دلالةُ الإعجاز على صدق دعوى النبوّة
مباحث النبوة العامة
صفحات التاريخ تشهد على وجود أُناس ادّعوا السفارة من الله والإنباء عنه، عن كذب وافتراء، ولم يكن لهم متاع غير التزوير، ولا هدف سوى السلطة والرئاسة.ومن هنا كان لا بدّ من معايير وضوابط لتمييز النبي عن المتنبي، ومن جملتها تَجهّز المدّعي بالإعجاز، وإتيانه بخوارق العادة، متحدياً بها غيره ...
عدد الزوار: 94
صفحات التاريخ تشهد على وجود أُناس ادّعوا السفارة من الله والإنباء عنه، عن كذب وافتراء، ولم يكن لهم متاع غير التزوير، ولا هدف سوى السلطة والرئاسة.
ومن هنا كان لا بدّ من معايير وضوابط لتمييز النبي عن المتنبي، ومن جملتها تَجهّز المدّعي بالإعجاز، وإتيانه بخوارق العادة، متحدياً بها غيره على وجه لايقدر أحد على مقاومته، حتى نوابغ البشر.
ويظهر من الآيات الواردة في القرآن الكريم أن طلب الإعجاز دليلاً على صدق المدّعي، كان أمراً فطرياً، يطلبه الناس من الأنبياء عند دعواهم النبوّة والسفارة الإلهية، ولأجل ذلك لمّا ادّعى "صالح" عليه السَّلام، النبوّة، قوبل بجواب قومه: ﴿مَا أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَة إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾(الشعراء:154).
وقد يخبر الإنبياء الناس بتجهيزهم بالمعاجز عند طرحهم دعوى النبوة، قبل أن يطلبها الناس منهم، كما قال موسى مخاطباً الفراعنة: ﴿حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَة مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ * قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَة فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾(الاعراف:105-106).
وكما جاء في عيسى المسيح عليه السَّلام، من قوله تعالى: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَة مِنْ رَبِّكُمْ﴾(آل عمران:49).
ولكن الكلام في وجه دلالة الاعجاز على صدق قولِ المدعي، فهل هو دليل برهاني بحيثُ يكون بين المعجزة وصدق المدّعي رابطةٌ منطقيةٌ، تستلزم الأولى معها، وجود الثانية؟ أو هو دليل إقناعي، يرضي عامة الناس وسوادهم ويجلب اعتقادهم بصدق دعوى المدّعي؟.
هناك من يتخيل أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبي، دلالة إقناعية لا برهانية، ويستدلّ هؤلاء المتوهمون، على مقالتهم، بأنّ الدليل البرهاني يتوقف على وجود رابطة منطقية بين المّدَّعَي والدليل، وتلك الرابطة غير موجودة في المقام. إذ كيف يكون خرق العادة وعجز الناس عن المقابلة، دليلاً على صدق المدّعي في كونه نبيّاً وحاملاً لشريعة إلهية. إذ لو صحّ ذلك لصحّ أن يقال: إنّ قيام الطبيب بعملية جراحية بديعة، دليلٌ على صدق مقاله في المسائل النجومية والفلكية. أو صدق تخطيطاته السياسية والاجتماعية. ومن المعلوم، انتفاء الرابطة المنطقية بينها.
ولأجل ذلك يضيف المتوهم لا يدلّ قيام المسيح بإحياء الموتى وإبراء المرضى، على صدق ما يدّعيه، بدلالة برهانية. وإنّما يُكتفى به، لأنّ مشاهدة هذه الأعمال العظيمة تجعل للقائم بها في نفوس الناس مكانةً عالية، بحيث يأخذ مجامع قلوبهم ويستولي على ألبابهم، فيقنعهم، ويجلب يقينهم بصدق دعواه.
هذا، ولكن الحق وجود الرابطة المنطقية بين الإعجاز ودعوى النبوة، ويمكن إثبات ذلك ببيانين:
البيان الأول لوجود الرابطة المنطقية
ويتّضح بملاحظة الأمور التالية، الّتي يسلمها الخصم أيضاً:
الأول: أنّ الخالق عادلٌ لا يجور، وحكيمٌ لا يفعل ما يناقض الحكمة.
