يتم التحميل...

 الشهادة

شهادة الإمام الرضا(ع)

عن هرثمة بن أعين قال : كنت ليلة بين يدي المأمون، حتّى مضى من الليل أربع ساعات، ثمّ أذن لي في الانصراف، فانصرفت، فلمّا مضى من الليل نصفه، قرع قارع الباب، فأجابه بعض غلماني، فقال له: قل لهرثمة: أجب سيّدك، قال: فقمت مسرعاً، وأخذت عليّ أثوابي، وأسرعت إلى سيّدي

عدد الزوار: 114

عن هرثمة بن أعين1 قال : كنت ليلة بين يدي المأمون، حتّى مضى من الليل أربع ساعات، ثمّ أذن لي في الانصراف، فانصرفت، فلمّا مضى من الليل نصفه، قرع قارع الباب، فأجابه بعض غلماني، فقال له: قل لهرثمة: أجب سيّدك، قال: فقمت مسرعاً، وأخذت عليّ أثوابي، وأسرعت إلى سيّدي الرضا عليه السلام، فدخل الغلام بين يدي، ودخلت وراءه، فإذا أنا بسيّدي عليه السلام في صحن داره جالس. فقال: "يا هرثمة"، فقلت: لبّيك يا مولاي، فقال لي: "اجلس"، فجلست، فقال لي: "اسمع وعِ يا هرثمة، هذا أوان رحيلي إلى الله تعالى ولحوقي بجدّي وآبائي عليهم السلام، وقد بلغ الكتاب أجله، وقد عزم هذا الطاغي على سمّي في عنب ورمّان مفروك، فأمّا العنب فإنّه يغمس السلك في السمّ ويجذبه بالخيط في العنب2، وأمّا الرمّان فإنّه يطرح السمّ في كفّ بعض غلمانه ويفرك الرمّان بيده ليلطّخ حبّه في ذلك السمّ. وإنّه سيّدعوني في ذلك اليوم المقبل، ويقرّب إليّ الرمّان والعنب، ويسألني أكلهما فآكلهما، ثمّ ينفّذ الحكم، ويحضر القضاء"3. .

وعن أبي الصلت الهرويّ قال: بينا أنا واقف بين يدي أبي الحسن عليه السلام، إذ قال لي: يا أبا الصلت ادخل هذه القبّة التي فيها قبر هارون، وائتني بتراب من أربعة جوانبها"، قال: فمضيت فأتيت به، فلمّا مثلت بين يديه، قال لي: "ناولني هذا التراب، وهو من عند الباب"، فناولته فأخذه وشمّه، ثمّ رمى به، ثمّ قال: "سيحفر لي ههنا، فتظهر صخرة لو جمع عليها كلّ معول بخراسان لم يتهيّأ قلعها"، ثمّ قال في الذي عند الرِجل: والذي عند الرأس مثل ذلك، ثمّ قال: "ناولني هذا التراب فهو من تربتي". ثمّ قال: "سيحفر لي في هذا الموضع، فتأمرهم أن يحفروا إلى سبع مراقي إلى أسفل، وأن تشقّ لي ضريحه، فإن أبوا إلّا أن يلحدوا، فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبراً، فإنّ الله تعالى سيوسعه ما يشاء"4...

ثمّ قال عليه السلام: "يا أبا الصلت، غداً أدخُلُ على هذا الفاجر، فإنْ أنا خرجت مكشوف الرأس، فتكلَّمْ أكلِّمْك، وإنْ خرجتُ وأنا مغطَّى الرأس، فلا تكلّمني".

قال أبو الصلت: فلمّا أصبحنا من الغد، لبس ثيابه، وجلس فجعل في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك إذ دخل عليه غلام المأمون، فقال له: أجب أمير المؤمنين، فلبس نعله ورداءه، وقام ومشى، وأنا أتبعه حتّى دخل على المأمون، وبين يديه طبق عليه عنب وأطباق فاكهة، وبيده عنقود عنب قد أكل بعضه، وبقي بعضه.

