عجز البشر عن الإتيان بمثل القرآن
القرآن معجزة النبي (ص)
من المعروف أنّ الرسول الأكرم تحدّى العالمين أجمع على الإتيان بكتاب مثل القرآن، وتَنَزّل حتى تحدّاهم على الإتيان بعشر سُوَر، بل سورة من مثله. وإنّ تحليل التاريخ المسطور يكشف لنا عجز العرب أمام هذا التحدّي، وذلك أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، قد بقي يطالب العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن ...
عدد الزوار: 118
من المعروف أنّ الرسول الأكرم تحدّى العالمين أجمع على الإتيان بكتاب مثل القرآن، وتَنَزّل حتى تحدّاهم على الإتيان بعشر سُوَر، بل سورة من مثله.
وإنّ تحليل التاريخ المسطور يكشف لنا عجز العرب أمام هذا التحدّي، وذلك أنّ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، قد بقي يطالب العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن مدّة عشرين سنة، مظهراً لهم النكير، زارياً على أديانهم، مسفّهاً آراءهم وأحلامَهم، وهم أهل البلاغة والفصاحة، وفيهم أساطينها وأركانها، ولكنهم مع ذلك لم ينبسوا ببنت شفة، ولم يجرء أحد منهم على إبداع كلام يعارض فيه القرآن، وإنّما سلكوا مسلكاً آخر، فنابذوه الحرب، حتى هلكت فيه النفوس، وأُريقت المُهَج، وقطعت الأرحام، وذهبت الأموال.
ولو كان ذلك في وسعهم وتحت إقدارهم، لم يتكلّفوا هذه الأمور الخطيرة، ولم يتركوا السهل الدمث من القول إلى الحزِن الوعر من الفعل. هذا ما لا يفعله عاقل، ولا يختاره ذولبّ. وقد كانت قريش موصوفين برزانة الأحلام ووفرة العقول والألباب. وقد كان فيهم الخطباء المصاقع، والشعراء المُفْلقون1.
قال الشيخ عبد القاهر: "إنّ المتعارف من عادات الناس الّتي لا تختلف وطبائعهم الّتي لا تتبدل، أن لا يسلِّموا لخصومهم الفضيلة، وهم يجدون سبيلاً إلى دفعها، ولا ينتحلون العجز وهم يستطيعون قهرهم والظهور عليهم. كيف. وإنّ الشاعر أو الخطيب أو الكاتب، إذا بلغه أنّ بأقصى الإقليم من يباهي بشعره، أو بخطبته أو برسالته الّتي يعملها، يَدْخُلُه من الأَنفَة والحميَّة ما يدعوه إلى معارضته، وإلى أن يُظهر ما عنده من الفضل. هذا فيما لم ير ذلك الإنسان قطّ، ولم يكن منه إليه ما يهزّ ويحرّك، فكيف إذا كان المدعي بمرأى ومسمع منه، فإنّ ذلك أدعى له إلى مباراته، وأن يُعَرِّف الناس أنّه لا يقصر عنه، أو أنّه منه أفضل، فإن انضاف إلى ذلك أن يدعوه الرجل إلى مباراته، فذلك الّذي يُسْهِر ليله ويسلبه القرار، حتى يتفرّغ مجهوده في جوابه، ويبلغ أقصى الحدّ في مناقضته.
هذا، فكيف إذا ظهر في صميم العرب وفي مثل قريش، ذوي الأنفس الأبية، والهمم العليّة، من يَدّعي النبوة ويخبر أنّه مبعوث من الله تعالى إلى الخلق، ثم يقول وحجتي أنّ الله تعالى قد أنزل عليّ كتاباً عربياً مبيناً، تعرفون ألفاظه، وتفهمون معانيه، إلاّ أنّكم لا تقدرون على أن تأتوا بمثله، ولا بعشر سُوَر منه، ولا بسور واحدة ولو جمعتم جهدكم واجتمع معكم الجن والإنس. فلا يتصور منهم السكوت والسكون في مقابل هذا الإدعاء، إلاّ إذا كانوا عاجزين"2.
