التوبة وشرائطها
ملحقات المعاد
إنّ التوبة من المكفّرات التّي نص الكتاب والحديث على تكفير الذنوب بها، تحت شرائط خاصة واشباع الكلام فيها يتم بالبحث في أُمور:الأمر الأول فلسفة التوبة: ربما يتوّهم أنّ في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراءً بالمعصية وتحريضاً على ترك الطاعة،
عدد الزوار: 446
إنّ التوبة من المكفّرات التّي نص الكتاب والحديث على تكفير الذنوب بها، تحت شرائط خاصة واشباع الكلام فيها يتم بالبحث في أُمور:
الأمر الأول - فلسفة التوبة
ربما يتوّهم أنّ في تشريع التوبة والدعوة إليها إغراءً بالمعصية وتحريضاً على ترك الطاعة، بدعوى أنّ الانسان اذا أيقن أنّه سبحانه يقبل توبته رغم اقترافه المعاصي، تزيد جرأته على هتك الحرمات، والانهماك في الذنوب، فيدق باب كل قبيح، معتمداً على التوبة.
ولكنه توهم ساقط من أصله، فانه لو كان باب التوبة موصداً في وجه العصاة، واعتقد المجرم بأنّ العصيان مرّة واحدة يدخله في عذاب اللّه، فلا شكّ أنّه سيتمادى في اقتراف السيئات وارتكاب الذنوب، معتقداً بأنه لو غيّر حاله إلى الأحسن، لما كان له تأثير في تغيير مصيره، فلأي وجه يترك لذات المحرمات في ما يأتي من ايام عمره. وهذا بخلاف ما لو اعتقد بأنّ الطريق مفتوح والنوافذ مشرعة، وأنّه لو تاب توبة نصوحاً ينقذ من عذابه سبحانه، فهذا يعطيه الأمل برحمة اللّه تعالى ويترك العصيان في مستقبل أيامه. وكم من الشباب عادوا الى الصلاح بعد الفساد في ظل الاعتقاد بالتوبة، بحيث لو لا ذلك الاعتقاد لأسهروا لياليهم في المعاصي، بدل الطاعات.
ولأجل ذلك نرى في التشريعات الجنائية العالمية قوانين للعفوعن السجناء المؤبّدين، اذا شوهدت منهم الندامة والتوبة، وتغيير السلوك، فتشريع هذا القانون يكون موجباً لإصلاح السجناء، لا تقوية روح الطغيان فيهم. فالانسان حي برجائه، ولو ساد عليه اليأس والقنوط من عفوه ورحمته سبحانه، لزاد في طغيانه في عامة أدوار عمره.
الأمر الثاني - حقيقة التوبة
إن التوبة كما يستفاد من الآيات والروايات حالة نفسانية مؤثّرة في النفس فتصلحها وتعدها للصلاح الّذي فيه سعادة الدنيا والآخرة. ومن المعلوم أنّ هذه الغاية لا تحصل إلا بتحقق أمرين:
1 ـ الندم على ما مضى.
2 ـ العزم على عدم العودة إليه اذا قدر.
فلو انتفى الأمران أو أحدهما لما حصلت تلك الحالة المؤثرة في صلاح النفس وإعدادها لكمالات أُخرى، فيلزم في التوبة وجود هذين الأمرين، سواء أقلنا، انّ التوبة مركبة منهما وأنّ كل واحد منهما جزء لها، كما نقل عن أبي هاشم الجبائي، أو قلنا: إن التوبة أمر بسيط هو الندم على ما مضى، وأما العزم فهو من شروطها و لوازمها، كما عليه الشيخ المفيد1 فإن هذا نزاع لفظي لا ثمرة له إلا في موارد نادرة، كما اذا ندم على ما سلف من القبيح ومنع من العزم، فعلى القول الأوّل لم تتحقق التوبة دون الثاني.
وهناك كلام للإمام أمير المؤمنين حول التوبة، وقد سمع من بحضرته يقول: أستغفر اللّه، فقال: "أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيّين وهو اسم واقع على ستة معان:
أوّلها: الندم على ما مضى.