فلمّا أبصر الرضا عليه السلام، وثب إليه فعانقه، وقبّل ما بين عينيه، وأجلسه معه، ثمّ ناوله العنقود، وقال: يا ابن رسول الله، ما رأيت عنباً أحسن من هذا، فقال له الرضا عليه السلام:"ربّما كان عنباً حسناً يكون من الجنّة "، فقال له: كل منه، فقال له الرضا عليه السلام: "تعفيني عنه"، فقال: لا بد من ذلك، وما يمنعك منه، لعلّك تتّهمنا بشيء! فتناول العنقود، فأكل منه، ثمّ ناوله، فأكل منه الرضا عليه السلام ثلاث حبّات، ثمّ رمى به وقام، فقال المأمون: إلى أين؟ فقال: "إلى حيث وجّهتني!..."
وخرج مغطَّى الرأس، فلم أكلّمه حتّى دخل الدار، فأمر أن يغلق الباب، فغلق، ثمّ نام على فراشه، ومكثت واقفاً في صحن الدار مهموماً محزوناً5 .

قال هرثمة: فلمّا قرب زوال الشمس، أحسست بسيّدي قد خرج من عنده، ورجع إلى داره، ثمّ رأيت الآمر قد خرج من عند المأمون بإحضار الأطباء والمترفّقين، قلت: ما هذا ؟ فقيل لي: علّة عرضت لأبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، فكان الناس في شكّ وكنت على يقين، لما أعرف منه6 .

يقول ياسر الخادم: ..كان المأمون يأتيه في كلّ يوم مرّتين، فلمّا كان في آخر يومه الذي قبض فيه، كان ضعيفاً في ذاك اليوم، فقال لي، بعدما صلّى الظهر: "يا ياسر، أكل الناس شيئاً؟" قلت: يا سيّدي، من يأكل ههنا مع ما أنت فيه؟

فانتصب عليه السلام، ثمّ قال: "هاتوا المائدة"، ولم يدع من حشمه أحداً إلّا أقعده معه على المائدة، يتفقّد واحداً واحد، فلمّا أكلوا قال: "ابعثوا إلى النساء بالطعام"، فحمل الطعام إلى النساء، فلمّا فرغوا من الأكل، أُغمي عليه وضعف، فوقعت الصيحة، وجاءت جواري المأمون ونساؤه حافيات حاسرات، ووقعت الوجبة بطوس، وجاء المأمون حافياً حاسراً يضرب على رأسه، ويقبض على لحيته، ويتأسّف ويبكي، وتسيل دموعه على خدّيه، (متظاهراً بالحزن عليه)، فوقف على الرضا عليه السلام وقد أفاق، فقال: يا سيّدي، والله ما أدري أيّ المصيبتين أعظم عليّ؟ فقدي لك، وفراقي إيّاك؟ أو تهمة الناس لي، أنّي اغتلتك وقتلتك؟! قال: فرفع طرفه إليه، ثمّ قال: "أحسن يا أمير المؤمنين معاشرة أبي جعفر عليه السلام، فإنّ عمرك وعمره هكذا، وجمع بين سبّابتيه"7...

إلى أن جاء الليل...
يقول أبو الصلت: ...دخل عليّ شاب حسن الوجه، قطط الشعر8، أشبه الناس بالرضا عليه السلام، فبادرت إليه، وقلت له: من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال: "الذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت هو الذي أدخلني الدار والباب مغلق"، فقلت له: ومن أنت؟ فقال لي: "أنا حجّة الله عليّك، يا أبا الصلت، أنا محمّد بن عليّ". ثمّ مضى نحو أبيه عليه السلام، فدخل وأمرني بالدخول معه، فلمّا نظر إليه الرضا عليه السلام، وثب إليه فعانقه، وضمّه إلى صدره، وقبّل ما بين عينيه، ثمّ سحبه سحباً في فراشه، وأكبّ عليه محمّد بن عليّ عليه السلام يقبّله، ويسارّه بشيء لم أفهمه9.

وقع فوقه الجواد بقلب ملهوف              وسالت دمعته واللون مخطوف
يبويه موتكم بسموم وسيوف                ولا بد تواسيكم العَدلين


ثمّ امتدّ الرضا عليه السلام على المقعد، وغطّاه محمّد بالرداء، وصار إلى وسط الدار. فقال: "يا أبا الصلت". قلت: لبّيك يا ابن رسول الله. قال: "أعظم الله أجرك في الرضا، فقد مضى"10.

