يتم التحميل...

الموضوع: جواب رسالة، وشكر وتقدير لمشاعر الناس‏

رسالة

المخاطب: كرامي، محمد علي‏

عدد الزوار: 60
التاريخ 29 دي 1342 هـ. ش/ 3 رمضان 1383 هـ. ق‏
المكان: طهران‏
المخاطب: كرامي، محمد علي‏

حضرة الزعيم الأعلى ومرجع المراجع سماحة آية الله العظمى الخميني- متع الله المسلمين بطول بقائه. بكل تواضع، إن فراخ الطير إذا حان انفصالها برغم أنسها الكبير بأمّها، لابد لها من تحمل ألم الفراق، على ما يقتضيه ناموس التكامل الطبيعي للكائنات، لتتعلم الطيران، وتصل إلى تكاملها في ظل استقلالها،. فتراها تقع، وتنهض، وتطير، وتخفق، حتى تقترب من هدفها.

وهذا القانون التكامل في ظل الانفصال يبدو كأنه قانون عام يسري على الكل بدءاً من الجمادات وانتهاءً بأسمى مراتب الوجودات المادية. فالثمرة لا تنضج في يوم وليلة، وحبات الكروم لا تصبح حلوة المذاق صباح اليوم التالي. فلدى تكوّن الكبريت والزئبق اللذين هما أساس المعادن القابلة للطرق- لابدّ للأبخرة والغازات في باطن الأرض، بمرور الوقت وتعاقب الحرارة والبرودة، من المرور بحالات الدمج والانصهار، حتى تتحول إلى كبريت وزئبق، ثم تكون المعادن التي لن تتخلى عن تماسكها وقوتها مهما نالت منها مطرقة الحداد. والوجود المنور للنبي الأكرم الذي هو أكرم الكائنات ينبغي له أيضاً تحمل فراق الوحي كي يحترق ويتألم، حتى يمُنّ عليه المبدأ الأول بنداء السكينة الودود: ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى 1، ويجد طريقه إلى التكامل. أجل، زعماء الأمة الروحيون، هم الأوصياء والأولياء على الأمة، ولابد للأمة أن تتواصل مع هؤلاء القادة وتنفصل عنهم كي تتكامل، وأن تتمكن بالاستقلال من تبديل المجتمع إلى مدينة فاضلة، كي ينضج تلامذة مدرسة هؤلاء الزعماء، ويتهيّؤوا على مدى السنوات الطوال للانضمام إلى المجتمع وتعزيز تكامله، ليشهد الزعيم نفسه أيضاً فراقاً وانفصالًا كيوسف في قعر البئر، كي يرتدي حلية:﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ 2.