الثاني: أنّه سبحانه يريد هداية الناس، ولا يرضى بضلالتهم وكفرهم.
الثالث: أنّ المعجزة إنّما تعدّ سنداً لصدق دعوى النبوة إذا كان حاملها واجداً لشرطين:
1- أن تكون سيرته نقية الثوب، وبيضاء الصحيفة، لم يُسَوِّدها شيء من الأعمال المشينة.
2ـ أن تكون شريعته مطابقة للعقل، وموافقة للفطرة. أو على الأقل، لا يرى فيها ما يخالف العقل والفطرة.
فلو أنتفى الشرط الأول، بأن كانت سوابقه سيئة، لكفى ذلك في تنفر الناس عنه.
وكذا لو انتفى الشرط الثاني، بأن كانت شريعته مخالفة للعقل والفطرة، لما تَقَبَّلها أصحاب العقول السليمة.
وأمّا لو توفّر الشرطان فيه، فتتطاول إليه الأعناق، وتنقاد له القلوب، ولشرعه العقول، فيسلّمون ما يقول، ويطيعون ما أمر.
وهنا نقول: لو كانت دعوة هذا المدّعي، صادقة، فإعطاؤه القدرة على الإتيان بالعجائب والخوارق، مطابق للحكمة الإلهية.
وأمّا لو كانت دعواه كاذبة، فإعطاؤه تلك القدرة، وتسخير عالم التكوين له، في تلك الظروف، على خلاف الحكمة، وعلى خلاف الأصل الثاني المتقدم أعني أنّه تعالى يريد هداية الناس، ولا يرضى بإضلالهم، وذلك لأنّه تعالى يعلم أنّ الظروف تُوجِدُ في الناس خضوعاً لهذا الشخص، فيكون إقداره على الاعجاز، مع كونه كاذباً، إغراءً بالضلالة، وصدّاً عن الهداية، والله تعالى حكيم لا يفعل ما يناقض غرضه وينافي إرادته، فأي دلالة منطقية أوضح من ذلك؟.
ولك أن تصب هذا الإستدلال في قالب القياس المنطقي، فتقول:
إنّه سبحانه حكيم، والحكيمُ لا يجعل الكون ولا بعضَه مُسَخَّراً للكاذب، فالله سبحانه لا يجعل الكون ولا بعضه مسخراً للكاذب. ولكن المفروض أنّ هذا المدّعي مُسَخِّر للكون، فينتج أنّه ليس بكاذب بل صادق.
ولا بُدّ من الإشارة هنا إلى أنّ دلالة المعجزة على صدق دعوى النبوّة يتوقف على القول بالحسن والقبح العقليين، وأمّا الذين أعدموا العقل ومنعوا حكمه بهما، فيلزم عليهم سدّ باب التصديق بالنبوّة من طريق الإعجاز، لأنّ الإعجاز إنّما يكون دليلاً على صدق النبوّة، إذا قَبُح في العقل إظهار المعجزة على يد الكاذب، فإذا توقف العقل عن إدراك قبحه، واحتمل صحة إمكان ظهوره على يد الكاذب، لا يَقْدِرُ على التمييز بين الصادق والكاذب1.
وفي بعض كلمات المتكلمين إشارة إلى ما ذكرنا. يقول القوشجي: "إنّما كان ظهور المعجزة طريقاً لمعرفة صدقه لأنّ الله تعالى يخلق عقيبها العلم الضروري بالصدق2، كما إذا قام رجل في مجلس مَلِك بحضور جماعة، وادّعى أنّه رسول هذا الملك إليهم، فطالبوه بالحجة، فقال: هي (الحجة) أن يخالف هذا الملك عادته، ويقوم على سريره، ثلاث مرّات ويقعد، ففعل. فإنّه يكون تصديقاً له، ومفيداً للعلم الضروري بصدقه من غير ارتياب"3.
