هل الإعجاز يخالف أصل العليّة؟
مباحث النبوة العامة
إنّ بديهة العقل تحكم بأنّ كلّ ظاهرة إمكانية، تحتاج في تحققِها إلى علّة، وهذا أمر لم يختلف فيه إثنان، وعليه أساسُ التجربة والبحث العلمي، فإنّ العلماء في المختبرات وغيرها يبحثون عن علل تكوّن الظواهر، وموجداتها، فشأنهم كشفُ الروابط بين العلل المادية ومعاليلها، هذا من جانب...
عدد الزوار: 105
إنّ بديهة العقل تحكم بأنّ كلّ ظاهرة إمكانية، تحتاج في تحققِها إلى علّة، وهذا أمر لم يختلف فيه إثنان، وعليه أساسُ التجربة والبحث العلمي، فإنّ العلماء في المختبرات وغيرها يبحثون عن علل تكوّن الظواهر، وموجداتها، فشأنهم كشفُ الروابط بين العلل المادية ومعاليلها، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، إنّ الكتب السماوية، والسِيَر التاريخية، تَنْسِبُ إلى الإنبياء، أموراً لا تتفق بظاهرها مع هذا الأصل، فتنسب إلى موسى عليه السَّلام: أنّه ألقى عصاه الخشبية الصمّاء، فانقلبت حيّةً تسعى. وأنّ المسيح عليه السَّلام كان يمسح بيده على المرضى فيبرؤن. وأنّ الحصى سبّحت في كفّ النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وغير ذلك من المعاجز. والإعتقاد بهذه لا يجتمع مع قبول الأصل العقلي المذكور، لأنّ الثعبان يتولد من البيضة بعد مرورها بمراحل عديدة من الإنفعالات الداخلية. وإزالة المرض وعود الصحة، رهن استعمال الأدوية وإجراء العمليات الجراحية، والتسبيح نوع تكلم يحتاج إلى حنجرة وفم ولهوات، يقوم به العاقل. وهكذا.
وعلى الجملة، فظهور المعاجز على مسرح الوجود، مع عدم علل مادية تُظْهِرُها، يُعَدُّ خرقاً لقانون العلية، وقول بتحقق المعلول بلا علّة.
الجواب
إنّ المعترض خَلَطَ بين عدم وجود العلّة المادية الّتي اعتاد عليها الإنسان في حياته، وعدم العلّة على الإطلاق. فالذي يناقض قانون العلّية هو القول بأنّ المعجزة ظاهرة اتفاقية لا تستند إلى علّة أبداً. وهذا ممّا لا يقول به أحد من الإلهيين.
وأمّا القول بعدم وجود علّة مادية متعارفة للمعجزة، فليس هو بإنكار لقانون العلية على الإطلاق ونفياً للعلّة من الأساس، وإنّما هو نفي دور وتأثير قسم خاص من العلل، ونفي الخاص لا يكون دليلاً على نفي العام.
وهذا القسم الخاص من العلل، المنفي في مورد المعجزة، هو العلل المادية المتعارفة الّتي أنس بها الذهن، ووقف عليها العاِلم الطبيعي، واعتاد الإنسان على مشاهدتها في حياته. ولكن لا يمتنع أن يكون للمعجزة علّة أخرى لم يشاهدها الناس من قبل، ولم يعرفها العلم، ولم تقف عليه التجربة، وبعبارة أخرى، كون المعجزة معلولاً بلا علّة شيءٌ، وكونها معلولةٌ لعلّة غير معروفة للناس والعلمِ شيءٌ آخر. والباطل هو الأول، والمُدَّعى هو الثاني.