نحن لا نعلم، ربما تكون المنافع التكوينية الإلهية كثيرة، أجل، فالذين يستمرون حتى النهاية تحت إشراف وتوجيه آبائهم، لن تتكامل أعمالهم، لابد من الكرّ والفرّ وأداء أعمال طوعية كي يتسنى لهم النضوج بها. إن هذا العبد الفقير ينبغي له الاعتذار كثيراً لشغله ذهن رجل الهي وعالم رباني، ولكن ماذا يفعل إزاء كل هذه الهموم التي هي حصيلة الاحتراق والذوبان في مرحلة الانفصال التي يمر بها، ولابد له من البوح بها إليه، لينفس عن نفسه .. إنه يعلم أن هذا ليس أسلوب التحدث مع مرجع عظيم- وحسب زعمه مرجع المراجع-، غير أنه يتصور أن ثمة أحاديث تمنحه مثل هذه الجرأة، أحاديث تجعل من المرجعية أثراً تكوينياً إلهياً فضلًا عن حكومته الاجتماعية. وحرمان عدة من هذا المنصب استناداً إلى ما نص عليه:﴿ لا يصيب أمرنا ... الخ" كما هو الظاهر المظنون في بعض روايات أبي الجهد- يوضح أنه يمثل في نهاية المطاف إحدى صور الود التي تحدثت بها الآية الكريمة:" إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا 3 . إن أمثال هذه المقولات التي لم تكتف بظواهر الأعمال، واعتمدت المحبة والود والإخلاص والقداسة، وباختصار اعتمدت الروح ميزاناً هي التي منحتني الجرأة لكشف الغطاء وبيان مكنوناتي القلبية؟ أجل، منذ سنوات عديدة زرع بستانيُّ القلوب بذرة طاهرة طيبة في قلبي، وسخر لنموها كل عوامل الحياة، ووفر احتياجاتها من منابعي الخاصة، فغمرها بأشعة حياتية ربانية من مشكاة مضيئة باهرة، وسقاها ماءً عذباً زلالًا من نبع القدس، وأودع فيها شوقاً كاملًا وحماسة عظيمة. وهيأ لها موضوعات علمية دقيقة وعميقة وأصولًا عريقة لينهل منها العقل من خلال جلسات درسه. وأحيى فيه بارقة أمل ممتعة بالمستقبل، وبرغم عجالة الإنسان الطبيعية، جعل تلك البذرة تنمو تدريجياً بتدبير رصين وتأنٍ تام. وحينما انطلقت الموهبة بوتيرة متسارعة، وحدث ما حدث الذي قاد إلى الانفصال. وبوحي من هذا الانفصال نمت البذرة وتكاملت بمرور الأيام. وخلال مدة قصيرة، وبسرعة مدهشة، أضحت نبتة قوية تمتد جذورها الراسخة في أعماق القلب. ومما يؤسف عليه أن رياح الهجران المحرقة لم تمهل النبتة لتعطي ثمارها، وذبلت أوراقها الطرية مما أدى إلى إخماد لهيب البهجة في عيني وذبول نبتة الأمل في قلبي .. ولكن من يدري ربما هذه الحرقة والذوبان هي الأخرى من تدابيره الحكيمة كي ينمو ويتكامل التلميذ .. فيا أيها الفراق الملتهب قليلًا من التأني، ويا لهيب الغربة قليلًا من الهدوء، فهذا القلب الحزين لا يطيق كل هذا العذاب .. يا إلهي، يا من منك القلب، ومنك الود، ومنك الوجود؛ أغمر قلوبنا بمحبتك ومحبة أوليائك.

يا إلهي، مُنَّ علينا بقدم تقودنا إلى جوارك، وأرنا الطريق لنصل إليك .. الآن وحيث ينتهي البوح بمكنونات القلب، ويسكن لهيب القلب، ينبهني العقل ثانية بأن هذا الأسلوب في الحديث لا يليق. أجل، فأنا كنت هكذا دائماً وكان الحياء يحول دون كل شي‏ء، حتى علاقاتي القليلة، وعندها كانت تتراكم الهواجس وتبرز مرة واحدة في شقشقة، أو حديث يفتقر إلى الطرافة، أو تجعل مني امرءاً متقلّب المزاج. ولكن يرتسم للعقل ثانية المصطلح المعنون في كتاب القضاء: لابد لمن يجد في نفسه أهلية القضاء أن يعرف نفسه للحاكم، والعقل والاستحسان يحتّمان على المريد الحقيقي والتابع الكامل أن يعرف نفسه في مقام الامتثال والتأهّب لتنفيذ أوامر مولاه. ولكن كل ذلك ليس أكثر من ذريعة، إنّي التمس من الأب الروحي الإجابة- قدر الإمكان- عن المسائل المرفقة طياً وهي ضرورية.

الثالث من رمضان سنة 1383 ه-. ق‏
قم:مدرسة خان، محمد علي كرامي القمي).

باسمه تعالى‏

أن مشاعر اخوة الإيمان، ولاسيما الخواص، تلقي على عاتقي عبئاً ثقيلًا. آمل من الحق المتعال أن يمن علينا بألطافه الغيبية بما يخفف عنا عب‏ء هذه المسؤولية الجسيمة. إن الألطاف التي تبدو في الظاهر نقمة، ربما تكون أكثر لطفاً وأقرب إلى المشاعر والعواطف من الألطاف الظاهرة. أسأل الله- تعالى- للجميع توفيق العلم والعمل الصالح.


*صحيفة الإمام، ج‏1، ص: 249-251


1- الضحى: 3 و 5.
2- يوسف:56.
3- مريم،: 96.
 

2011-04-07