بماذا تُمَيَّزُ المعجزةُ عن السحر؟
مباحث النبوة العامة
لا ريب في أن هناك جماعة من الناس لهم القدرة على القيام بأعمال مدهشة وعجيبة لا يمكن تفسيرها عن طريق العلوم المتعارفة وهؤلاء كالمرتاضين الهنود وغيرهم، الذين تقدم نقل شطر من أعمالهم. وكالسحرة والمشعوذينوكأساتذة التنويم المغناطيسي، الّذي كشفه "مسمر" الألماني في القرن الثامن عشر...
عدد الزوار: 108
لا ريب في أن هناك جماعة من الناس لهم القدرة على القيام بأعمال مدهشة وعجيبة لا يمكن تفسيرها عن طريق العلوم المتعارفة وهؤلاء كالمرتاضين الهنود وغيرهم، الذين تقدم نقل شطر من أعمالهم. وكالسحرة والمشعوذين.
وكأساتذة التنويم المغناطيسي، الّذي كشفه "مسمر" الألماني في القرن الثامن عشر، وبه يتمكن الأستاذ من السيطرة على الوسيط الّذي فيه استعداد خاص للتأثّر، وكيفية ذلك أنّ الإستاذ ينظر في عين الوسيط نظرات عميقة ويجري عليه حركات يسمونها "سحبات"، فما تمضي لحظة إلاّ ويغطّ الوسيط غطيط النوم، وعلى وجه لو قام أحد يَخزُهُ بالإبرة وَخَزات عديدة، لا يبد الوسيط حراكاً، ولا يُظهر أَيّ شيء يدلّ على شعوره وإحساسه. فعند ذلك يقوم الأستاذ بسؤاله أسئلة ربما يقتدر معها على كشف المغيبات، ويستطيع أن يتصرف فيه بنحو يقنعه معه بتغيير اسمه، وغير ذلك1.
وهنا يُطرح السؤال التالي: مع وجود هذه الأمور المدهشة والعجيبة والخارقة للقوانين المتعارفة، الّتي تحصل بالرياضة وسحر السحرة، وألاعيب المشعوذين، فكيف نتمكن من تمييزها عن المعجزة والآية الإلهية؟.
وهذا من المباحث الحساسة في النبوّة العامة، إذ به تتبين حدود المعجزة الّتي تمّيزها وتفصلها عن سائر خوارق العادة.
والجواب: إنّ هناك مجموعة من الضوابط والحدود الّتي تمتاز بها المعجزة عن سائر خوارق العادة وهي:
الأول: إنّ السِّحر ونحوه رهن التعليم دون الإعجاز
إنّ ما تنتجه الرياضة والسحر والشعوذة من آثار خارقة للعادة، جميعها خاضعة لمناهج تعليمية، لها أساتذتها وتلامذتها، وتحتاج إلى الممارسة المتواصلة والدؤوبة حتى يصل طالبها إلى النتائج المطلوبة، فينام على مسامير مُحَدَّدَة، وتكسر الصخور بالمطارق على صدره، من دون أن يصاب بجراح في صدره أو ظهره، أو يقوم بحركات توجب تأثيراً نفسياً على إنسان آخر، فيُذهب وَعْيَه ويتصرف فيه، أو يقوم بألاعيب خفيّة يبهر بها العيون، ويستولي بها على القلوب، فيصوّر غير الواقع واقعاً متحققاً. وكل هذا آثر التعليم والتعلّم وكثرة الممارسة والمجاهدة.
وأمّا الإعجاز الّذي يقوم به الأنبياء فإنّه منزّه عن هذا الوصمة، فإنّ ما يأتونه من الأعمال المدهشة الخارقة للعادة، لم يدرسوه في منهاج، ولا تلقوه على يد أُستاذ، ولا قضوا أعمارهم في التدرّب والتمرّن عليه.
ولأجل ذلك نرى أنّ الكليم عليه السَّلام عندما رجع من مَدْيَن إلى مصر: ﴿نُودِيَ مِنْ شَاطئ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَاَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾(القصص:30ـ32).