وا إماماه وا مسموماه وا مظلوماه

   تشاهد ويل قلبي واسبل ايديه

أتاري مات اويلي اوفرك البين

 حزين اوعقب أبوه النوح فنّه

  اجوه أهل البلد كلهم محزنين

اجت الناس بس تلطم على الروس

رحت واحنه بعد نورك مظلمين

لفت له بالگبر بثياب الأحزان

 ظل ابكربله واهله مظعنين

اويلي اعلى الرضا من عدل رجليه

روحه خلصت او ما ظل نفس بيه  

نهض عنه الجواد او جذب ونّه

بعد ما جفنه او من فرغ منّه 

يويلي اشلون ضجه صارت ابطوس

الله اوياك آيا شمس الشموس

نگول من العزه انگلبت خريسان

بس احسين ظل مطروح عريان 


ثمّ قام الإمام الجواد عليه السلام بتغسيله وتكفينه وتجهيزه، من حيث لا يدري أحد من الناس، لأنّ الإمام لا يلي أمره إلا إمام مثله11 وكتم المأمون موته يوماً وليلة، ثمّ أنفذ إلى جماعة من آل أبي طالب الذين كانوا عنده، فلمّا حضروه، نعاه إليهم، وبكى، وأظهر حزناً شديداً وتوجُّع، وأراهم إيّاه صحيح الجسد، وقال: يعزّ عليّ أن أراك على هذه الحال، قد كنت آمل أن أُقَدَّمَ قبلك، فأبى الله إلا ما أراد.. 12

فلمّا أصبح، اجتمع الخلق وقالوا: هذا قتله واغتاله، يعني المأمون، وقالوا: قُتل ابن رسول الله، وأكثروا القول والجَلَبَة13 وما بقي على وجه الأرض ثلاثة أيام بلا غسل ولا كفن، كما بقي جدّه الحسين عليه السلام!!
حتّى إذا أَزِفَ المَقْدُورُ جاءَ لَهُ               الجوادُ والدمْعُ يَجْرِي مِنْ مآقِيهِ
سُرعانَ ما جاءَهُ مِنْ طَيْبَةٍ فغَدا              أبوهُ يُدْنِيه للنَّجْوَى ويُوصِيهِ
وكَيْفَ يَبْعُدُ في المَسْرَى عليه مَدىً          لَدَيْهِ سِيَّانِ قاصِيهِ ودَانِيهِ
لَكِنَّ جِسْمَ حُسَيْنٍ بالطُّفوفِ ثَوى              عارٍ ثلاثاً ووَحْشُ القَفْرِ تَبْكِيه
ِ14

*غريب حرسان,سلسلة مجالس العترة,نشر جمعية المعارف الاسلامية,ط:2001م-1431ه-ص:65-74


1- جاء في الحياة السياسيّة للإمام الرضعليه السلام ص 431: لم يكن هرثمة حيّاً حين وفاة الإمام، لأنّه بعد قتل أبي السرايا ذهب إلى مرو، فلم يمهله المأمون، وتخلّص منه بعد أيّام قلائل من وصوله، فروايته لكيفيّة وفاة الإمامعليه السلام لا تصحّ، إلّا أن يكون هرثمة اثنين..هذا ويلاحظ التشابه بين رواية هرثمة ورواية أبي الصلت..فلعلّ الأمر قد اشتبه على الراوي، أو أنّه قد ذكر اسم هرثمة لحاجة في نفسه قضاها..
2- وفي رواية المفيد في الإرشاد ج 2 ص 271: ذُكر أنّ ذلك من لطيف السموم.
3- عيون أخبار الرضاعليه السلام ج 2 ص 275.
4-المصدر السابق ص 271.
5-المصدر السابق: ص 272.
6-المصدر السابق: ص 277
7- المصدر السابق: ص269.
8- قصير الشعر جعده.
9-المصدر السابق ص 272.
10-الراونديّ قطب الدين: الخرائج والجرائح ج 1 ص354.
11- انظر الصدوق: الأماليّ ص 759، عيون أخبار الرض عليه السلام ج 2 ص 272، الطوسيّ ابن حمزة: الثاقب في المناقب ص 490، الراونديّ قطب الدين: الخرائج والجرائح ج 1 ص 352، المجلسيّ: بحار الأنوار ج 49 ص 301.
12- المفيد: الإرشاد ج2 ص 271.
13-عيون أخبار الرض عليه السلام ج 2 ص 270، والجَلَبَة: اختلاط الصوت.
14-الهاشميّ السيّد عليّ بن الحسين: المطالب المهمّة في تاريخ النبيّ والزرهاء والأئمّة عليهم السلام ص 256.

2012-01-10