ما هي العلةُ المحدثةُ للمعجزة؟
قد وقفت في الجهة السابقة على أنّ القولَ بالمعاجز لا يضعضع أصل العِلّية، وأنّ عدم العلّة العادية في موردها لا يدلّ على تحقق المعاجز بلا علّة أصلاً، بل لها علّة غير معروفة بين العلل الّتي يشاهدها الإنسان. والكلام في هذه الجهة يقع في تعيين تلك العلة، وفيها أقوال واحتمالات:
القول الأول: إنّها الله سبحانه
ربما يحتمل أن تكون العلّة هي الله سبحانه، وأنّه يقوم بإيجاد المعاجز والكرامات مباشرة من دون توسط علل وأسباب. فكما هو أوجب المادة الأولى وأجرى فيها عللاً وأنظمة، قام في فترات خاصة بخلقِ الثعبان من العصا الخشبية، وتفجير الماء من الصخور الصَّمَّاء... وغير ذلك من خوارق الطبيعة والعادة.
ولكن هذا وإن كان أمراً ممكناً، لعموم قدرته تعالى على كل شيء ممكن بذاته إلاّ أنّه على خلاف ما عرفناه من الربّ تعالى من سنته الّتي أجراها في الكون، وهي أن يكون لكل شيء سبباً وعلّة. ومن البعيد أن يخالف تعالى سنته في مجال المعاجز1.
القول الثاني: إنّها علل مادية غير متعارفة
وهنا احتمال ثان، وهو أن تكون العلّة المحدثة للمعجزة، علة مادية غير متعارفة، اطّلع عليها الأنبياء في ظلّ اتصالهم بعالم الغيب. ولا بُعْدَ في أن يكون للشيء علتان، إحداهما يعرفها الناس، والثانية يعرفها جمع خاص فيهم. ويمكن تقريب ذلك بملاحظة إثمار الأشجار، فإنّ له علة مادية يعرفها الزارع العادي، فتثمر في ظل تلك العلة بعد عدّة أعوام. وهناك خبراء من مهندسي الزراعة واقفون على خصوصيات في التربة والأشجار والبيئة والمياة وغير ذلك، توجب إثمار الأشجار في نصف تلك المدة مثلاً. فإذا كان هذا ملموساً لنا في الحياة، فلا نستبعد أن يقف الأنبياء المتصلون بخالق الطبيعة، على أسرار ورموز فيها، يقدرون بها على إيجاد المعاجز.
ولكنه قول لا يدعمه دليل.
القول الثالث: إنّها الملائكة والموجودات المجردة
وهنا احتمال ثالث وهو أنّ المعاجز تتحقق بفعل الملائكة الّتي يعرّفها القرآن بـ "المدبّرات"2، بأمر منه سبحانه، عند إرادة النبي إثبات نبوته بها ولعلّ من هذا القبيل تمثل الروح الأمين على السيدة مريم، كما في قوله سبحانه: ﴿فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾(مريم:17).
القول الربع: إنّها نفس النبي وروحُه
وذهب إلى هذا جمع من الفلاسفة والمحققين، وإدراك صحته يتوقف على معرفة القدرة العظيمة الّتي تمتلكها النفس البشرية، فنقول:
إنّ الإنسان كلّما ازداد توجهاّ إلى باطنه، وانقطاعاً عن الظواهر المادية المحيطة به، كلما تفجّرت مكامن قدرات نفسه وتأجّج أوار طاقاتها، وابالعكس، كلما ازداد انغماساً في دركات الملذات، وإشباع الغرائز، كلما خمدت طاقاتها وانطفأت قدراتها.
ويدلّنا على ذلك عياناً، ما يقوم به المرتاضون3من خوارق الأفعال وعجائبها: فيرفعون الأجسام الثقيلة الّتي لا يتيسر رفعها إلاّ بالرافعات الآلية، بمجرد الإرادة. ويستلقون على المسامير الحادة ثم تكسر الصخور الموضوعة على صدورهم، بالمطارق، ويدفنون في الأرض أياماً، ليقوموا بعدها أحياءً. وغير ذلك ممّا يراه السائح في بلاد الهند وغيرها، وتواتر نقله في وسائل الإعلام كالجرائد والمجلات والإذاعات. وكل ذلك دليل قاطع على أنّ في باطن الإنسان قوى عجيبة لا تظهر إلاّ تحت شرائط خاصة.