دَفْعُ تَوَهّم
ربما يتصور الغافل أنّ البلغاء المعاصرين لداعي الحق، قد عارضوه بكتاب أو سور مثل كتابه وسوره، ولكنه اختفى أثره في شعاع ضوء قدرة الإسلام والمسلمين وسلطانهم على الجزيرة وخارجها.
والجواب: إنّه رجمٌ بالغيب وتصوّر باطل لا تصدقه الموازين التاريخية والعلمية، إذ لو كانت ثمة معارضة ومقابلة، لما اختفى على العرب المعاصرين ولا على غيرهم. كيف، وإن الإتيان بمثل معجزته، يسجل للمعارض خلود الذكر وسموّ الشرف، بل لَسَعى أعداء الإسلام في نشره بين المعتنقين لدينه وغيرهم، لأنّهم يدون فيه بغيتهم.
قال المحقق الخوئي دام ظله: "إنّ هذه المعارضة لو كانت حاصلة لأعلنتها العرب في أنديتها، وشَهَرتها في مواسمها وأسواقها، وَلأَخذ منه أعداء الإسلام نشيداً يوقعونه في كل مجلس، وذكراً يرددونه في كل مناسبة، وعَلَّمَه السلف للخلف، وتحفّظوا عليه تحفّظ المدعي على حجّته، وكان ذلك أقرّ لعيونهم من الإحتفاظ بتاريخ السلف. كيف، وأشعار الجاهلية ملأت كتب التاريخ وجوامع الأدب، مع أنا لا نرى أثراً لهذه المعارضة"3.
يقول الخطابي: "إنّ هذا السؤال ساقط، والأمر فيه خارج عمّا جرت به عادات الناس من التحدّث بالأُمور الّتي لها شأن، وللنفوس بها تعلّق، وكيف يجوز ذلك عليهم في مثل هذا الأمر الّذي قد انزعجت له القلوب، وسار ذكره بين الخافقين. ولو جاز ذلك في مثل هذا الشأن مع عِظَمِ خطره، وجلالة قدره، لجاز أن يقال إنّه خرج في ذلك العصر نبي آخر وأنبياء ذوو عدد، وتنزّلت عليهم كتب من السماء، وجاءوا بشرائع مخالفة لهذه الشريعة، وكتم الخبر فيها فلم يظهر، وهذا ممّا لا يحتمله عقل"4.
أقول: وممّا يدلّ على عدم وجود هذه المعارضة اللائقة بالذكر، ما ضبطه التاريخ من كلام مسيلمة الكذاب وغيره ممّن ادعوا النبوة وأرادوا أن يخدعوا بسطاء العقول، فجاءوا بجمل تافهة ساقطة، لا يقام لها وزن ولا قيمة، ما سيأتي عرضه وتحليله بعد هذا البحث.
على أنّ القرآن ما خصّ العرب الجاهلين بالتحدّي، بل تحدّى جميع الناس سالفهم وحاضرهم، وهناك مجموعة كثيرة من العرب لا يعتنقون دين الإسلام ويتبعون ثقافات حديثة، وتؤيدهم القُوَى الكبرى الكافرة. فلو كانت المكافحة أمراً ممكناً لقام هؤلاء بهذه المهمة وأراحوا أنفسهم من بذل الأموال الطائلة في طريق الحطّ من كرامة هذا الدين، والنيل من نبّيه الأعظم وكتابه المقدّس، ولا حتفلوا بذلك في أنديتهم ومؤتمراتهم العالمية، وزعزعوا بذلك إيمان المسلمين، الّذي هو أُمنيتهم الكبرى. ومع ذلك، لا ترى من هذا الأمر عيناً ولا أثراً.
ثم إنّه قد نقل في مواضع متفرقة من كتب التاريخ، عبارات وجمل منثورة، يشبه بحسب الظاهر أُسلوبها أُسلوب القرآن، زُعم أنّها لأناس ادّعوا النبوّة، وعارضوا بها القرآن الكريم، وهذا ما نطرحه على بساط البحث فيما يلي.
