صيغة القيادة في الشرائع السابقة
الإمامة والخلافة
المتبع بين الأنبياء السالفين هو تسليم أمر من قاموا بهدايتهم، إلى خلفاء صالحين لائقين، ليتسنى لتلك الأُمم في ظل الرعاية والتربية الصحيحة، التي يتولاها الأوصياء، أن يستمروافي طريق التكامل والرشد.نعم، كان كثير من الأوصياء أنبياء، ولكن بعضاً منهم كانوا أوصياء خاصين...
عدد الزوار: 126
المتبع بين الأنبياء السالفين هو تسليم أمر من قاموا بهدايتهم، إلى خلفاء صالحين لائقين، ليتسنى لتلك الأُمم في ظل الرعاية والتربية الصحيحة، التي يتولاها الأوصياء، أن يستمروافي طريق التكامل والرشد.
نعم، كان كثير من الأوصياء أنبياء، ولكن بعضاً منهم كانوا أوصياء خاصين، وهذا يعرب عن أنّ مسألة القيادة والزعامة كانت من الأهمية والخطورة، إلى حدّ لم يترك أمرها إلى اختيار الناس ونظرهم، بل كانت تعهد على مدى التاريخ إلى رجال أكفاء، يعيّنون بالإسم والشخص، لأنّ تركه يؤدّي إلى الإختلاف والفرقة والفتنة، وكانت القيادة يتوارثها، فى الغالب أفراد من سلالة الأنبياء والرسل، خلفاً عن سلف، وإليك بعض الآيات المشعرة بذلك.
قال سبحانه مخاطباً إبراهيم عليه السَّلام: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(البقرة:124) وليس المراد من الإمامة هنا النبوة، كما زعمه بعض المفسّرين، لإنّه إنّما جعله إماماً بعدما كان نبيّاً ورسولاً، بشهادة أنّه يطلب هدا المقام لذرّيته، وإنّما صار ذا ذرّية، بعدما كبر وهرم، قال: ﴿الْحَمْدُ للهِ الذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾(إبراهيم:39). وقد كان نبيّاً قبل أن يرزق ولداً، بشهادة الملائكة عليه1. بل المراد هو الإمامة المتمثلة في الحاكمية والقيادة، فدعا إبراهيم أن يجعل الله تعالى هذا المقام في ذرّيته، على النحو الذي فيه (بالتنصيب)، ولم يردّه سبحانه، وما أنكره عليه، بل أخبره بأنها لا تنال الظالمين منهم.
قال سبحانه "حاكياً عن موسى عليه السَّلام: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي﴾(طه:29-30). فيطلب موسى عليه السَّلام أن يكون أخاه هارون مساعداً ومعينا له في القيادة، فقبله سبحانه، وأعطاه مضافاً إلى الوزارة، النبوة. ويؤيّد ذلك تاريخ الأنبياء، فقد كانوا ينصّون على الخلفاء من بعدهم بصورة الوصاية، وقد ذكر المؤرخون قائمة أو صيائهم2".
هذه هي الطريقة المألوفة في الشرائع السابقة، ولا دليل على الإنحراف عنها، ولا صارف عن الأخذ بها، بل نجد في السنّة ما يدلّ على أنّ كل ما جرى على الأُمم السابقة، يجري على هذه الأمّة إلاّ ما استثني3.
ويدلّ على ذلك بصراحة لا تقبل جدلاً، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:
"كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنّه لا نبي بعدي، وسيكون بعدي خلفاء يكثرون"4.
وظاهر الحديث أنّ استخلاف الخلفاءفي الأمّة الإسلامية، كاستخلاف الأنبياء في الامم السالفة، ومن المعلوم أنّ الإستخلاف كان هناك بالتنصيص، فيجب أن يكون هنا بالتنصيص كذلك.
وباختصار إن ما يدل على كون صيغة الحكومةبعد النبي هي التنصيص لا التنصيب أمور
1- إنّ رحلة النبي الأكرم تترك فراغات هائلة في الأمّة، لا مناص عن سدّها بواحد من أبناء الأمّة، وأنّ هذه الفراغات لاتسدّ بفرد عادي، له من المؤهلات والكفاءات العلمية، ما لا يتجاوز عن حدود ما لغيره من أفراد الأمّة، بل يجب أن يكون له كفاءة وصلاحية توازن كفاءات النبي ومؤهلاته،يكون مستودعاً لعلوم النبي، واقعاً تحت عناية الله تبارك وتعالى وكفالته.
