إعجاز القرآن، ولم يعتمد على مذهب الصَّرْفة، السيد عبد الله شُبّر في كتابه حق اليقين في أصول الدين ج 1، ص 150-154. وأما المقاربين لعصرنا فممن كتبوا فيه، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في كتابه الدين والإسلام لاحظ كلامه في مجلة رسالة الإسلام، العدد الثالث من السنة الثالثة، ص 298، والعلامة الكبير السيد هِبَة الدين الشهرستاني (المعجزة الخالدة، ص 32-43) والزرقاني في مناهل العرفان (ج 2، ص 310).