وبعبارة واضحة، إنّ نفس الإنسان كما تسيطر على أعضاء البدن، فتنقاد لإرادتها، وتتحرك قياماً وجلوساً بمشيئتها، فكذلك تسيطر في ظل تلك الظروف الخاصة على موجودات العالم الخارجي، فتقودها بإرادتها، وتخضعها لمشيئتها، وتَقْدِرُ، بمجرد الإرادة، على إبطال مفعول العلل المادية في مقام التأثير، وغير ذلك من الأفعال.
وليس القيام بعجائب الأمور من خصائص المرتاضين، بل إنّ هناك أُناساً مثاليين، أفنوا أعمارهم في سبل العبادة ومعرفة الربّ، بلغوا إلى حدّ قدروا معه على خرق العادة والمجاري الطبيعية.
يقول الشيخ الرئيس في هذا المجال: "إذا بلغك أنّ عارفاً أطاق بقوته فعلاً، أو تحريكاً، أو حركة تخرج عن وسع مثله، فلا تتلقه بكل ذلك الإستنكار، فلقد تجد إلى سببه سبيلاً في اعتبارك مذاهب الطبيعة... وإذا بلغك أنّ عارفاً حدّث عن غيب فأصاب، متقدماً ببشرى أو نذير، فصدّق ولا يتعسرّن عليك الإيمان به، فإنّ لذلك في مذاهب الطبيعة أسباباً معلومة"4.
ويقول صدر المتألّهين: "لا عجب أن يكون لبعض النفوس قوة إلهية، فيطيعها العنصر في العالم المادي، كإطاعة بدنه إياها. فكلّما ازدادت النفس تجرّداً وتشبّهاً بالمبادئ القصوى، إزدادت قوةً وتأثيراً فيما دونها.
فإذا صار مجرّدُ التصوّر سبباً لحدوث هذه التغيرات (طاعة البدن للنفس) في هيولى البدن، لأجل علاقة طبيعية وتعلّق جبلّي لها إليه، لكان ينبغي أن يؤثّر في هيولى العالم مثل هذا التأثير، لأجل اهتزاز علويٍّ للنفس، ومحبة إلهية لها، فتؤثّر نفسه في الأشياء"5.
ويدلّ على أنّ خوارق العادة رهن فعل النفس الإنسانية، ما ينقله تعالى من أفعال السحرة الواقعة بإذنه تعالى، وذلك في قوله عزّ من قائل: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَد إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ﴾(البقرة:102).
وهناك من الآيات ما هو أصرح منها في نسبة الخوارق إلى أصحاب النفوس القوية، كما ورد في أحوال سليمان النبي عندما طلب من الملأ إحضار عرش ملكة سبأ من اليمن إلى فلسطين قبل أن يأتوه مسلمين. فقال عفريت من الجن إنّه قادر على حمله والإتيان به قبل انفضاض مجلس سليمان، ولكن مَنْ كان عنده عِلْمٌ من الكتاب قال إنّه قادر على الإتيان به قبل أن يرتد طَرْفُ سُلَيْمانَ إليه، وبالفعل، بأسرع من لمح البصر، كان العرش ماثلاً أمامه.
يقول سبحانه: ﴿قالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِيني بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُوني مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي...﴾(النمل:38 -40).
بعد هذا كلّه نقول: إذا كان هذا حال الإنسان العادي الّذي لم يطرق إلاّ باب الرياضة، أو العارف الّذي قام بالفرائض واجتنب المحرمات، فكيف بمن وقع تحت عناية الله سبحانه ورعايته الخاصة، وتعليم ملائكته، إلى أن بلغت نفسُه أعلى درجات القوة والمقدرة، إلى حدّ يقدر بإرادة ربّانية على خلع الصور عن المواد وإلباسها صوراً أُخرى، ويَصِيرَ عالمُ المادة مطيعاً له، إطاعة أعضاءِ بدن الإنسان له.