ومن المعلوم أنّ التعرّف على هذا الفرد ليس ميسّراً من طريق الإنتخاب بالشورى أو بالبيعة، بل يُعرف يتعيين من الله سبحانه عن طريق النبي الأكرم، نظر أوصياء سائر الأنبياء.
2- إنّ الدولة الإسلامية الفتية كانت مهددة في أخريات أيام النبي، حال وفاته، بأعداء داخليين وخارجيين. أمّا الداخليون، فهم المنافقون الذين كانوا يتربصون بها الدوائر، وأمّا الخارجيون، فدولتا الروم والفرس، فمقتضى المصلحة العامة في تلك الظروف الحرجة، تعيين الإمام الخليفة بعده، لئلا تترك الدولة بعد وفاته عرضة للإختلاف، وبالتالي تمكّن أعدائها منها، خصوصاً إذا لاحظنا أنّ حياة العرب حينذاك في نفوسهم،ترك الأمر إلى مجتمع هذا حاله، يؤدّي إلى التشاغب والإختلاف وبالتالي إلى القتل والدمار.
أضف إلى ذلك أنّ الوعي الديني لم يكن راسخاً في قلوب أكثر الصحابة، وإن كان القليل منهم قد بلغ القمة، وصاروا مثلاً عليا للفضل والفضيلة، قد عرفت دليل قلّة الوعي الديني، بفرارهم في بعض الغزوات.
3- إنّه لو كان أساس الحكم على غير وجه التنصيب، لكان على النبي الأكرم بيان أسسه وأصوله وفروعه، وشرائط الإمام، وما تنعقد به الإمامة، مع أنّ النبي سكت عن ذلك ولم ينبس منه بكلمة، أفيصحّ لنا أن نتهم النبي بأنّه بلّغ أبسط الأمور وأيسرها، التي تقع في الدرجة الأخيرة من الأهمية في حياة الإنسان، وسكت عن عظائم الأمور ومهمّاتها التي تتوقف عليها حياة الأمّة.
كل ذلك يعرب عن أنّ سكوته لأجل أنّ أساس الحكم هو التنصيب، ونصب الإمام يغني عن البحث حول أساس الحكم وشروطه، "وكلّ الصّيد في جوف الفراء" (مثل يُضرب).
4- إنّ تصوّر النبي للخلافة في عصره، هو إيكالها إلى الله سبحانه، وأنّه تعامل معاملة الرسالة، وأنّه عرّفها بنفس ما عرّف به الله سبحانه الرسالة، "يضعها حيث شاء".
5- إنّ تصوّر الصحابة، وسيرتهم في الخلافة هي سيرة التنصيب، وقد كان ترك التنصيب، في نظرهم، إهمالاً لأمر الأمّة، وتركاً لها بلا راع فريسة للذائاب، والأعداء، وبذلك استتبّ الأمر لعمر بيد أبي بكر، ولعثمان بيد عمر، وهكذا توالت السيرة في الامويين من الخلفاء، وشذّت عنها خلافة علي حيث استتبت له ببيعة المهاجرين والأنصار.
6- إنّ صيغة القيادة في الشرائع السابقة كانت هي التنصيب، وكان الأوصياء يُنصبون من طريق الأنبياء.
7- إنّه لا دليل على كون أساس الحكم هو الشورى والبيعة بألوانهما المختلفة.
كل ذلك يعرب عن أنّ القائد الحكيم، بأمر من الله سبحانه، سلك مسلكاً، ونهج منهجاً، يطابق هذه الأصول والمقدمات، وما خالفها قدر شعرة،عيّن القائد بعده في حياته، وأعلنه للأمّة في موسم أو مواسم.
هذا ما يوصلنا إليه السبر والتقسيم والمحابة في الأمور الإجتماعية والسياسية، فيجب علينا عندئذ الرجوع إلى الكتاب والسنّة، لنقف ونتعرّف على ذلك القائد المنصوب، ونذعن "بالتالي" بأنّ عمل النبي كان موافقاً لهذه الأصول العقلائية .
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص71-75
1- لاحظ الحجر:51-60.
2- لاحظ إثبات الوصية، للمسعودي، مؤلّف مروج الذهب (م 345)
3- روى أحمد في مسنده، ج 3، ص 84، عن أبي سعيد الخدري، أنّ رسول الله 6، قال: "لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لتبعتموهم". ورواه غيره من أصحاب الصحاح والسنن.
4- جامع الأصول لابن أثير الجزري، الفصل الثاني، فيمن تصح إمامته وإمارته، ص 443، أخرجه البخاري ومسلم.