والثاني: العزم على ترك العود أليه أبداً.
والثالث: أن تؤدّي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللّه أملس ليست عليك تبعة.
والرابع: أن تعمد إلى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقها.
والخامس: أن تعمد إلى اللحم الّذي نبت على السحت (السحت: المال من كسب حرام) فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.
والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.
فعند ذلك تقول: "أستغفر اللّه"2.
وبالجملة: إنّ التوبة لغاية ازالة السيئات النفسانية التّي تجر الى الانسان كل شقاء في حياته الأُولى والأُخرى وتمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة وهذه الغاية لا تحصل إلاّ بحصول أمرين: الندم والعزم.
وأما باقي الأمور الأربعة الواردة في كلام الامام عليه السَّلام، فسيوافيك الكلام فيها.
الأمر الثالث - وجوب التوبة
اتفقت العدلية على وجوب التوبة واستدلوا على ذلك بأمرين:
أ- انها دافعة للضرر الّذي هو العقاب، ودفع الضرر الاخروى واجب عقلا.
ب- إن العزم على ارتكاب القبائح وترك الفرائض قبيح عقلا فيجب اجتنابه، وهو لا يحصل إلا بالتوبة.
والدليل الثاني لا يفيد إلا وجوب العزم وهو أحد جزئي التوبة أو شرطها.
وكيف كان، فكل من قال بالحسن والقبح العقليين، لا مناص له عن القول بوجوب التوبة وجوباً عقلياً، وما جاء من طريق السمع يكون مرشداً إلى هذا الحكم العقلي.
وأما المنكرون لهما، فيذهبون الى وجوبها شرعاً، قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً﴾(التحريم:8).
الأمر الرابع - هل تجب التوبة من الصغائر؟
إنّ ارتكاب أي معصية، صغيرة كانت أو كبيرة، جرأة على اللّه وخروج عن رسم العبودية وزيّ الرّقية، وهي تترك أثراً سيئاً في النفس بلا ريب، فيجب التوبة منها لإزالة أثرها من النفس. واليه ذهب أبو علي الجبائي، من المعتزلة، ولكن الظاهر من ابنه أبي هاشم، عدم وجوب التوبة من الصغائر إلاّ سمعاً، واختاره القاضي عبد الجبار، قائلا بأنّ التوبة انّما تجب لدفع الضرر عن النفس، ولا ضرر في ا لمعصية، فلا تجب التوبة منها، غاية الأمر انّ للصغيرة تأثيراً في تقليل الثواب، ولا ضرر في ذلك3.
يلاحظ عليه: انّ ما ذكر مبني على أمرين غير ثابتين:
أ- أنّ المعاصي بالذات تنقسم الى صغائر وكبائر، وأنّ صغر المعاصي وكبرها ليس من الأُمور الاضافية النسبية، بل هناك صنفان من المعاصي لا يتداخل أحدهما في الآخر.
ب- انّ المعاصي الصغيرة لا يعاقب عليها ما لم يكن عليها إصرار. وكل ذلك مورد تأمّل وتردد.
أضف إلى ذلك: أنّ وجه تشريع التوبة ليس منحصراً بالاجتناب عن العذاب حتى يقال: انه لا عقاب على الصغيرة، بل قد عرفت أنّ الوجه فيها مضافاً الى الخلاص من العذاب حسن الندم على كل قبيح أو إخلال بالواجب، وقبح العزم على الاستدامة، وهذا مشترك بين الصغيرة والكبيرة.
وبذلك يظهر الجواب عما ربّما يقال من أنّ عقاب الصغيرة مكفّر باجتناب الكبيرة اذا لم يصر عليها، لقوله سبحانه:﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُم﴾( النساء:31)4.
وعندئذ، لا يحتاج الى التوبة منها، لما عرفت من انّ وجه التوبة لا ينحصر بالخلاص من العذاب.