وقال المحقق الخوئي: "إنّما يكون الإعجاز دليلاً على صدق المدّعي، لأنّ المعجز فيه خرقٌ للنواميس الطبيعية، فلا يمكن أن يقع من أحد إلاّ بعناية من الله تعالى وإقدار منه. فلو كان مدّعي النبوّة كاذباً في دعواه، كان إقداره على المعجز من قِبَل الله تعالى إغراءً بالجهل وإشادةً بالباطل، وذلك محال على الحكيم تعالى، فإذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالّة على صدقه وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوّته.
وهذه قاعدة مطردة يجري عليها العقلاء من الناس فيما يشبه هذه الأمور، ولا يشكون فيها أبداً. فإذا ادّعى أحد من الناس سفارة عن ملك من الملوك في أمور تختصّ برعيته، كان من الواجب عليه اولاً أن يقيم على دعواه دليلاً يعضدها، حين تشكّ الرعية بصدقه، ولا بدّ من أن يكون ذلك الدليل في غاية الوضوح، فإذا قال لهم ذلك السفير: الشاهد على صدقي أن الملك غداً سيحييني بتحيته الخاصة الّتي يحيي بها سفراءه الآخرين، فإذا علم الملك ما جرى بين السفير وبين الرعية ثم حيّاه في الوقت المعيّن بتلك التحية، كان فِعْلُ الملك هذا تصديقاً للمدعي في السفارة.
ولا يرتاب العقلاء في ذلك، لأنّ الملك القادر المحافظ على مصالح رعيته يقبح عليه أن يصدّق هذا المدعي إذا كان كاذباً، لأنّه يريد إفساد الرَّعيّة"4.
القرآن والدّعوى الكاذبة
يخبر القرآن الكريم عن أنّه سبحانه فرض على نفسه معاقبة النبي وإهلاكه إذا كذب على الله تعالى، قال عزّ وجل:﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالَْيمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾(الحاقة:44-47).
قال المحقق الخوئي: "المراد من الآية الكريمة أنّ محمداً الّذي أثبتنا نبوّته، وأظهرنا المعجزة لتصديقه، لا يمكن أن يَتَقَوَّل علينا بعض الأقاويل ولو صنع ذلك، لأخذنا منه باليمين، ولقطعنا منه الوتين، فإنّ سكوتنا عن هذه الأقاويل، إمضاءٌ منّا لها، وإدخال للباطل في شريعة الهدى، فيجب علينا حفظ الشريعة في مرحلة البقاء، كما وجب علينا في مرحلة الحدوث"5.
إنّ هذه الآيات تحكي عن سنّة إلهية جارية في خصوص من ثبتت نبوّتهم بالأدلّة القطعية ودلّت معاجزهم على أنّهم تحت رعايته سبحانه، الّذي اقدرهم بها على التصرّف في الكون. فالإنسان الّذي يصل إلى هذا المقام، يستولي على مجامع القلوب، ويسخّر الناس بذلك لمتابعته، فكل ما يلقيه، ويشرّعه، يأخذ طريقه إلى التنفيذ في حياة الناس والمجتمع. فلو افتعل هذا الإنسان ـ في مثل هذه الظروف ـ كذباً على الله تعالى، اقتضت حكمته سبحانه إهلاكه وإبادته، لمِا في إبقائِه وإدامة حياته، من إضلال الناس، وإبعادهم عن طرق الهداية، الأمر الّذي يناقض مقتضى الحكمة الإلهية الّتي شاءت هداية الناس وإبعادهم عن وسائل الضلالة.
والتدبّر في مفاد هذه الآيات يرشدنا إلى وجود الرابطة المنطقية بين كون النبي محقّاً في دعواه، وإتيانه بالمعجزة وأنّه يتصرف في الكون برضى مبدعه. وبقاؤه على وصف التصرّف كاشف عن رضاه تعالى، وصدق النبي فيما يأتي به.