وفي الذكر الحكيم إشارات إلى هذا المعنى حيث ينسب تعالى الإتيان بالمعجزة إلى نفس الرسول بقوله: ﴿ما كان لرسول أن يَأتيَ بآية إلاّ بإذن الله﴾(غافر:78). فإنّ الفاعل في "يأتي" هو الرسول المتقدّم عليه.
وقد يؤيّد هذا الإحتمال بما ورد في توصيف الأنبياء بأنّهم جند الله، وأنّهم منصورون في مسرح التحدي ومقابلة الأعداء. قال سبحانه:﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَ إِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾(الصافات:171ـ 173).
وكون النبي منصوراً في جميع المواضع، ومنها مواضع التحدي، يَدُلّ على أنّ له دوراً ودخالة في الإتيان بخوارق العادات.
ونظير ذلك قوله سبحانه:﴿كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي﴾(المجادلة:21)، فوصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكونه غالباً، ولا معنى للغالبية إلاّ لدخالته في مواضع التحدي.
ولا دليل على اختصاص الآيتين بالمغازي والحروب، بل إطلاقهما يدلّ على كونهم منصورين وغالبين في جميع مواقع المقابلة، سواء أكانت محاجة أو تحدّياً بالإعجاز أو حرباً وغزواً.
وهذا الفعل العظيم للنفوس، إنّما يقع بأمره تعالى وتأييده، ولذا كانت تحصل لهم الغلبة في موارد المجابهة, قال تعالى:﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾(يونس:81).
فهذه الآيات العامة المتقدمة، تدلّ بظهورها على كون الفاعل للمعاجز والكرامات، نفوس الأنبياء وأرواحهم، بإذن الله سبحانه.
وهناك آيات أخرى خاصة، تسند إلى خصوص بعض الأنبياء خوارق العادة، بل ائتمار الكون بأمرهم.
قال تعالى: ﴿وَلِسُلَيَْمانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْري بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ التي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْء عَالِمِينَ﴾(الأنبياء:81).
وأنْت إذا أمعنت في قوله (بأمره)، ينكشف لك الستار عن وجه الحقيقة، ويظهر لك أنّ إرادته كانت نافذة في لطائف أجزاء الكون.
وقال تعالى في المسيح عيسى بن مريم: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ﴾(آل عمران:49).
ويقول تعالى أيضاً: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي﴾(المائدة:110).
فترى أنّ الآية تنصّ على أنّ نفخ الروح في الهيكل الطيني للطير، رهن طاقة المسيح البشرية، وكذلك إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وكل ذلك بإذن الله تعالى ومشيئته.
وبعد هذا كله، أيبقى شك في قدرة الأنبياء الشخصية على خرق العادة، وتكييف الطبيعة حسب ما يريدون؟.
بل ماذا يفهم الإنسان إذا قرأ هذه الآية ـ الّتي تنقل مخاطبة يوسف عليه السَّلام إخوتَه: ﴿اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً...﴾(يوسف:93).
والآية التالية تبين نتيجة أمره: ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً... ﴾(يوسف:96).
فما هو العامل المؤثّر في استرجاعه بَصَرَهُ، بعدما ابيضت عيناه من الحزن؟. هل هو القميص الملطخ بالدم؟ أو حامل البشارة والقميص؟6.
ليس هذا ولا ذاك، بل هو نفس إرادته الزكية المؤثّرة بإذن الله، وعندما تقتضي المصلحة الإلهية ذلك. وإنّما توسّل بالقميص ليعلم أنّه هو القائم بذلك .
فاتّضح من جميع ما ذكرناه من الآيات والشواهد أنّ للمعجزة علّةً إلهيةً متمثلةً في نفوس الأنبياء وإردتهم القاهرة. وليست إرادتهم هذه فوضوية، وإنّما لظهورها ظروف وشرائط خاصة سيأتي بيانها بإذنه تعالى.