الأمر الخامس - التوبة واجب فوري
يحكم العقل بوجوب التوبة فوراً، لأنها اجتناب عن القبيح بقاء، وترك للعدوان استدامة، ومثل ذلك لا يصح فيه التأخير والتراخي.
أضف إلى ذلك أنّ العقل يُحرض على التوبة فوراً، لئلا يفوت أوانها ويكون ممّن لا تقبل توبته قال سبحانه:﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ اعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾(النساء:18).
وما ذكرناه هو خيرة المعتزلة أيضاً حيث قالوا بفورية الوجوب وأنّه يلزم بتأخيرها ساعة اثم آخر يجب التوبة منه أيضاً، حتى أن من أخّر التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة، فقد فعل كبيرتين، وساعتين أربع كبائر، الاوليان، وترك التوبة عن كل منهما، وثلاث ساعات، ثمان وهكذا5.
ولكن لا دليل على هذا التفصيل.
الأمر السادس - أثر التوبة
إن أثر التوبة هو ازالة السيئات النفسانية التّي تجر إلى الانسان كل شقاء في حياته الأُولى والأُخرى، فيرجع التائب بعد ندمه وعزمه على الترك في المستقبل، أبيض السريرة، كيوم ولدته أُمّهُ، وبالتالي يسقط عنه العقاب.
وأما الأحكام الشرعية المترتبة على الأعمال السابقة فتبقى على حالها، اذ ليس للتوبة تأثير الا في إصلاح النفس واعدادها للسعادة الأُخروية ولذلك يجب الخروج عن مظالم العباد أوّلا، وتدارك ما فات من الفرائض ثانياً، فإنّ السيئة العارضة على النفس بسبب هضم حقوق الناس لا ترتفع إلا برضاهم، لأنّه سبحانه احترم حقوقهم في أموالهم وأعراضهم ونفوسهم، وعدّ التعدي على واحد منها ظلماً وعدواناً، وحاشاه أن يسلبهم شيئاً مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم وقد قال عز من قائل: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً﴾(يونس:44).
قال المفيد رحمه الله : "انّ من شرط التوبة الى الله سبحانه من مظالم العباد الخروج الى المظلومين من حقوقهم بأدائها اليهم أو باستحلالهم منها على طيبة النفس بذلك، والاختيار له، فمن عدم منهم صاحب المظلمة وفقده خرج الى أوليائه من ظلامته أو استحلهم منها" 6 .
ولأجل ذلك قال الامام أمير المؤمنين عليه السَّلام : "والثالث: أن تؤدي الى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى اللّه أملس ليس عليك تبعة، والرابع: أن تعمد الى كل فريضة ضيّعتها فتؤدّي حقها"7.
هذا، وانّ المتبادر من الآيات والروايات أنّ التوبة بنفسها مسقطة للعقاب، يقول سبحانه: ﴿كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَة ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(الانعام:54) فان ّالظاهر منه أن نفس التوبة تجرّ الغفران، وغير ذلك من الآيات، وهذا الأمر من المسائل القرآنية الواضحة.
وأما حقوق اللّه، فيتبع هناك لسان الدليل الشرعي، فربما تكون التوبة مسقطة للحدّ كما في قوله سبحانه:﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الاَْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلاَف أَوْ يُنفَوْا مِنَ الاَْرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾(لمائدة:33ـ 34). فالاستثناء صريح في أنّ التوبة تُسقط الحدّ الوارد في الآية.
قال المحقّق الحلّي: "انّ شارب الخمر اذا تاب قبل قيام البينة، يسقط الحد، وإن تاب بعدها لم يسقط"8وقال: "اذا تاب اللائط قبل قيام البيّنة سقط الحدّ ولو تاب بعده لم يسقط"9.
الأمر السابع - قبول التوبة واجب على اللّه أو لا ؟
لا شكّ أنّ التوبة تسقط العقاب، وهو مما أجمع عليه أهل الاسلام. وانما الخلاف في أنّه هل يجب على اللّه قبولها بحيث لو عاقب بعد التوبة كان ظالماً أو هو تفضل منه سبحانه، وكرم ورحمة منه بعباده؟
فالمعتزلة على الأوّل ، والأشاعرة والإمامية على الثاني.