وبما ذكرنا يعلم أنّ الآيات لا تهدف إلى أنّ دعوى النبوّة كافية في صدق المدّعي، وأنّ المدّعي لو كان كاذباً في دعواه لشملته نقمة الله سبحانه وإماتته، بحجة أنّه لو تقوّل عليه بعض الأقاويل لقطع منه الوتين، فاستمرار المدّعي للنبوّة على الحياة "وإن لم يأت بأية معجزة ولم يُقم برهاناً على صدق دعواه" هو، بحدّ نفسه، كاشفٌ عن صدق دعواه6.
إذ لا ريب أنّ هذه الدعوى أوهن من بيت العنكبوت، ولو صحّت، للزم تصديق كل متنبي في العالم، وإن ثبت كذبه، لمجرّد عدم إهلاك الله تعالى له.
إلى هنا وقفت على البيان الأول الّذي يُثبت أنّ بين دعوى النبوّة والإتيان بالمعجزة، رابطة منطقية.
البيان الثاني لوجود الرابطة المنطقية
إنّ نَفْي الرابطة المنطقية بين الإتيان بالمعجزة وصدق الدعوى، أمر يحتاج إلى التحليل، فهو باطل على وجه وصحيح على وجه آخر، وذلك بالبيان التالي:
إن كان المراد من قلب العصا ثعباناً "مثلاً" أنّه كلأوسط في القياس، دليلٌ على صدق ما يدّعيه النبي من أنّه سبحانه واحدٌ عالمٌ قادرٌ، ليس كمثله شيء.. فلا ريب في عدم صحته. إذ لا يمكن الإستدلال على صحّة هذه الأصول بالتصرف في الكون.
ولأجل ذلك لم يطرح القرآن أصول الإسلام مجردةً عن البرهنة، بل قَرَنَها بلطائف الدلائل والإشارات، يقف عليها كلُّ متدبّر في الذكر الحكيم.
فَيَسْتِدلُّ في البرهنة على وجوده سبحانه بقوله: ﴿أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾(إبراهيم:10).
وفي البرهنة على وحدة المدبّر، بقوله: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾(الأنبياء:22).
وفي البرهنة على إبطال أُلوهيِة الأصنام، بقوله: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاَِنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً﴾(الفرقان:3).
وفي إبطال أُلوهية المسيح، بقوله:﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ﴾(المائدة:75).
إلى غير ذلك من عشرات الآيات الّتي تَطْرَحُ الأُصول والعقائد، بالبراهين الدقيقة. فالمعجزة غير دالّة بالدلالة المطابقية على صحّة المعارف والأصول الّتي يأتي بها صاحبها، بمعنى أنّها ليست الحدّ الأوسط صحّة المدّعى، كالتغيير في قولنا: العاَلم مُتَغَيّر، وكلُّ مُتَغِّير حادث، فالعاَلُم حادث.
وإنْ كان الُمرادُ أنّ خرق العادة الملموسة "أعني قلب العصا حيّة" دليلٌ على أنّهم قادرون على خرق عادة أخرى غير ملموسة "وهي الإتصال بعالم الوحي وكون إدراكات النبي خارجة عن إطار الإدراكات العادية المتعارفة" فهو صحيح، وإليك بيانه:
إنّ الأنبياء عليهما السَّلام ، كانوا يواجهون في تبليغ رسالاتهم إشكالين عظيمين في أعين الناس:
الإشكال الأول: إنّهم كانوا يتخيّلون أنّ النبي المرسل من عالم الغيب، يجب أن يكون من جنس الملائكة، ولا يصحّ أن يكون إنساناً مثلهم.
والقرآن الكريم يحكي عنهم هذا الاعتراض، بقوله: ﴿قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾(إبراهيم:10).
وكان الأنبياء يجيبون سؤالهم بأنّ المماثلة أساس التبليغ، والوحدة النوعية غير مانعة منه، لإمكان أن يتفضل فرد من نوع على فرد من ذاك النوع، فيكون الفاضل مُرْسلاً، والمفضول مُرْسَلاً إليه.
والقرآن الكريم يحكي هذا الجواب، بقوله: ﴿قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾(إبراهيم:11).