هل الإعجاز يضعضع برهان النظم؟
إنّ برهان النَّظم من أوضح الأدلة على أنّ العالم مخلوق لصانع عالم قادر. حيث إنّ النظام الدقيق السائد على كل ظاهرة وجزء من ظواهر الكون وأجزائه كاشف عن دخالة قدرة كبرى وعلم عظيم في تحققه وتكوّنه. هذا من جانب.
ومن جانب آخر، إنّ المعجزات ـ كما تقدّم ـ خارقة للعادة والسنن السائدة في هذا النظام، فهي تعدّ استثناء فيه ونوع مخالفة له. فالوليد الإنساني "مثلاً" يتكوّن بعد التقاء نطفة الرجل وبويضة المرأة، فتتشكل منهما الخلية الإنسانية، ثم تمرّ بعد ذلك بمراحل التفاعل والتكامل، ليخرج بعدها من بطن الأم موجوداً سويّاً متكاملاً.
والقول بأنّ المسيح عليه السَّلام خرق لذاك النظام، بل بمجرد نفخ الَملَك في رحم مريم عليها السَّلام ولد بلا سيادة هذا النظام، وهو كاشف عن عدم كليته واطراده. أفبعد ذلك يمكن أن يستدلّ ببرهان النظم على وجود الصانع؟.
وبعبارة ثانية: إنّ النظم السائد على العالم كاشف عن دخالة المحاسبة والتقدير في تكوّن كل شيء إنساناً كان أو حيواناً، أرضياً كان أو أثيرياً. ولكن خلق الثعبان فجأة من الخشب اليابس، وخروج الناقة من الجبل الصخري الأصم، وما شابه ذلك، ينفي وجود المحاسبة في تكوّن تلك الظواهر.
والجواب
إنّ المعترض لم يقف على أساس برهان النظم أولاً، كما لم يقف على حقيقة الإعجاز وماهيته ثانياً. ولذلك اعترض بأنّ القول بالإعجاز يخالف برهان النظم.
أمّا الأول: فلأنّ المعترض تصوّر أنّ برهان النظم يبتني على وجود نظم واحد بالعدد سائد على الجميع، وقائم بمجموع الأشياء في العالم، بحيث لو شوهد خلاف النظم في جزء من أجزائه لبطل البرهان، بحكم كونه واحداً بالعدد غير قابل للانقسام.
ولكن الحقيقة خلاف ذلك، فإنّ برهان النظم واحد بالنوع كثير بالعدد. فهو يتمثّل ويتجسد في كل ذرة خاضعة في ذاتها للنظام. فتكون كل ذرة باستقلالها حاملةً لبرهان النظم والدلالةِ على وجود الصانع القادر العليم، من دون توقف في دلالتها على سيادة النظم في الذرّات الأخرى.
وفي الحقيقة، إنّ برهان النظم يتكثر عدداً بتكثر الذرات والأجزاء والظواهر الخاضعة للنظام، ولو فرض فقدان النظم في جزء وظاهرة، أو أجزاء وظواهر كما يدعيه المعترض في مجال الإعجاز لكفى وجود النظم في سائر الأجزاء والظواهر، في إثبات الصانع، وإلى هذا يهدف القائل:
وفي كـل شيء لـه آيـة تـدل عـلى أنّـه واحـد
ففي كل خلية وعضو من الإنسان الواحد يتجسد برهان النظم، ويتكثر بتكثرها. فكيف إذا لاحظنا مجموع البشر والمخلوقات والكواكب والمجرّات. وكما أنّ طغيان غُدَّة من النظام السائد على سائر الغدد في بدن الإنسان، كما هو الحال في السرطان، لا يضرّ ببرهان النظم القائم بهذا الإنسان، فكذلك الخروج عن النظام في مجال الإعجاز، لأغراض تربوية، ولهداية الناس إلى اتصال النبي بعالم الغيب، فإنّه لا يؤثّر شيئاً في برهان النظم من باب أولى.