استدل المعتزلة بوجهين:
1- انّ العاصي قد بذل وسعه في التلافي، فيسقط عقابه، كمن بالغ في الاعتذار الى من أساء أليه، فانه يسقط ذمه بالضرورة10.
وبعبارة أُخرى: ان من أساء الى غيره واعتذر إليه بأنواع الاعتذارات، وعرف منه الاقلاع عن تلك الاساءة بالكلية فالعقلاء يذمون المظلوم، اذا ذمّه بعد ذلك11.
2- لو لم يجب اسقاط العقاب لم يحسن تكليف العاصي، والتالي باطل اجماعاً فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية: ان التكليف انما يحسن للتعريض للنفع. وبوجوب العقاب قطعاً لا يحصل الثواب، وبغير التوبة لا يسقط العقاب، فلا يبقى للعاصي طريق الى إسقاط العقاب عنه، ويستحيل اجتماع الثواب والعقاب فيكون التكليف قبيحاً12.
يلاحظ على الأوّل، بأنه لا يجب في منطق العقل قبول المعذرة، بل المظلوم في خيرة بين القبول والصفح، وليس رفض المعذرة مخالفاً للحكمة والعدل حتى يجب على اللّه سبحانه.
وأما الثاني، فيلاحظ عليه أنه مبنيٌ على الأصل الّذي اختاره المعتزلة من أنّ مرتكب الكبيرة مخلدٌ في النار، وهو لا يجتمع مع الثواب المترتب على التكليف، فاستدلوا بأنّه لو لم تقبل توبته لوجب أن يخلد في النار (ولو بمعصية واحدة) وهو لا يجتمع مع الثواب، فيلزم سقوط تكليف العاصي. ولكن الأصل مردود لما قلنا من انّ المؤمن لا يخلد في النار وإنما كتب الخلود على الكافر، فلا مانع من أنّ يعاقب مدّة ثم يخرج فيثاب.
وعلى هذا فلا دليل على وجوب قبول التوبة على اللّه سبحانه، بل قبولها تفضّل وكرم منه سبحانه.
قال الطبرسي في تفسير قوله سبحانه: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾(البقرة:160). قال: "ووصفه بالرحيم عقيب التوّاب يدل على أنّ اسقاط العقاب بعد التوبة تفضل منه سبحانه ورحمة من جهته، على ما قاله أصحابنا، وانّه غير واجب عقلا على خلاف ما ذهب إليه المعتزلة"13.
نعم، هذا اذا لوحظ قبول التوبة من حيث هو هو، وأما اذا لوحظ بعدما وعده سبحانه بقبول توبة التائب، فالوجوب لا محيص عنه، لأنّ خلف الوعد قبيح، من غير فرق بين الواجب والممكن، وقد أوضحنا لك معنى كون شيء واجباً على اللّه سبحانه، وانّه لا يراد منه تكليف اللّه سبحانه، بل أنّ العقل يكشف حكماً عاماً سائداً على الواجب والممكن، وهو أنّ الحكيم لا يفعل القبيح لما فيه من المبادئ الرافضة لارتكابه فيكون وجوب قبول التوبة سمعياً لا عقلياً.
الأمر الثامن - هل يجب في التوبة، الندم على القبيح؟
الظاهر من غير واحد من المحققين أنّ التوبة تتقوم بالندم على القبيح لقبحه، والا فلو ندم لأجل اضرارها بالبدن أو إخلالها بعرضه أو ماله أو لغرض آخر، لا يكون تائباً.
وهذا كلام متين، فان التوبة عبارة عن رجوع العبد الى اللّه سبحانه، وهذا لا يتحقق إلا بأن يكون رجوعه لاستشعاره قُبح عمله، وانّه كان عدواناً على اللّه وجرأة على المولى، وأما من ترك شرب الخمر لا بهذا الاعتقاد بل لأجل صيانة بدنه عن مضارها، فلا تكون توبة منه الى اللّه.