فكان هذا عملاً إبداعياً غير مسبوق بتعلّم ولا تمّرن، ولذلك استولى عليه الخوف في بداية الأمر، فوافاه الخطاب من جانبه تعالى: ﴿يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾(النمل:10).
قال القاضي عبد الجبار: "إنّ الحيلة مَمّا يمكن أن تتعلم وتُعَلَّم، وهذا غير ثابت في المعجزة"2.
الثاني: إنّ السِّحر ونحوه قابل للمعارضة دون المعجزة
إنّ عمل المرتاضين والسَّحَرَة بما أنّه نتاج التعليم والتعلّم، يكثر وقوعه ويسهل الإتيان بمثله على كل من تلقّى تلك الأُصول وتدرّب عليها، ولذا قال القاضي عبد الجبار: "إنّ الحيل ممّا يقع فيها الإشتراك وليس كذلك المعجزة"3.
الثالث: إنّ السحر ونحوه لا يقترن بالتحدي بخلاف الإعجاز
إنّ السَّحَرة والمرتاضين، وإن كانوا يأتون بالعجائب ويفعلون الغرائب، إلاّ أنّ واحداً منهم لا يجرؤ على تحدّي الناس، ودعوتهم إلى مقابلته، لعلمهم بأنّ الدعوة إلى التحدّي لن تتم لصالحهم، إذ ما أكثر السحرة وأهل الرياضة من أمثالهم.
وهذا بخلاف أهل الإعجاز، فإنّهم لا يأتون بمعجزة إلاّ ويقرنوها بالتحدّي، ولذلك أُمر النبي بأن يقول:﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً﴾(الإسراء:88).
الرابع: إنّ السحر ونحوه محدود من حيث التنوع دون المعاجز
إنّ عمل أهل الرياضة والسحر، لما كان رهن التعليم والتعلّم، متشابه في نوعه، متّحد في جنسه، يدور في فلك واحد، ولا يخرج عن نطاق ما تعلمه أهله ومارسوه، ولذا لا يأتون بما يريده الناس والمتفرجون، بل بما تدرّبوا عليه، وافق طلب الناس أو لا.
بخلاف إعجاز الأنبياء، فإنّه على جانب عظيم من التنوع في الكيفية إلى حدٍّ قد لا يجد الإنسان بين المعجزات قدراً مشتركاً وجنساً قريباً. فشتّان ما بين قلب العصا إلى الثعبان الحي، قال تعالى: ﴿فّأَلقى عَصاهُ فإذا هي ثُعْبانٌ مُبينٌ﴾(الأعراف:107)، وضربها على الأحجار ليتفجر منها الماء، قال تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقىَ مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾(البقرة:60)، وضربها على البحر لينفلق شطرين، كل فرق كالطَّوْد العظيم، قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْق كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾(الشعراء:63)، وإخراج اليد من الجبيب بيضاء تتلألأ، قال تعالى: ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾(الاعراف:108)، وغير ذلك من معاجز موسى عليه السَّلام .
وكذلك الحال في آيات المسيح البيّنات، المُبهرة للعقول والمدهشة للقلوب، فتارة ينفخ في هيئة الطير المجسّمة من الطين فتدب الحياة فيها، وتنبض بالدماء عروقها، فتكون طيراً بإذن الله. وأخرى يبرئ الأكمه والأبرص، وثالثة يحيي الموتى، ورابعة ينبئ الناس بما يأكلون في بيوتهم ويدّخرون فيها4، ولذلك يصفها تعالى بالجلال والتقدير بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(آل عمران:49).
وهذا التنوع في الكيفية، نتيجة كون قدرتهم مستندة إلى القدرة الإلهية.
نعم إنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون معاجز الأنبياء مناسبة للفنون الرائجة في عصورهم، حتى يتسنى لخبراء كل فنّ تشخيص المعاجز وإدراك استنادها إلى القدرة الغيبيّة، وتمييزها عن الأعمال الباهرة المستندة إلى العلوم والفنون الرائجة. وتتّضح حقيقة ما ذكرناه، في السحرة الذين بارزوا موسى عليه السَّلام ، فإنّهم، لكونهم من أهل الخبرة والمعرفة بحقيقة السحر وفنونه، أدركوا فوراً، بعدما ألقى موسى عصاه وانقلبت ثعباناً حيّاً التقف حبالهم وعصيّهم أدركوا أنّه ليس من جنس السحر، وأنّه معجزة خارقة متصلة بالقدرة الإلهية، ولذلك سرعان ما خضعوا للحق كما يحكيه عنهم تعالى بقوله: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الأعراف:120-121).
