ما هو دور الدين في الحياة؟
الدين
نحن نستعرض في هذا البحث مدى تأثير النظريتين المتضادتين (الدّين و الإِلحاد) حول نشوء العالم، في استكشاف الحقائق والتطلع إلى السنن السائدة فيه، من دون جنوح فعلا إلى صحة إحدى الفرضيتين.لا شك أَنَّ في تفسير العالم وتبيينه نظريتين متقابلتين لا تجتمعان أَبداً، وسنبين فيما بعد الصحيح منهما...
عدد الزوار: 287
للدين أدوار عديدة في الحياة
أ- الدين مبدع للعلوم
نحن نستعرض في هذا البحث مدى تأثير النظريتين المتضادتين (الدّين والإِلحاد) حول نشوء العالم، في استكشاف الحقائق والتطلع إلى السنن السائدة فيه، من دون جنوح فعلا إلى صحة إحدى الفرضيتين.
لا شك أَنَّ في تفسير العالم وتبيينه نظريتين متقابلتين لا تجتمعان أَبداً، وسنبين فيما بعد الصحيح منهما، غير أَنَّ الذي نركز عليه هنا هو تحديد تأثير كل واحدة من النظريتين على تكامل العلوم ورقيها.
النظريَّة الأُولى: تعتمد على أَنَّ العالم من الذرة إلى المجرة إِبداع عقل كبير، وموجود جميل، غير متناه في القدرة والعلم، فهو بعلمه وقدرته أَبدع العالم وخلقه.
النظريَّة الثانية: إِنَّ مادة العالم أَزلية ليس للعِلْم ولا القدرة، الخارجين عنها، أي صنع وتأثير فيه، فلو وجدت فيه سنن، فإنما هي وليدة التصادف أَو ما يشبهه من الفروض العلمية التي تشترك جميعها في القول بإِفاضة المادة الصمَّاء العمياء على نفسها السنن والقوانين.
نحن لا نريد التَّركيز على إحدى الفرضيتين لأن الحقيقة ستتجلى في الأَبحاث الآتية، وإِنما نركز على معرفة أَية نظرية من النظريتين تحث الإِنسان على التحقيق و تثير روح البحث في نفسه؟
هل القول بأَن عالم المادة صنع موجود غير متناه في العِلْم والقدرة، قد أَبدع المادة وأَجرى فيها السنن والقوانين بفضل علمه وسعة قدرته؟
أو القول بأنَّ المادة لم تزل أزلية وليس فيها للعِلْم والقدرة صنع، ولو صارت ذات سنن وقوانين فإنما هي وليدة الصّدفة أو وليدة التضاد الحاكم عليها كما هو أحد الفروض للماديين الماركسيين أو ما يقرب من ذلك.
فأي النظريتين هو المؤثر في تقدم العلوم وتكاملها؟
لا شك أَنَّ الباحث عن الكون لو تدرَّع بالنظرية الأُولى يجد في نفسه حافزاً على التحقيق وإِحساساً بأَنَّ العالم غير منفك عن السنن والنظم، وعليه أَنْ يتفحَّصَ عنها.
وهذا بخلاف الباحث المعتنق للنظرَّية الثانية، لأَنَّ تحقق الصدفة أو التضاد السائد بين أجزاء المادة، لا يورث العِلْم بحتمية حدوث سنن وأَنظمة في داخل المادة حتى يبحث عنها الإِنسان فلا يصح للباحث عن سنن العالم والمستطلع للحقائق السائدة فيه، أنْ يتكئ على منصة الدراسة إِلاّ أَنْ يكون معتقداً بالنظريَّة الأُولى دون النظرية الثانية.
وهذا ما ادَّعيناه في صدر البحث من أَنَّ العقيدة الدينية خلاقة للعلوم وباعثة للتحقيق.
وقد خرجنا بهذه النتيجة وهي أَنَّ الدين بمعنى الإِعتقاد بكون العالم مخلوقاً لعلم و قدرة، عامل كبير في تقدم العلوم البشرية، وأَنَّه يثير روح التعمق والتدبر في الإِنسان المحقق، في حين إِنَّ اللادينية والإِعتقاد بأَصالة المادة وعدم اتصالها بمبداً أقوى لا يثير شوق البحث والتحقيق.