انما الكلام اذا تاب عن عمله لأجل الخوف من عقابه سبحانه، فقد ذهب المحقق الطوسي وتبعه العلامة الحلّي، الى انّه لو كانت الغاية من التوبة هي الخوف من النار بحيث لو لا خوف النار لم يتب، فلا يصدق عليها أنّها توبة.
قال العلامة الحلي: "فان كانت التوبة خوفاً من النار أو من فوات الجنة - لم تصح توبته، وهذا نظير ما لو اعتذر المسيء الى المظلوم لا لأجل إساءته بل لخوفه من عقوبة السلطان، فان العقلاء لا يقبلون عذره"14.
يلاحظ عليه: انّ التكاليف الإلهية متوجهة الى عموم الناس، من غير فرق بين التكليف بالصلاة والصوم أو التكليف بالتوبة ومن المعلوم أنّ الاكثرية الساحقة لا يقومون بالفعل لحسنه بالذات. ولا يتركونه لكونه قبيحاً كذلك، بل الفعل والترك يقومان على أساس الرغب والرهب، والطمع بالجنّة والخوف من النار. وعلى ذلك فالآيات الواردة حول التوبة المقترنة بالثواب تارة والخلاص من النار أخرى، تعرب عن أنّ التوبة اذا حصلت لاحدى هاتين الغايتين، كفى ذلك في سقوط العقاب، يقول سبحانه حاكياً قول هود عليه السَّلام:﴿وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُم مِدْرَاراً﴾(هود:52).
ويقول تعالى:﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَتاعاً حَسَناً إِلَى أَجَل مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْل فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْم كَبِير﴾(هود:3).
وفي الدعاء الّذي علمه علي عليه السَّلام كميل بن زياد إيعاز إلى ذلك: يقول: "اللّهم اغفر لي الذنوب التّي تهتك العصم، اللّهم اغفر لي الذنوب التّي تُنزل النقم، اللهم اغفر لي الذنوب التّي تُغير النّعم، اللهم اغفر لي الذنوب التّي تُنزل البلاء".
وانْ شئت قلت: ان التوبة خوفاً من النار، لا تنفك عن الاعتقاد بكون ما فعل أمراً قبيحاً شرعاً.
وبالجملة، فالآيات والروايات الواردة حول التوبة مطلقة، تعم كل توبة يصدق عليها أنها رجوع إلى اللّه. وفي حديث يبين علي عليه السَّلام موقف العباد في عبادة اللّه تعالى، ويقسمهم إلى ثلاثة أقسام، يقول:"ان قوماً عبدوا اللّه رغبةً، فتلك عبادة التجار، وانّ قوماً عبدوا اللّه رهبة، فتلك عبادة العبيد، وإن قوماً عبدوا اللّه شكراً، فتلك عبادة الأحرار" 15.
وحينئذ، فكما أنّه تقبل عبادة العباد، رغبة ورهبة، تقبل توبتهم أيضاً اذا كانت كذلك.
ولا معنى للتفكيك بين قبول عبادتهم وقبول توبتهم، ولا أجد فقيهاً يفتي ببطلان عبادة من عبده سبحانه لإحدى الغايتين، أو كليهما. كيف وهو سبحانه يصف أنبياءه العظام بقوله: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾(الأنبياء:90).
وأما الاستدلال على أنّ المسقط ليس هو نفس التوبة، بل كثرة الثواب بعدها بأنها لو أسقطت العقاب بذاتها، لأسقطته في حال المعاينة، وفي الدار الآخرة16، فيلاحظ عليه أنّ التوبة انما تقبل لأنها تؤثر في النفس الانسانية، فتصلحها، أو تعدّها للصلاح، وهذا انما يتصور فيما اذا كان الانسان قادراً على الفعل والترك وأما في حال المعاينة أو دار الآخرة، فالقدرة مسلوبة عن الانسان هذا. مع انّك قد عرفت عند البحث عن أثر التوبة أنّ التوبة بنفسها هي المسقطة للعقاب، فلاحظ.