قال القاضي عبد الجبار: إنّ المُشَعْوِذ والمحتال إنّما يَنفذ حيلته على من لم يكن من أهل صناعته، ولا يكون له دراية ومعرفة، وليس هذا حال المعجزة، فقد جعل الله سبحانه وتعالى معجزة كل نبي ممّا يتعاطاه أهل زمانه، حتى جعل معجزةَ موسى عليه السَّلام قَلْب العصا حيّةً، لما كان الغالب على أهل ذلك الزمان، السحر. وجعل معجزة عيسى عليه السَّلام إبراءَ الأَكْمَهِ والأَبْرَصَ، لما كان الغالب على أهل زمانه الطب. وجعل معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم "القرآن"، وجعله في أعلى طبقات الفصاحة، لما كانت الغلبة للفصاحة والفصحاء في ذلك الزمان، وبها كان يفاخر أهله ويتباهى"5.
الخامس: الإختلاف من حيث الأهداف والغايات
إنّ أصحاب المعاجز يتبنون أهدافاً عالية، ويتوسلون بمعاجزهم لإثبات أحقية تلك الأهداف، ونشرها. وهي تتمثل في الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده، وتخليص الإنسان من عبودية الأصنام والحجارة والحيوانات، والدعوة إلى الفضائل ونبذ الرذائل، واستقرار النظام الاجتماعي للبشر، وغير ذلك.
وهذا بخلاف المرتاضين والسحرة، فغايتهم إمّا كسب الشهرة والسمعة بين الناس، أو جمع المال والثروة، وغير ذلك مّما يناسب متطلبات القوى البهيمية، وإنّك لاترى مرتاضاً أو ساحراً يقوم بنشر منهج أخلاقي أو اجتماعي فيه إنقاذ البشر من الظلم والإضطهاد، ويدعو إلى التقوى والعفة وما شابه.
والسبب في ذلك واضح، فإنّ الأنبياء خريجوا مدرسة إلهية تزخر بالدعوة إلى الفضائل والإجتناب عن الرذائل، فلا يقومون بالإعجاز إلاّ لنشر أهداف مدرستهم. وأما غيرهم، فهم خريجوا المدرسة المادية الّتي لا هَمَّ لها إلاّ إرضاء ميولها الحيوانية، وإشباع لذّاتها وشهواتها.
السادس: الإختلاف في النفسانيات
إنّ أصحاب المعاجز باعتبار كونهم خريجي المدرسة الإلهية متحلّون بأكمل الفضائل والأخلاق الإنسانية والمتصفح لسيرتهم لا يجد فيها أيّ عمل مشين ومناف للعفة ومكارم الأخلاق.
وأمّا أصحاب الرياضة والسحر، فهم دونهم في ذلك، بل تراهم غالباً متحللين عن المثل والفضائل والقيم.
فبهذه الضوابط الستّ يتمكن الإنسان من تمييز المعجزة عن غيرها من الخوارق، والنبيِّ عن المرتاض والساحر، والحق عن الباطل. وهذه المميزات، وإن كانت تهدف إلى أمر واحد، إلاّ أنّها تختلف في الحيثيات:
فالأول منها يهدف إلى الفرق بين المعجزة وغيرها من حيث المبادئ.
والثاني إلى الفرق من حيث تحديد القدرة، فقدرة السَحَرة في حدّ القدرة البشرية، وقابلة للمعارضة، بخلاف إعجاز الأنبياء.
والثالث إلى الفرق في كيفية الإتيان بالعمل، فالمعجزة تقترن بالتحدّي دون غيرها.
والرابع إلى قلّة التنوع في عمل السحرة، وكثرته في عمل الأنبياء.