هل عورض القُرآن الكريم؟
إنّ المؤرخين ذكروا أسماء قوم زعموا أنّهم عارضوا القرآن الكريم، وأنّ بعضهم ادّعى النبوة، وجعل ما يلقيه معجزة لكي لا تكون دعواه بلا أداة وبيّنة. ونحن نذكر بعض من ذكرهم التاريخ، وننقل بعض ما نسب إليهم، حتى يُعلم أنّ ما سمّوه مُعارضاً للقرآن الكريم، ليس إلاّ كلاماً ساقطاً، لا يقام له وزن، بل لا يداني بلاغة كلام الأُدباء المعروفين.
1- مسيلمة الكذاب
ذكر ابن هشام أنّ مسيلمة بن حبيب قد كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مِنْ مُسَيْلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك. أمّا بعد، فإنّي قد أُشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشاً قوم يعتدون".
فلما جاء الكتاب، كتب رسول الله إلى مسيلمة: "بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذّاب، السلام على من اتّبع الهُدى. أمّا بعد، فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمُتَّقين".
وذلك في آخر سنة عشر5.
وذكر الطبري أنّ وفد بني حنيفة أتوا رسول الله مع مسيلمة، فلما رجعوا وانتهوا إلى اليمامة، ارتدّ مسيلمة وتنبّأ وتكذّب له، وقال: "إنّي قد أُشركت في الأمر معه". ثم جعل يسجع السجاعات ويقول لهم فيما يقول، مضاهاةً للقرآن. وذكر من كلامه هذا:
"لقد أَنْعَمَ الله على الحُبْلى، أَخرّج مِنْها نَسَمَةً تسْعى، بين صِفاق وحَشَى"6.
أنّ هذين الكلامين، يكفيان شاهداً على ما لم نذكره. أمّا كتابه، فهو دليل على أنّه جعل دعوى النبوّة أداة للحكومة، فلأجل ذلك قسّم الأرض بينه وبين رسول الله. فانظر إلى جواب رسول الله، المُقْتَبس من القرآن الكريم: ﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾(الأعراف:128).
وأما قرآنه المنحول، المفترى على الله سبحانه، فما هو إلاّ جُمَل وفصول توازن سجع الكهان، حاول أن يعارض بها اوزان القرآن في تراكيبه. وممّا اصطنعه في هذا المجال:
"الفيل، ما الفيل، وما أدراك ما الفيل له ذنب وبيل، وخرطوم طويل".
"يا ضفدع بنت ضفدعين، نقي ما تنقين، نصفك في الماء ونصفك في الطين، لا الماء تكدِّرين، ولا الشارب تمنعين".
وعلى هذا الغرار سائر كلمه المنسوبة إليه. وكلها تعرب عن جهل وحماقة فيه. ولذلك، لما ذهب الأحنف بن قيس مع عمّه إلى مسيلمة، وخرجا منعنده، وقال الأحنف لعمّه. "كيف رأيته؟"، قال: "ليس بمتنبيء صادق، ولا بكذّاب حاذق"7.
ما هي حقيقة المعارضة؟
معنى المعارضة أنّ الرجل إذا أنشأ خطبة أو قال شعراً، يجي الآخر فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين، فيحكم بالفلج على أحد الطرفين. وليس معنى المعارضة أن يأخذ من أطراف كلام خصمه، ثم يبدل كلمة مكان كلمة، فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق، كما وقع في ذاك الكلام المنسوب إلى مسيلمة. وها نحن نأتي ببعض المعارضات الّتي وقعت في العصر الجاهلي بين شاعرين كبيرين، فهذا النابغة الذبياني يصف لَيْلَهُ في أشعاره المعروفة الّتي يعتذر فيها للنعمان، ويقول:
كليني لهــمّ يــا أميمة ناصــبِ |
ولـيـل أقاسـيه بطـــي الكـــواكــــبِ |
تَطاوَلَ حتى قُلت ليس بِمُنْقَض |
وليــس الّذي يرعــى النجـوم بآيبِ |
بصدر اراح الليْل عازِب همِّــه |
تضاعف فيه الحزن من كل جانــبِ |
ونرى أنّ امرئ القيس يقول في نفس الموضوع:
وليل كموج البحر أرخى سدولـه |
علـــيّ بأنــواع الهُموم ليبتلــي |
فقلــت لـــه لمّا تمطّــى بصُلْبـــه |
وأردف أعجــاز ونــاء بكــلكــلِ |
ألا أيها الليل الطويـل ألا انجلـي |
بصبح وما الإصباح منك بأمثـلِ |
فيا لكَ مـن لـيـل كــأن نجومــــه |
بكل مغـار الفتل شــدّت بِيَذْبُــــلِ |
هذه هي حقيقة المعارضة، فقول النابغة متناه في الحسن، بليغ في وصف ما شكاه من همّه وطول ليله، ويقال إنّه لم يتبديء شاعر قصيدة بأحسن من هذا الكلام، خصوصاً قوله: "بصدر أراح الليلُ عازب همّه". وهو كلام مطبوع سهل يجمع البلاغة والعذوبة. إلاّ أنّ في أبيات امرئ القيس من ثقافة الصنعة، وحسن التشبيه، وإبداع المعاني، ما ليس في أبيات النابغة، إذ جعل لليل صلباً وأعجازاً وكلكلاً، وشبّه تراكم ظلمة الليل بموج البحر في تلاطمه عند ركوب بعضه بعضاً، وجعل النجوم كأنّها مشدودة بحبال وثيقة، فهي راكدة لا تزول ولا تبرح، وجعل يتمنى تَصَرُّم الليل بعود الصبح لما يرجو فيه من الرَّوْح، ثم ارتجع ما أعطى واستدرك ما كان قدّمه وأمضاه، فزعم أنّ البلوى أعظم من أن يكون لها في شيء من الأوقات كشف وانجلاء... إلى آخر ما في شعره من النكات.
فبمثل هذه الأمور تعتبر المعارضة، فيقع بها الفضل بين الكلامين، من تقديم لأحدهما، أو تأخير، أو تسوية بينهما. لا بمثل ما اتى به هؤلاء المهزّلون، من الإكتفاء بالوزن والفواصل، من دون نظر إلى المعاني. وهذا هو السائد في كل المعارضات الّتي نسبت إلى المعارضين.
وللمعارضة صور أُخرى ذكرها الخطابي في بيان إعجاز القرآن8.
مثال آخر:
نرى أنّ جريراً يمدح بني تميم ويعرفهم بأنّهم كل الناس، في قوله:
إذا غَضِبَتْ عليك بنو تميم حسبت الناسَ كلُّهم غِضاباً
ويقول أبو نواس في هذا الصدد:
ليس على الله بمستنكَر أن يجمعَ العاَلَم في واحد
وقد زاد عليه أبو نواس زيادة رشيقة، وذلك أنّ جريراً جعل الناس كلّهم بني تميم، ولكنّ أبا نواس جعل العالم كلّهم في واحد. فكان ما قاله أبلغ وأدخل في المدح والإعظام9.
إذا ظهرت لك حقيقة المعارضة، فانظر إلى قوله سبحانه:﴿الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّة﴾(الحاقة:1-3). وقوله سبحانه: ﴿الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة﴾(القارعة:1-3)، ثم ما أتبَعَ قوله هذا بذكر يوم القيامة وبيان أوصافها وعظيم أهوالها بقوله: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾(القارعة:4-5).
فأين هو من قول القائل: "الفيل، ما الفيل وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل". فإنّ مثل هذه الفاتحة تجعل مُقَدِّمَةً لأمر عظيم الشأن متناه الغاية، فإذا بالمعارض يجعله مقدمة لذكر الذَّنَب والمشفر، ويتصور أنّه تحققت المعارضة، ويا ليته أتبع تلك المقدمة، بما أعطيت هذه البهيمة العجماء من الذهن والفطنة الّتي به تُفْهِمُ سائسها ما تريده، فلعلّه كان أقرب إلى مقصوده!!.
الشك في صحة نسبة هذه المعارضات
وهناك احتمال بأن لا تكون هذه الكلمات قد وضعت ليعارض بها القرآن، وإنّما وضعها أعداء مسيلمة للتفكُّه والسَّمَر، أو وضعت لغاية دينية وهي تأكيد إعجاز القرآن عندما تُقارَن هذه المفتريات إلى الآيات الباهرة في الكتاب العزيز. مع أنّ إعجاز القرآن ليس في حاجة إلى مثل هذا بعدما سكت فحول البلاغة عن معارضته.