نعم، ها هنا سؤال ربما يخالج ذهن القارئ وهو أنَّ هناك عدة فرق من دعاة المادية، من المكتشفين لأَسرار الطبيعة ونظمها، فلو كان الإِلحاد يعرقل خطى التحقيق و التقدم، فكيف وصل هؤلاء إلى ما وصلوا إليه من الكشف والتحقيق؟
الجواب: إِنَّ هؤلاء وإِن كانوا يحملون شعار الإِلحاد، لكنها شعارات على السنتهم، وأَما قلوبهم فتخفق بخلاف ذلك، بمعنى أَنَّهم يعتقدون في صميم قلوبهم بخضوع العالم لقوة كبرى أَجرت فيه السنن والنظم، التي هم بصدد كشفها والتعرف عليها، ولولا ذاك الإِيمان والإِعتقاد بخضوع العالم لتلك القوة، لما حصل لهم الإِيمان بأَنَّ المادة ذات سنن ونظم، أَرضها وسماءَها، قريبها وبعيدها، حتَّى النجوم والمجرات المتوغلة في أَعماق الكون فإِنَّ إصرارهم على كشف النظم فرع الإِيمان بوجودها فيها، ولا يحصل الإِيمان والإِذعان إِلاّ لمن اعتقد خضوع العالم لقوة كبرى عالمة قادرة، أَجرت فيها السنن. وإِلاّ فالإِعتقاد بأَزلية المادة وكون السنن الحكيمة وليدة التصادف لا يوجب أَي إِذعان بوجود النظم في جميع أَجزاء العالم، قريبها ونائيها.
وبعبارة أَوضح: إِنَّ كل مستكشف قبل الشروع في الإِستكشاف ذو عقيدة خاصة، وهي أنَّ كل ذرة من ذرات هذا العالم حيّها وميتها، قريبها وبعيدها، مشتملة على قانون يريد هو أَنْ يستكشفه ويفرغه في قالب العِلْم، فعندئذ نسأل من أَين حصل لهذا المكتشف هذا الإِذعان والإِعتقاد. لا بد أَنْ يكون لهذا العلم مبدأ ومصدرٌ، فما هو هذا المنشأ؟
فإِنّ قال: "إِني أَعتقد بأَنَّ مجموع العالم إِبداع قوة كبرى ذات علم وقدرة هائلين أَوجدت العالم بعلمها وقدرتها وحكمتها"، لصح له أَنْ يعتقد بأَنَّ كل جزء من أَجزاء هذا العالم ذو نظام، لأَنَّ فعل العالم القادر الحكيم لا ينفك عن النظم ولا يوجد فيه اختلال ولا اضطراب.
وإِنْ قال: "إِني أَعتقد بأَزلية المادة وأنَّ المادة الصماء صارت ذات نظام في ظل الصدفة طيلة الأَزمنة المتمادية"، فيقال له: إِنَّ الإِعتقاد بالصدفة لا يلازم الإِذعان بالنظام مائة بالمائة بل يحتمل أَنْ يوجد هناك نظام كما يحتمل أَنْ لا يوجد.
فتفسير الإِذعان بوجود النظام مائة بالمائة عن طريق الإِعتقاد بالصدفة باطل جداً لأَنه من قبل تفسير العلم القطعي، بشيء لا يوجد العلم بل يوجد الإِحتمال، لأَن الإِعتقاد بالصدفة مبداً لاحتمال وجود النظام لا الإِذعان بوجوده، فلابد لهذا الإِذعان من علَّة أُخرى غير الصدفة، و ليس هي إِلاّ الإِعتقاد بكون الشعور والقدرة دخيلين في إِنشاء العالم وإِخراجه إلى حيز الوجود.
وإِنْ شئت أَفرغ هذا البيان بقالب منطقي وقل: لكل مكتشف قبل الإنشغال بالكشف، إذعان بوجود النَّظم والسنن في هذا العالم، وهو يريد كشفها، هذا من جانب.
ومن جانب آخر، إنَّ المادي يرى العامل الوحيد لظهور السنن هو الصدفة، ولكنها ليست عاملا مورثاً للإِذعان بل أقصى ما تورثه هو الاحتمال. مع أنَّ المستكشف يحمل العلم بالسنن لا أنه يحتمل أنْ يكون هناك سنّة ونظام.
فيجب أنْ يفسّر ذاك الإذعان بعامل ثان وليس هو إلاّ قيام العالم، حدوثاً وبقاء، بعلم وقدرة أزليين.
ب - الدّين دعامة الأخلاق
قد تعرفت على دور الدين في إثارة روح التحقيق في الإِنسان، لكن له دوراً آخر في تركيز الأخلاق وتحكيم أصولها في المجتمع، وإليك بيانه:
لا شك أَنَّ إقامة الأخلاق والتمسك بالقيم الأخلاقية، لا ينفكّ عن الحرمان في بعض الأحايين وترك اللذائذ النفسانية في ظروف أُخر، وعندئذ يجب أنْ نبحث عن عامل النجاح في هذا المعترك.
فمن جانب: إنَّ الإِنسان مقهور للميول النفسانية والغرائز المتعدية التي لا تعرف لنفسها حدّاً وهي تريد أنْ تفجر أمامها، وتنال كل لذيذ وملائم، وافق القيم أمْ خالفها، و هذا شيء يحسه كل إنسان في كثير من فترات حياته.