والخامس إلى الفرق من حيث الغاية.
والسادس إلى الفرق من حيث صفات وروحيات أصحاب المعاجز، وغيرهم.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص107-113.
2009-07-22
وكأساتذة التنويم المغناطيسي، الّذي كشفه "مسمر" الألماني في القرن الثامن عشر، وبه يتمكن الأستاذ من السيطرة على الوسيط الّذي فيه استعداد خاص للتأثّر، وكيفية ذلك أنّ الإستاذ ينظر في عين الوسيط نظرات عميقة ويجري عليه حركات يسمونها "سحبات"، فما تمضي لحظة إلاّ ويغطّ الوسيط غطيط النوم، وعلى وجه لو قام أحد يَخزُهُ بالإبرة وَخَزات عديدة، لا يبد الوسيط حراكاً، ولا يُظهر أَيّ شيء يدلّ على شعوره وإحساسه. فعند ذلك يقوم الأستاذ بسؤاله أسئلة ربما يقتدر معها على كشف المغيبات، ويستطيع أن يتصرف فيه بنحو يقنعه معه بتغيير اسمه، وغير ذلك1.
وهنا يُطرح السؤال التالي: مع وجود هذه الأمور المدهشة والعجيبة والخارقة للقوانين المتعارفة، الّتي تحصل بالرياضة وسحر السحرة، وألاعيب المشعوذين، فكيف نتمكن من تمييزها عن المعجزة والآية الإلهية؟.
وهذا من المباحث الحساسة في النبوّة العامة، إذ به تتبين حدود المعجزة الّتي تمّيزها وتفصلها عن سائر خوارق العادة.
والجواب: إنّ هناك مجموعة من الضوابط والحدود الّتي تمتاز بها المعجزة عن سائر خوارق العادة وهي:
الأول: إنّ السِّحر ونحوه رهن التعليم دون الإعجاز
إنّ ما تنتجه الرياضة والسحر والشعوذة من آثار خارقة للعادة، جميعها خاضعة لمناهج تعليمية، لها أساتذتها وتلامذتها، وتحتاج إلى الممارسة المتواصلة والدؤوبة حتى يصل طالبها إلى النتائج المطلوبة، فينام على مسامير مُحَدَّدَة، وتكسر الصخور بالمطارق على صدره، من دون أن يصاب بجراح في صدره أو ظهره، أو يقوم بحركات توجب تأثيراً نفسياً على إنسان آخر، فيُذهب وَعْيَه ويتصرف فيه، أو يقوم بألاعيب خفيّة يبهر بها العيون، ويستولي بها على القلوب، فيصوّر غير الواقع واقعاً متحققاً. وكل هذا آثر التعليم والتعلّم وكثرة الممارسة والمجاهدة.
وأمّا الإعجاز الّذي يقوم به الأنبياء فإنّه منزّه عن هذا الوصمة، فإنّ ما يأتونه من الأعمال المدهشة الخارقة للعادة، لم يدرسوه في منهاج، ولا تلقوه على يد أُستاذ، ولا قضوا أعمارهم في التدرّب والتمرّن عليه.
ولأجل ذلك نرى أنّ الكليم عليه السَّلام عندما رجع من مَدْيَن إلى مصر: ﴿نُودِيَ مِنْ شَاطئ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَاَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾(القصص:30ـ32).
فكان هذا عملاً إبداعياً غير مسبوق بتعلّم ولا تمّرن، ولذلك استولى عليه الخوف في بداية الأمر، فوافاه الخطاب من جانبه تعالى: ﴿يَا مُوسَى لاَ تَخَفْ إنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ﴾(النمل:10).
قال القاضي عبد الجبار: "إنّ الحيلة مَمّا يمكن أن تتعلم وتُعَلَّم، وهذا غير ثابت في المعجزة"2.
الثاني: إنّ السِّحر ونحوه قابل للمعارضة دون المعجزة
إنّ عمل المرتاضين والسَّحَرَة بما أنّه نتاج التعليم والتعلّم، يكثر وقوعه ويسهل الإتيان بمثله على كل من تلقّى تلك الأُصول وتدرّب عليها، ولذا قال القاضي عبد الجبار: "إنّ الحيل ممّا يقع فيها الإشتراك وليس كذلك المعجزة"3.