الأمر التاسع - هل تصحّ التوبة من قبيح دون قبيح؟
اختلفت كلمتهم في أنه هل يصح الندم من قبيح دون قبيح؟
فقال أبو علي: إنّه تصح ما لم يصر على شيء من ذلك الجنس، فلو انّه تاب من شرب الخمر وأصرّ على الزنا كانت توبته عن الأول توبة نصوحاً صحيحة، وأما اذا أصرّ على شيء من ذلك الجنس لم تصح توبته. وذلك كما أنّه لو تاب عن شرب هذا القدح من الخمر مع اصراره على شرب قدح آخر، فلا إشكال في أن لا تصح توبته هذه17.
وقال أبوهاشم: انّه لا تصح التوبة عن بعض القبائح مع الإصرار على بعض، واختاره القاضي عبد الجبار، واستدل عليه بأنّ التوبة عن القبيح يجب أنّ يكون ندماً عليه لقبحه، وعزماً على أن لا يعود إلى أمثاله في القبح. وإذا كان هذا كذلك، فليس تصح توبته عن بعض القبائح مع الاصرار على البعض، إذ ليس يصح أن يترك أحدنا بعض الأفعال لوجه، ثم لا يترك ما سواه في ذلك الوجه، ألاترى أنّه لا يصح أن يتجنّب سلوك طريق لأن فيها سبعاً، ثم لا يتجنب سلوك طريق أُخرى فيها سبع. وكذلك لا يصح أن لا يتناول طعاماً لأنّ فيه سماً، ثم يتناول طعاماً آخر مع أنّ فيه سماً18
يلاحظ عليه: إنّ الأفعال القبيحة تختلف شدة وضعفاً، وان كانت تشترك في كونها عدواناً على اللّه وخرقاً لحدوده، ولكنها مع ذلك تختلف في جهات القبح، وعلى ذلك فربما يوجد داع إلى الندم في بعض القبائح دون الأُخرى، وذلك بأن يقترن ببعض القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب، أو كثرة الزواجر عنه، أو الشناعة على فعله عند العقلاء، دون قبائح أُخرى، فعندئذ ربما يرجح الندم على القبائح المحتفة بما يوجد الندم في النفس دون الأُخرى. ولو اشتركت جميع القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع الندم عليها جميعاً، ولم يصح الندم على البعض دون الآخر19.
وهذا يلمسه الانسان في حياة المجرمين، فربما يحضر عاص أندية الوعظ والارشاد، فيستمع إلى الخطيب، يندد ببعض المعاصي كشرب الخمر، وأكل الربا، ويذكر قبحهما وشناعتهما، وما يترتب عليهما من إشاعة البغضاء في المجتمع، فيحصل في نفسه داع قوي يدفعه إلى ترك هذين القبيحين، وفي الوقت نفسه قد لا يجد داعياً لترك غيرهما من المعاصي التّي اعتاد عليها، كالغيبة لا لأنه لا يراها قبيحة، بل لأنها لم تحتف بما يوجد داعي الندم في نفسه، بخلاف الأولين، فجميعها، اذن تشترك في القبح والشناعة، غير أنّ الأوّلين يتميزان بوجود الداعي إلى التوبة عنهما فتاب، دون الآخر.
وبذلك يظهر الجواب عما ذكره أبوهاشم من أنّه إذا كانت توبته عن بعض القبائح لأجل قبحها، فهو موجود في البعض الآخر أيضاً، فلم تاب عن الأُولى دون الأُخرى؟
وجه الجواب أنّ الكل يشترك في القبح، لكن ترك البعض دون الآخر، لا لأجل اعتقاده أنّ واحداً قبيح دون الآخر، بل إنه يعتقد بقبحهما، ولكن الداعي للتوبة موجود في أحدهما دون الآخر.
ولقد أحسن المحقق الطوسي، حيث قال: التحقيق أنّ ترجيح الداعي إلى الندم على البعض يبعث عليه خاصة، وان اشترك الداعي في الندم على القبيح لقبحه، كما في الدواعي إلى الفعل. ولو اشترك الترجيح، اشترك وقوع الندم، فلا يصح الندم 20.