وممّا يثير الشكّ في كون مسيلمة قائل هذه الجمل التافهة، ما أثر عنه من بعض الكلمات الّتي هي في البلاغة بمكان عال، كقوله عندما اجتمع مع سجاح التميمية: "هل لَكِ أن أَتَزَوَّجُكِ فآكلَ بقومي وقومك العرب؟"10. فإن هذه الكلمة تدلّ على مكانة الرجل في الفصاحة وجميل التأتي لما يريد. فخيّل لسجاح أنّه سيأكل بقومه وقومها العرب، وهل كانت تقصد سجاح غير هذا؟ وهل كان يقصد من اتبعوها إلاّ أكل العرب والإستيلاء عليهم؟ فإذا قارنّا بين كلمته هذه، وما عزي إليه من المعارضات، وجدنا فارقاً كبيراً بينهما في الأُسلوب والروح. فهذه الكلمة صادرة عن نفس جادة حازمة تتطلب أمراً عظيماً، وأمّا ما نسب إليه فصادر عن نفس ماجنة عابثة، لا تدرك ما وراء هذه المغامرة من المخاطر.
وهناك كلمة أُخرى نسبت إليه حين استحرّ القتل في قومه، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل مكان، وقد سأله قومه ما وعد به، فقال: "أمّا الدين فلا دين، قاتلوا عن أحسابكم". فأي إيجاز، وأي قوة، وأيّ إيحاء وتحميس أقوى من هذا: قاتلوا عن أحسابكم؟ والمنصف لا يشك في أنّ صاحب هذه الكلمات الموجزة ليس صاحب هذه المعارضات الركيكة المسهبة11.
2- طليحة بن خويلد الأسدي
قدم على النبي في وفد أسد بن خزيمة سنة تسع، فأسلموا. ثم لما رجعوا، تنّبأ طليحة، وعظم أمره بعد أن توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وكان يزعم أنّ ذا النون يأتيه بالوحي.
ومن كلماته: "إنّ الله لا يصنع بتعفير وجوهكم، وقبح أدباركم شيئاً. فاذكروا الله قياماً، فإنّ الرغوة فوق الصريح"12. فهو يريد بكلامه هيئة الصلاة من الركوع والسجود، فكانت الصلاة في شرعه قياماً.
ومنها: "والحمام واليَمام، والصّرد الصوام، ليبلغ ملكنا العراق والشام".
ولو كان الرجل ذا لب وعقل، لما عارض القرآن الكريم بهذه الكلمات الساقطة. فانظر كيف حلف على أمر عظيم وهو بلوغ ملك العراق والشام بهذه الطيور!!.
وممّا يثير الشك في صحة عزو هذه الجمل الجوفاء إلى طليحة، ما نقله الطبري13 عنه، حيث قال: إنّ طليحة وفد على عمروكان طليحة قد أسلم فقال له عمر: أنت قاتل عكاشة وثابت يريد عكاشة بن محصن وثابت بن أكرم وهما: سيدان من سادات المسلمين، وفارسان من فرسانهم فقال طليحة في جواب عمر: "ما تَهُمُّ من رجلين كرَّمهما الله بيدي، ولم يُهِني بأيديهما".
فهناك فرق واضح بين ما عزي إليه من المعارضات، وعبارته أمام عمر، فإن كلمته الأخيرة فيها روح أمكن بها الرجل أن يؤثر على عمر، حيث قال له إن الرجلين ذهبا إلى الجنة، فأكرمهما الله على يدي طليحة. وأي شيء أحبّ إلى عمر من أن تكون الجنة نصيب عكاشة وثابت!.
3- سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية
إنّ قبيلة بني تغلب كانت راسخة في النصرانية، فادعت سجاح المذكورة، بعد وفاة رسول الله، النبوة، فاستجاب لها بعضهم، وترك التنصّر، وكان أمر مسيلمة الكذاب قد غلظ واشتدّت شوكة أهل اليمامة، فنهدت له بجمعها. فمن قولها المزعوم: "إنّه الوحي، أعدّوا الركاب، واستعدوا للنّهاب، ثم أغيروا على الرباب، فليس دونهم حجاب". فلما توجهت لحرب مسيلمة قالت: "عليكم باليمامة، ودفّوا دفيف الحمامة، فإنّها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ملامة".