الثالث: إنّ السحر ونحوه لا يقترن بالتحدي بخلاف الإعجاز
إنّ السَّحَرة والمرتاضين، وإن كانوا يأتون بالعجائب ويفعلون الغرائب، إلاّ أنّ واحداً منهم لا يجرؤ على تحدّي الناس، ودعوتهم إلى مقابلته، لعلمهم بأنّ الدعوة إلى التحدّي لن تتم لصالحهم، إذ ما أكثر السحرة وأهل الرياضة من أمثالهم.
وهذا بخلاف أهل الإعجاز، فإنّهم لا يأتون بمعجزة إلاّ ويقرنوها بالتحدّي، ولذلك أُمر النبي بأن يقول:﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً﴾(الإسراء:88).
الرابع: إنّ السحر ونحوه محدود من حيث التنوع دون المعاجز
إنّ عمل أهل الرياضة والسحر، لما كان رهن التعليم والتعلّم، متشابه في نوعه، متّحد في جنسه، يدور في فلك واحد، ولا يخرج عن نطاق ما تعلمه أهله ومارسوه، ولذا لا يأتون بما يريده الناس والمتفرجون، بل بما تدرّبوا عليه، وافق طلب الناس أو لا.
بخلاف إعجاز الأنبياء، فإنّه على جانب عظيم من التنوع في الكيفية إلى حدٍّ قد لا يجد الإنسان بين المعجزات قدراً مشتركاً وجنساً قريباً. فشتّان ما بين قلب العصا إلى الثعبان الحي، قال تعالى: ﴿فّأَلقى عَصاهُ فإذا هي ثُعْبانٌ مُبينٌ﴾(الأعراف:107)، وضربها على الأحجار ليتفجر منها الماء، قال تعالى: ﴿وَإِذِ اسْتَسْقىَ مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾(البقرة:60)، وضربها على البحر لينفلق شطرين، كل فرق كالطَّوْد العظيم، قال تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْق كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ﴾(الشعراء:63)، وإخراج اليد من الجبيب بيضاء تتلألأ، قال تعالى: ﴿وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ﴾(الاعراف:108)، وغير ذلك من معاجز موسى عليه السَّلام .
وكذلك الحال في آيات المسيح البيّنات، المُبهرة للعقول والمدهشة للقلوب، فتارة ينفخ في هيئة الطير المجسّمة من الطين فتدب الحياة فيها، وتنبض بالدماء عروقها، فتكون طيراً بإذن الله. وأخرى يبرئ الأكمه والأبرص، وثالثة يحيي الموتى، ورابعة ينبئ الناس بما يأكلون في بيوتهم ويدّخرون فيها4، ولذلك يصفها تعالى بالجلال والتقدير بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾(آل عمران:49).
وهذا التنوع في الكيفية، نتيجة كون قدرتهم مستندة إلى القدرة الإلهية.
نعم إنّ الحكمة الإلهية اقتضت أن تكون معاجز الأنبياء مناسبة للفنون الرائجة في عصورهم، حتى يتسنى لخبراء كل فنّ تشخيص المعاجز وإدراك استنادها إلى القدرة الغيبيّة، وتمييزها عن الأعمال الباهرة المستندة إلى العلوم والفنون الرائجة. وتتّضح حقيقة ما ذكرناه، في السحرة الذين بارزوا موسى عليه السَّلام ، فإنّهم، لكونهم من أهل الخبرة والمعرفة بحقيقة السحر وفنونه، أدركوا فوراً، بعدما ألقى موسى عصاه وانقلبت ثعباناً حيّاً التقف حبالهم وعصيّهم أدركوا أنّه ليس من جنس السحر، وأنّه معجزة خارقة متصلة بالقدرة الإلهية، ولذلك سرعان ما خضعوا للحق كما يحكيه عنهم تعالى بقوله: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(الأعراف:120-121).