وأمّا الثاني: فلأنّ الإعجاز ليس من الأمور المتوفرة في حياة الأنبياء، بحيث يكون النبي مصدراً له في كل لحظة وساعة ويوم، ويكون خرق العادة وهدم النظام شغله الشاغل، وإنّما يقوم به الأنبياء في فترات خاصة وحساسة لغايات تربوية.
ثم إنّ النبي إذا أراد الإتيان بالمعجزة، أطْلَعَ الناس مُسْبقاً على أنّه سيقوم بخرق العادة في وقت خاص. وهذا دالّ على وجود قوة قاهرة مسيطرة على العالم، تقوم كلما شاءت واقتضت الحكمة والمصلحة القدسية، بخرق بعض النظم والتخلّف عنها. فالعالم، قَبْضُه وبَسْطُه، وسن أنظمته وخرقها، بيد خالقه، يفعل ما يشاء حسب المصالح.
وخلاصة البحث أنّ الإعجاز ليس خرقاً لجميع النظم السائدة على العالم، وإنّما هو خرق في جزء من أجزائه غير المتناهية الخاضعة للنظام والدالّة ببرهان النظم على وجود الصانع. وأيضاً، إنّ قيام الأنبياء بالإعجاز إنّما يحصل بعد اقترانه بالإعلام المسبق، حتى يقف الناظرون على أنّ خرق العادة وقع بإرادة ومشيئة القوة القاهرة المسيطرة على الكون والمجرية للسنن والأنظمة فيه.
هذا كلّه، مع أنّ الإعجاز، وإن كان خرقاً للسنن العادية، إلاّ أنّه ربما يقع تحت سنن أخرى مجهولة لنا معلومة عند أصحابها، فهي تخرق النظام العادي، وتجري نظاماً آخر غير عادي، لا يقلّ في نظمه عنه.
*الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام ،ج3،ص73-85
1- هذا، على أنُ انتساب الحوادث المتجددة المتقضية بلا واسطة علل وأسباب، إلى الله تعالى الُمُنَزَّه عن التجدد والحوادث، ممّا لا تتقبله الأصول الفلسفية المبتنية على لزوم وجود السنخية بين العلّة والمعلول، سنخية ظلية لا توليدية. وهذا مفقود بينه سبحانه، والزمان والزمانيات الّتي طبعت على التجدد والتقضّي. وهذا هو البحث الّذي طرحه الفلاسفة عند بحثهم عن ارتباط الحادث بالقديم، وهو من مشكلات البحوث الفلسفية. ولا ينافي هذا عموم القدرة، فإنّ عمومها أمر ثابت ومسلّم، إلاّ أنّ الشيء ربما لا يقبل الوجود إلاّ عن طريق أسباب وعلل مادية، أي يكون وجوده على نحو لا يتحقق إلاّ في ظل علل مادية. وهذا من باب التقريب كالأرقام الرياضية، فإنّ العدد خمسة بوصف أنّه خمسة لا يتحقق إلاّ بعد تحقق الأربعة، ويستحيل تحققه ـ بهذا الوصف ـ استقلالاً بلا تحقق آحاد قبله. وهذا كصدور الأكل من إنسان معين، فإنّ الأكل يتوقف على وجود أسباب وأدوات مادية، كالفم واللسان والأسنان، وعملية المضغ ثم البلع. وهذا النوع من الفعل لا يمكن أن ينسب إلى الله سبحانه نسبة مباشرية، وإنّما ينسب إليه دائماً نسبة تسبيبيّة، لأنّ ماهيته محاطة بالأمور المادية.
2- هو قوله تعالى في سورة النازعات: (فالمدبِّرات أمراً) الآية 5.
3- والرياضة هي التوجّه إلى الباطن والإنقطاع عن الظاهر.
4- الإشارات والتنبيهات، مع شرح المحقق الطوسي ج 3 ص 397. وبعدها أخذ الماتن والشارح بيان قدرة النفس على الأمور الخارقة للعادة
5- المبدأ والمعاد، ص 355 ـ بتصرف.
6- في الروايات، أنّ حامله كان أحد إخوته.