وخافها مسيلمة، ثم اجتمعا وعرض عليها أن يتزوجها، وقال: "هل لك أن أتزوجك، فآكل بقومي وقومك العرب"؟ فأجابت، وانصرفت إلى قومها. فقالوا: "ما عندك"؟. قالت: "كان على الحق فاتبعته فتزوجته". ولم تَدّع قرآناً، وإنّما كانت تزعم أنّه يوحى إليها بما تأمر، وتسجع في ذلك سجعاً، كالنَّموذجين المتقدمين.
والتاريخ يحكي أنّها أسلمت بعدُ وحَسُن إسلامها14. وفي الحقيقة لم تكن نبوتها إلاّ زفافاً على مسيلمة، وما كانت هي إلاّ إمرأة!.
4- الأسود العنسي
كان رجلاً فصيحاً معروفاً بالكهانة، والسجع، والخطابة، والشعر، والنسب. وقد تنبّأ على عهد النبي وخرج باليمن وهو ممن أراد أن يحذو حذو نبينا الأمين، لكن بتسجيع الكلم وحده. فأراد أن يباري سورة الأعلى فقال:
"سبّح اسم ربّك الأعلى، الّذي يسّر على الحبلى، فأخرج منا نسمة تسعى، من بين أضلاع وحشى، فمنهم من يموت ويدسّ في الثرى، ومنهم من يعيش ويبقى". وهي كما ترى صفر من الحكمة العالية، إلاّ الجملة الأولى.
فقد جاء هؤلاء إلى حلبة المعارضة لأنّهم كانوا بمكان من الإنحطاط الفكري والأخلاقي، وأمّا المحنكون ذوو الضمائر الحرّة من العرب فلم ينزلوا إلى ميدان المعارضة لوقوفهم على أنها تبوء بالفشل، وحفظوا كرامتهم من التسرع إلى حركات صبيانية.
وأمّا هؤلاء فهمّوا أن يعارضوا القرآن، فكان ما أتوا به باسم المعارضة لا يخرج عن أن يكون مجادلات مضحكة مخجلة، أخجلتها أمام الجماهير وأضحكت الجماهير منهم، فباءوا بغضب من الله وسخط من الناس، فكان مصرعهم هذا، كسباً جديداً للحقّ، ورهاناً آخر على أنّ القرآن كلام الله القادر وحده، لا يستطيع معارضته إنس ولا جان، ومن ارتاب فأمامه الميدان.
هؤلاء هم الذين حاولوا معارضة القرآن من القدماء، الذين عاصروا النبي أو عاشوا بعده بُرهة من الزمن، ولم يكن ما أتوا به إلاّ سقطات من الكلم أو الفاظاً جوفاء، أو أسجاعاً سخيفة. وهناك رجالات آخرون رُموا بها بأنّهم عارضوا القرآن الكريم، وهم في الثقافة والأدب بمكان عال، غير أنا نشك في صحة نسبة المعارضة إليهم، وإنّما رموا إمّا لكونهم من الملاحدة المعروفين كعبد الله بن المقفع، أو من الشخصيات البارزة الّتي يحسدها أعداؤها فأوقعوها بافتراءات الزندقة، ثم معارضة القرآن الكريم، فمنهم:
1ـ عبد الله بن المُقَفّع (م 145 هـ)
عبد الله بن المقفع أحد الأدباء في القرن الثاني، كان مجوسياً وأسلم، وتضلّع في اللغتين العربية والفارسية، وقام بترجمة بعضها إلى اللغة العربية، مثل كتاب "كليلة ودمنة". والرجل مع أنّه رمي بالإلحاد، قد صرّح بإسلامه في مقدمة ترجمته، وقد قتل حرقاً في التنور عام 145 هـ لإفساده عقائد الناس. وعلى كل تقدير، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بتأليف كتاب الدّرة اليتيمية، ولكن لم يعلم إلى الآن أنّ الرجل قام بتأليف ذلك الكتاب لأجل هذه الغاية، وليس فيه ما يصدّق ذلك، والكتاب مطبوع منشور في عدّة طبعات.