قال القاضي عبد الجبار: إنّ المُشَعْوِذ والمحتال إنّما يَنفذ حيلته على من لم يكن من أهل صناعته، ولا يكون له دراية ومعرفة، وليس هذا حال المعجزة، فقد جعل الله سبحانه وتعالى معجزة كل نبي ممّا يتعاطاه أهل زمانه، حتى جعل معجزةَ موسى عليه السَّلام قَلْب العصا حيّةً، لما كان الغالب على أهل ذلك الزمان، السحر. وجعل معجزة عيسى عليه السَّلام إبراءَ الأَكْمَهِ والأَبْرَصَ، لما كان الغالب على أهل زمانه الطب. وجعل معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم "القرآن"، وجعله في أعلى طبقات الفصاحة، لما كانت الغلبة للفصاحة والفصحاء في ذلك الزمان، وبها كان يفاخر أهله ويتباهى"5.
الخامس: الإختلاف من حيث الأهداف والغايات
إنّ أصحاب المعاجز يتبنون أهدافاً عالية، ويتوسلون بمعاجزهم لإثبات أحقية تلك الأهداف، ونشرها. وهي تتمثل في الدعوة إلى عبادة الله تعالى وحده، وتخليص الإنسان من عبودية الأصنام والحجارة والحيوانات، والدعوة إلى الفضائل ونبذ الرذائل، واستقرار النظام الاجتماعي للبشر، وغير ذلك.
وهذا بخلاف المرتاضين والسحرة، فغايتهم إمّا كسب الشهرة والسمعة بين الناس، أو جمع المال والثروة، وغير ذلك مّما يناسب متطلبات القوى البهيمية، وإنّك لاترى مرتاضاً أو ساحراً يقوم بنشر منهج أخلاقي أو اجتماعي فيه إنقاذ البشر من الظلم والإضطهاد، ويدعو إلى التقوى والعفة وما شابه.
والسبب في ذلك واضح، فإنّ الأنبياء خريجوا مدرسة إلهية تزخر بالدعوة إلى الفضائل والإجتناب عن الرذائل، فلا يقومون بالإعجاز إلاّ لنشر أهداف مدرستهم. وأما غيرهم، فهم خريجوا المدرسة المادية الّتي لا هَمَّ لها إلاّ إرضاء ميولها الحيوانية، وإشباع لذّاتها وشهواتها.
السادس: الإختلاف في النفسانيات
إنّ أصحاب المعاجز باعتبار كونهم خريجي المدرسة الإلهية متحلّون بأكمل الفضائل والأخلاق الإنسانية والمتصفح لسيرتهم لا يجد فيها أيّ عمل مشين ومناف للعفة ومكارم الأخلاق.
وأمّا أصحاب الرياضة والسحر، فهم دونهم في ذلك، بل تراهم غالباً متحللين عن المثل والفضائل والقيم.
فبهذه الضوابط الستّ يتمكن الإنسان من تمييز المعجزة عن غيرها من الخوارق، والنبيِّ عن المرتاض والساحر، والحق عن الباطل. وهذه المميزات، وإن كانت تهدف إلى أمر واحد، إلاّ أنّها تختلف في الحيثيات:
فالأول منها يهدف إلى الفرق بين المعجزة وغيرها من حيث المبادئ.
والثاني إلى الفرق من حيث تحديد القدرة، فقدرة السَحَرة في حدّ القدرة البشرية، وقابلة للمعارضة، بخلاف إعجاز الأنبياء.
والثالث إلى الفرق في كيفية الإتيان بالعمل، فالمعجزة تقترن بالتحدّي دون غيرها.
والرابع إلى قلّة التنوع في عمل السحرة، وكثرته في عمل الأنبياء.
والخامس إلى الفرق من حيث الغاية.
والسادس إلى الفرق من حيث صفات وروحيات أصحاب المعاجز، وغيرهم.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص107-113.
1- لاحظ مناهل العرفان، ج 1، ص 61.
2- شرح الأصول الخمسة، ص 572.
3- شرح الأصول الخمسة، 572.
4- اقتباس من الآية 49 من سورة آل عمران المباركة.
5- شرح الأُصول الخمسة، ص 572