ومن جانب آخر: إنَّ الفطرة الإِنسانية توحي إلى صاحبها بحفظ القيم والعمل بالأخلاق كما أنَّ علماء التربية يوصون بذلك. وعند ذلك يجد الإِنسان في نفسه صراعاً عنيفاً بين ميوله، فلا بد لنجاحه في هذا المعترك من عامل يرجح كفّة الفطرة الإِنسانية الموحية بحفظ الأخلاق والعمل بالقيم، فما هو هذا العامل خصوصاً في الفترات التي يغيب فيها الرقيب، وتنام فيها العيون، ولا يسأل الإِنسان عما يفعل؟.
هنا يتجلى الدّين بصورة عامل قوي يرجح كفة الأخلاق، ويوحي للإِنسان بالعمل بالقيم وكبح جماح الغرائز، لأن المتديّن يعتقد بأنَّ كل ما يعمل من خير وشرّ في هذه الدنيا، سيحاسبه الله سبحانه عليه بأشد الحساب وأدقّه ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّة فِي الاَْرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ﴾(يونس:61).
وهذا بخلاف ما إذا كان ملحداً ولم يعتقد بكتاب ولا حساب لا في الحياة ولا بعدها فلا يرى في معترك صراع الغرائز وتنازعها في كيانه رادعاً عن نقض الحدود وتجاهل القيم غير عنصر ضعيف التأثير يُدعى بالفطرة الإِنسانية، التي سرعان ما تتقهقر أمَام طوفان الشَّهوات، والنَّزوات. وهذا شيء ملموس لا نطيل الكلام فيه.
ج - الدّين حصن منيع في خضمّ متقلبات العَالَم
إنَّ الحياة في هذا الكوكب حليفة التعب والوصب، والإنسان يعيش في السرَّاء والضرَّاء، يفقد الأعزة ويواجه البلايا والنوازل إلى غير ذلك من الملمّات المؤلمة القاصمة للظهر، فما هي السلوى في مواجهة علقم الحياة وحنظلها؟.
أقول إنَّ الدّين هو السلوى الكبرى التي تجعل الإِنسان جبلا راسخاً تجاه الحوادث المؤلمة غير متزعزع في البلايا ولا متزلزل في الكوارث، لماذا؟ لوجهين:
أما أولا: فإنه يعتقد أنَّ ما يجري في الكون من خير وشر، فهو من مظاهر مشيئة الخالق الحكيم الذي لا يصدر منه شيء إلاّ عن حكمة ولا يفعل إلاّ عن مصلحة، فهذه الكوارث، مرّة ظواهرها، حلوة بواطنها، وإنْ كان الإِنسان لا يشعر بذلك في ظرف المصيبة والابتلاء، ولكنه يقف عليه بعد كشف الغطاء وانجلاء الحقائق.
وثانياً: فإنَّ الإِنسان إذا صبر تجاه المصائب واستقبلها بصدر رحب ووجه مشرق يكون مأجوراً عنده سبحانه بصبره وثباته واستقامته، ورضاه بتقديره وقضائه قال سبحانه: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُوْلَـئكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾(البقرة:155-157).
فعند ذلك يتجلى الدّين كدواء يسكّن الآلام ويخفّف المصائب، بل ربما يستقبلها ببشاشة وانشراح، غير أنَّ المادي في ذاك المجال فاقد البلسم لجراحات حياته، وفاقد الدواء لا ضطراباته، لأنه لا يعتقد بأن وراء المادة عالماً يحشر فيه الإِنسان، ويثاب لصبره، ويؤجر لأعماله فهو يعتقد بأنَّ دائرة الكون محدودة بالمادة، يبدأ منها وينتهي إليها، فلا مناص منها إلاّ إليها، وهي صماء وعمياء لا تقدر على تسكين جروح الإنسان وترفيه روحه، فلأجل ذلك نرى الانتحار شائعاً بين تلك الزمرة، عند المصائب، وأما الزمرة المؤمنة بالحياة الأُخروية، فيستقلّون آلام المصائب عند حلولها ويسلّون أنفسهم بالصبر والثَّواب على خلاف الماديّين حيث يستكثرونها ويستسلمون أمامها.
فلو صحَّ لنا تشبيه المعقول بالمحسوس وإفراغ المعاني العالية في قوالب حسية ضيقة، فلا عتب علينا إذا قلنا بأن الدين تجاه التيارات المؤلمة القاصمة للظهر، الموجبة للإِنفجار، كصمام الأمان في المسخّنات البخارية التي لم يزل بخارها يزداد حيناً بعد حين، فلولا صمام الأمان الذي يوجب تسريح البخار الزائد، لانفجر المسخن في المعمل وأورث القتل الذريع والحريق الفظيع، وقد اعتذرنا عن هذا المثال بأنه من باب تشبيه المعقول بالمحسوس.
* الإلهيات،آية الله جعفر السبحاني.مؤسسة الامام الصادق عليه السلام.ج1،ص13-20