2ـ أحمد بن الحسين المتنبي (ت 303 ـ م 354 هـ)
من الشعراء البارزين الذين ربما يحتجّ أو يستشهد بكلامهم، وله ديوان كبير إعتنى به الأُدباء بالشرح والتعليق، والده كوفي، ولد في بيت الإسلام، ولكن قيل إنّه تنبّأ عام 320 وله من العمر سبعة عشر عاماً.
ونسب إليه أنّه تلا على أهل البادية كلاماً زعم أنّه قرآن أُنزل عليه، يحكون منه سوراً. قال علي بن حامد: نسخت واحدة منها، فضاعت مني، وبقي في حفظي من أولها: "والنجم السيّار، والفلك الدّوّار، والليل والنّهار، إنّ الكافر لفي أخطار، إمضِ على سُنَّتِك، واقْفُ أَثَرَ مَنْ قبلك من المرسلين، فإنّ الله قامعٌ بك زيغ من أَلْحَدَ في دينه وضلّ عن سبيله"، هذا.
ولو كان للرجل سور كثيرة يحاول بها المعارضة، لحفظها التاريخ ولو ازدراءً عليه، مع أنّه لم ينقل عنه إلاّ هذه الجمل15.
وما بقي من أشعاره تعرب عن أنانبية الرجل وأنّه يرى نفسه مقدّماً في كل شيء، كما يظهر من قوله:
الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني والسيفُ والرّمحُ والقرطاسُ والقلمُ
وقد اكتسب شهرة في الأدب والشعر، كما نال بذلك أعداءً حاقدين، ومن المحتمل أنّه عزي إليه التنبوء ومعارضة القرآن الكريم من جانب أعدائه.
وقد قتل عام (354)، ولم يكن قتله إلاّ لهجوه رجلاً يسمّى ضبّة.
3ـ أبو العلاء المعرّي (ت 363 ـ م 449)
أحمد بن عبد الله من معرّة النعمان، أحد الأدباء الفحول، والشعراء البارزين، وبما أنّه كان أعمى، وكان حليف بيته في أُخريات عمره، كان يسمّي نفسه رهين المحبِسين، وقد كان معاصراً للسيد المرتضى، وكان بينهما مساجلات ومناظرات.
ومع ذلك لما سئل عن فضل السيد وكماله، أجاب بالبيتين التاليين:
يا سائلي عنه لما جِئْتَ تسـألُهُ |
أَلا هُــوَ الرجــلُ العاري مـن العــارِ |
لو جئته لرأيت الناس في رجل |
والدَّهْرَ في سـاعة والأَرْضَ في دارِ |
وما ت ولم يتزوج ولم يعقّب، وأوصى أن يُكتب على صخرة قبره:
هـذا جنـــاة أبـــي عــــــ ـــلَيَّ وما جنيت على أحد
وقد اختلف المؤرخون في إيمانه وكفره، فهناك من الناس من يرمونه بالكفر كياقوت الحَمَوي، والذَّهبي، وسعد الدين التفتازاني، ومعاصره الخطيب البغدادي. والأشعار الّتي عزيت إليه تدلّ على انحرافه عن الإسلام.
وهناك من ذهب إلى خلاف ذلك منهم كمال الدين عمر بن أحمد بن عديم الحلّي، المتوفى عام 660 هـ ، ألّف كتاباً باسم "الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجرّي عن أبي العلاء المعرّي". وقد طبعت خلاصته في تاريخ حلب، فطرح دلائل المتخاصمين في المعري، ثم قضى بينهم على نهج أدى به إلى الحكم بكونه رجلاً غير منحرف عن الإسلام. وممّا قال فيه: "إنّ سائر ما في ديوانه من الأشعار الموهمة، فهي إمّا مكذوبة عليه أو هي مؤولة"16.
وممّا يؤيّد قول ابن عديم، ما ذكره ياقوت من أنّ المعرّي كان يُرمى من أهل الحسد له، بالتعطيل، وتعلّم تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار. يضمنونها أقاويل الملاحدة.
والّذي يمكن أن يقال إنّ بعض شعره يدلّ على سوء عقيدته، غير أنّ قيام الرجل بمعارضة القرآن، موضع شكّ وترديد، فقد نسب إليه أنّه عارض القرآن بكتاب أسماه: "الفصول والغايات في مجاراة السور والآيات"، وفد نشرت بعض فصوله.