الإشكال الثاني: إنّ الإنبياء عليهما السَّلام كانوا يَدَّعون أنّهم يتلقون الأصول والمعارف والأحكام والفروع من الله سبحانه عن طريق الوحي، وهو إدراك خاص يوجد فيهم ولا يوجد في غيرهم، وليس من قبيل الإدراكات العادية الّتي يجدها كل إنسان في صميم ذاته من طريق الإبصار بالعين، والسمع بالأُذن، والتفكّر والإستدلال بالعقل.
وهذه الدعوى كانت تثير السؤال التالي
إنّ ادّعاء الإدراك عن طريق الوحي، إدعاءُ أمر خارق للعادة، فإنّ الإدراكات الإنسانية لا تخرج عن إطار الحسيّات والخياليات والعقليات. فنحن لا نؤمن بقولكم هذا إلاّ إذا شاهدنا خرقاً للعادة يماثل ما تدّعون، حتى نستدلّ بخرق عادة مرئية، على وجود نظيرها في باطن وجودكم، وصميم حقيقتكم.
ومن منطلق إجابة هذا السؤال، كان الانبياء يفعلون الخوارق، ويأتون بالمعاجز، حتى يدللوا بذلك على تمكنهم من خرق العادة مطلقاً، سواء أكانت مرئية، كقلب العصا إلى الثعبان، وتسبيح الحصى "أو غير مرئية" كالإدراك غير المشابه للإدراكات العادية، الّذي هو الوحي.
وإن شئت قلت: كانوا يستدلون بخرق العادة الملموسة، على غير الملموسة منها.
وإلى ما ذكرنا يشير العلامة الطباطبائي رحمهم الله بقوله: "إنّ دعوى النبوّة والرسالة من كل نبي ورسول على ما يقصه القرآن إنّما كانت بدعوى الوحي والتكليم الإلهي بلا واسطة، أو بواسطة نزول ملك، وهذا أمر لا يساعده الحسّ ولا تؤيّده التجربة، فيتوجه عليه الإشكال من جهتين: إحداهما من جهة عدم الدليل عليه، والثانية من جهة الدليل على عدمه. فإنّ الوحي والتكليم الإلهي وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية مّما لا يشاهده البشر في أنفسهم، والعادة الجاري في الأسباب والمسبَّبات تنكره، وقانون العليّة العامة لا يجوزه، فهو أمر خارق للعادة.
فلو كان النبي صادقاً في دعواه النبوّة والوحي، لكان لازمه أنّه متصل بما وراءِ الطبيعة، مؤيّد بقوة إلهية تقدر على خرق العادة، وأنّ الله سبحانه يريد بنبوّته والوحي إليه، خرق العادة. فلو كان هذا حقاً، ولا فرق بين خارق وخارق، كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع، وأن يخرق الله العادة بأمر آخر يصدّق النبوة والوحي من غير مانع عنه، فإنّ حكم الأمثال واحد، فلئن أراد الله هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوة والوحي، فليؤيدها وليصدقها بخارق آخر وهو المعجزة.
وهذا هو الّذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة، كلما جاءهم رسول من أنفسهم6.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص93-102
1- وإن للفضل بن روزبهان الأشعري كلاماً في الخروج عن هذا المأزق، غير تام، فمن أراد فليرجع إلى دلائل الصدق، ج 1 ص 366، وقد أوردناه في الجزء الأول من كتاب الالهيات وأجبنا عليه لاحظ ص 247 ـ 248
2- هذا التعبير صحيح على منهج الأشاعرة من أنّ أفعال العباد كلها مخلوقة لله تعالى، ولكن الحق أنّ هذا العلم يوجَدُ في الإنسان بعد عدّة عوامل.
3- شرح القوشجي على التجريد، ص 465 الطبعة الحجرية، ايران
3- البيان في تفسير القرآن، ص 35 ـ 36، الطبعة الثامنة، 1401 هـ ـ بيروت
4- البيان في تفسير القرآن، ص 36، الطبعة الثامنة، 1401 هـ ـ بيروت
5- ادّعى ذلك الكاتب البهائي، أبو الفضل الجرفادقاني، في كتابه الفرائد، ص 240، طبعة مصر
6- الميزان، ج 1، ص 86.