ومما يوضح ذلك أنّه لو أسلم يهودي ورجع عن كفره، نادماً على ما مضى من عمره، ولكنه بقي مصراً على صغيرة من الصغائر، فلو قلنا بأنّ التوبة من القبائح لا تتبعض لزم أنّ لا تكون توبته مقبولة ، وهو خرق للاجماع وإلى هذا ينظر قول المحقق الطوسى، "وإلا لولا التبعيض، لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه المقيم على صغيرة"21.
والعجب أنّ القاضي عبد الجبار استحسن قول أبي هاشم وأراد التخلص من هذا الأشكال فقال: إنّه لا يسقط من عقوبته شيء لأنه لم يأت بما يسقط العقوبة عامة، فبقيت عقوبته كما كانت، نعم، لا يجري عليه أحكام اليهود22.
كيف يقول لا يسقط من عقوبته شيء مع أنّه كان كافراً فصار مؤمناً، والايمان يكفر الشرك وعقوبته باتفاق المسلمين، فالقول ببقاء عقوبة الشرك مع أنّه صار مؤمناً بحجة أنّه لم يزل يرتكب صغيرة، مخالف لنص الآيات واتفاق المسلمين، ومعاملة النبي للمشركين الذين آمنوا، ولو كان رفع العقوبة مقيّداً بعدم الاصرار على صغيرة، من الذنوب التّي كان يرتكبها المشرك، لأصحر به النبي وبيّنه.
بقي هنا أبحاث طفيفة في التوبة، يظهر حالها مما أوضحناه(مثل ما إذا اغتاب انسان رجلا، فهل يجب عليه الاعتذار منه، خاصة إذا بلغته الغيبة أو لا؟ وهذه مسألة فقهية.
وإذا كان التائب عالماً بذنوبه على التفصيل فهل يجب التوبة عن كل واحدة منها، أو تكفي التوبة عنها اجمالا؟
وهل يجب تجديد التوبة، كلما تذكر التائب، معصيته السابقة؟
وغير ذلك مما ذكره المتكلمون، لاحظ التجريد وشروحه، في التوبة، المسألة الحادية عشرة.). نسألة سبحانه أن يتوب علينا، ويكتب الغفران في صحائف أعمالنا، بفضله وكرمه.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني،مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج4،ص323-336
1- اوائل المقالات، ص 61.
2- نهج البلاغة: قسم الحكم، الرقم 417، وسنرجع الى هذا الحديث عند استعراض أحكام التوبة، وانما أوردناه هنا جملة واحدة ليسهل الرجوع اليه.
3- شرح الأُصول الخمسة، ص 789.
4- وقد نقله العلامة المجلسي عن الشيخ البهائي، لاحظ البحار، ج 6، ص 48.
5- شرح المقاصد، ج 2، ص 242.
6- اوائل المقالات، ص 62.
7- نهج البلاغه، قسم الحكم، الرقم 417.
8- شرائع الاسلام، كتاب الحدود، الباب الرابع في حدّ المسكر.
9- المصدر السابق، الباب الثاني، في أحكام اللواط.
10- شرح المقاصد، ج 2 ص 242.
11- كشف المراد، ص 268. ولاحظ شرح الأُصول الخمسة، ص 798.
12- كشف المراد، ص 268 ط صيدا. ولاحظ شرح المقاصد، ج 2 ص 242.
13- مجمع البيان، ج 1، ص 242.
14- كشف المراد، ص 246، ط صيدا، بتصرف.
15- نهج البلاغه: قسم الحكم، الرقم 237.
16- كشف المراد، ص 268.
17- شرح الأُصول الخمسة، ص 795.
18- شرح الأُصول الخمسة، ص 795.
19- لاحظ كشف المراد، ص 265 ـ 266 ط صيدا.
20- كشف المراد، ص 260، ط صيدا.
21- المصدر السابق نفسه.
22- شرح الأُصول الخمسة، ص 797.