وممّا يروث الشكّ في كون الهدف من تأليف هذا الكتاب هو المعارضة، ما ذكره هو نفسه في مقدمته، قال: "علم ربّنا ما علم، أنّي ألّفت الكلم، آمل رضاه المسلّم، واتّقي سخطه المؤلم، فهب لي ما أبلغ رضاك من الكلم، والمعاني الغِراب"17.
على أنّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد شكّ في صحّة نسبة هذا الكتاب إليه، في قوله: "وقد خيّل إلى بعضهم إنّْ كانت الحكاية صحيحة شيء من هذا (وهو كون التحدّي إلى فصول الكلام بأن يكون لها أواخر أشباه القوافي)، حتى وضع على ما زعموا "فصول الكلام"، أواخرها كأواخر الآي، مثل: "يعملون"، و"يؤمنون"، وأشباه ذلك"18.
كما نسبت إليه الجمل التالية:"أقسم بخالق الخيل، والريح الهابّة بِلَيْل، بين الشرط مطلع سُهَيْل، إنّ الكافر لطويل الويل، وإن العمر لمكفوف الذيل، تعدّى مدارج السيل، وطالِع التوبةَ من قُبيل، تَنْجُ وما أخالك بناج".
والّذي يعرب عن كون هذه الجمل مفتريات على الرجل ما نقل عنه في كتابه "الغُفْران"، قال رداً على ابن الراوندي: "وأَجْمَعَ مُلْحِدٌ ومهتدي، وناكب عن المحجة ومُقتدي، أنّ هذا الكتاب الّذي جاء به محمد كتاب بهر بالإعجاز، ولقي عدوه بالأرجاز، ما هذا على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا في الرجز من سهل وحزون، ولا شاكل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة ذوي الإرب... وإنّ الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون، فتكون فيه كالشهاب المتلألي في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوب ذات نسق، فتبارك الله أحسن الخالقين"19.
هذا، وإن أكثر من ينسب المعارضات إلى أبي العلاء، يستند إلى ما كَتَبَهُ ياقوت عنه. ويبدو للإنسان من مطالعة ما كَتَبَه، أنّه متحامل على أبي العلاء، ويكفي في ذلك قوله: "كان المعرّي حماراً لا يفقه شيئا"!. وهذه عبارة لا يقولها إلاّ أشدّ الخصوم والمتعصبين على الرجل.
*الإلهيات.آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام،ج3،ص351-365
1- لاحظ بيان إعجاز القرآن، لأبي سليمان الخطابي، ص9.
2- ثلاث رسائل، الرسالة الشافية، لعبد القاهر الجرجاني، ص110.
3- البيان في تفسير القرآن، ص 52.
4- بيان إعجاز القرآن، ص 50.
5- السيرة النبوية لابن هشام، ج 2، ص 600. وتاريخ الطبري، ج 2، ص 399.
6- تاريخ الطبري، ج 2، ص 394، ولكن رواه في ص 499 هكذا: "ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى، الخ". والصفاق هو الجلد الأسفل الّذي يمسك البطن، وهو الّذي إذا نشق كان منه الفتق.
7- لاحظ ما نسب إليه في تاريخ الطبري، ج 2، ص 498-499، وص 506.
8- بيان إعجاز القرآن، ص 52-60
9- لاحظ الطراز، ص 202 -203.
10- تاريخ الطبري، ج 2، ص 499.
11- لاحظ مقال الشيخ علي العماري المصري، في "رسالة إلاسلام" العدد الثالث من السنة الحادية عشرة.
12- معجم البلدان، كما نقله الرافعي في إعجاز القرآن، ص 199 -200.
13- الطبري، ج 3، ص 239.
14- راجع فيما نقلناه تاريخ الطبري، ج 2، ص 496 -500 .
15- إعجاز القرآن للرافعي، ص 208 .
16- تاريخ حلب، ج 4، ص 77- 180.
17- الفصول والغايات، ص 62.
18- دلائل الإعجاز، لعبد القاهر الجرجاني، ص 297، ط المنار.
19- رسالة الغُفْران، ص 263.