الإمام الكاظم عليه السلام وبناء الجماعة الصالحة
شهادة الإمام الكاظم(ع)
كرّس الإمام الكاظم عليه السلام جهده لإكمال بناء الجماعة الصالحة التي يهدف من خلالها إلى الحفاظ على الشريعة من الضياع ويطرح النموذج الصالح الذي يتولّى عملية التغيير والبناء في الأمة، حيث مارس الإمام عليه السلام تحرّكاً مشهوداً في هذا المجال...
عدد الزوار: 147
كرّس الإمام الكاظم عليه السلام جهده لإكمال بناء الجماعة الصالحة التي يهدف من خلالها إلى الحفاظ على الشريعة من الضياع ويطرح النموذج الصالح الذي يتولّى عملية التغيير والبناء في الأمة، حيث مارس الإمام عليه السلام تحرّكاً مشهوداً في هذا المجال وقدّم للأمة النموذج الصالح الذي صنعته مدرسة أهل البيت عليهم السلام .
أولاً: تركيز الانتماء لخط أهل البيت عليهم السلام
الانتماء السياسي: ركّز الإمام عليه السلام على بعد الانتماء لخطّ أهل البيت عليهم السلام ولا سيّما الانتماء السياسي لهم وتحرك الإمام على مستوى تجويز اندساس بعض أتباعه في جهاز السلطة الحاكمة، وأبرز مثال لذلك توظيف علي بن يقطين ووصوله الى مركز الوزارة; وذلك لتحقيق عدّة أهداف في هذه المرحلة السياسية الحرجة وهي كما يلي:
الهدف الأول: الإحاطة بالوضع السياسي
إنّ الاقتراب من أعلى موقع سياسي، من أجل الإحاطة بالمعلومات السياسية وغيرها التي تصدر من البلاط الحاكم أمر ضروري جدّاً وذلك ليتخذ التدابير والحيطة اللازمة لئلاّ يتعرّض الوجود الشيعي للإبادة أو الانهيار. والشاهد على ذلك:
أنه لمّا عزم موسى الهادي على قتل الإمام موسى عليه السلام بعد ثورة الحسين- صاحب فخ- وتدخل أبو يوسف القاضي في تغيير رأي الهادي عندما قال له بأن موسى الكاظم عليه السلام لم يكن مذهبه الخروج ولا مذهب أحد من ولده حيث استطاع أبو يوسف أن يقنع الخليفة.
هنا كتب علي بن يقطين الى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام بصورة الأمر من أجل أن يكون الإمام على علم بنشاطاته وسترى في المرحلة التالية الدور الفاعل الذي لعبه علي بن يقطين في خلافة الرشيد لمصالح الإمام الكاظم عليه السلام والشيعة الموالين له.
الهدف الثاني: قضاء حوائج المؤمنين
إنّ قضاء حوائج المؤمنين بخطّ أهل البيت والذين يعيشون في ظل دولة ظالمة تطاردهم وتريد القضاء على وجودهم يشكّل هدفاً مهمّاً يصب في رافد بقاء واستمرار وجود هذه الجماعة الصالحة.
وقد طلب علي بن يقطين من الإمام الكاظم عليه السلام التخلي عن منصبه أكثر من مرة، وقد نهاه الإمام عليه السلام قائلا له: "يا علي إنّ لله تعالى أولياء مع أولياء الظلمة ليدفع بهم عن أوليائه وأنت منهم يا علي".
وقال له في مرة أخرى: "لا تفعل فإن لنا بك أنساً ولإخوانك بك عزّاً وعسى الله أن يجبر بك كسيراً أو يكسر بك نائرة المخالفين عن أوليائه. يا علي كفارة أعمالكم الإحسان إلى إخوانكم.. اضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثاً، اضمن لي أن لا تلقى أحداً من أوليائنا إلاّ قضيت حاجته واكرمته أضمن لك أن لا يظلك سقف سجن أبداً ولا ينالك حد السيف أبداً ولا يدخل الفقر بيتك أبداً...".
وعن علي بن طاهر الصوري: قال: ولّي علينا بعض كتاب يحيى بن خالد وكان عليَّ بقايا يطالبني بها وخفت من الزامي ايّاها خروجاً عن نعمتي، وقيل لي: انه ينتحل هذا المذهب، فخفت أن أمضي اليه فلا يكون كذلك، فأقع فيما لا أُحبّ.
فاجتمع رأيي على أني هربت الى الله تعالى، وحججت ولقيت مولاي الصابر- يعني موسى بن جعفر عليه السلام - فشكوت حالي اليه فاصحبني مكتوباً نسخته: "بسم الله الرحمن الرحيم اعلم أنّ لله تحت عرشه ظلا لا يسكنه إلاّ من أسدى الى أخيه معروفاً، أو نفّس عنه كربة، أو أدخل على قلبه سروراً، وهذا أخوك، والسلام".
ومن مصاديق قضاء حوائج الاخوان المؤمنين: جباية الاموال جهراً وإرجاعها إليهم سراً.
عن علي بن يقطين قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام ما تقول في أعمال هؤلاء ؟
قال: "ان كنت لابدّ فاتق الله في أموال الشيعة".
قال الراوي: فأخبرني علي انه كان يجبيها من الشيعة علانية ويردّها عليهم في السرّ.
الهدف الثالث: التأثير في السياسة العامّة عليه السلام
استخدم الإمام آليات متقنة ومحكمة في نشاطه الاستخباري وتأمين الاتّصال السري مع علي بن يقطين أو غيره من الشيعة المندسين في مراكز النظام الحاكم، ولعل الهدف من هذا الاختراق ومسك مواقع متقدمة من السلطة إمّا للتأثير في السياسة العامة للسلطة أو لإنجاز أعمال سياسيّة أو فقهيّة لصالح الأمة من خلال قربه لهذه المواقع.
يحدّثنا اسماعيل بن سلام عن آليات هذا الارتباط وما يتضمّنه من نشاط في النصّ التالي:
قال اسماعيل بن سلام وابن حميد: بعث الينا علي بن يقطين فقال: اشتريا راحلتين، وتجنّبا الطريق. ودفع الينا أموالا وكتباً حتى توصلا ما معكما من المال والكتب الى أبي الحسن موسى عليه السلام ولا يعلم بكما أحد، قال: فأتيناالكوفة واشترينا راحلتين وتزوّدنا زاداً، وخرجنا نتجنّب الطريق حتى إذا صرنا ببطن الرّمة شدّدنا راحلتنا، ووضعنا لها العلف، وقعدنا نأكل فبينا نحن كذلك، إذ راكب قد أقبل ومعه شاكري، فلما قرب منّا فاذا هو أبوالحسن موسى عليه السلام فقمنا اليه وسلمنا عليه ودفعنا إليه الكتب وما كان معنا فأخرج من كمّه كتباً فناولنا ايّاها فقال: هذه جوابات كتبكم...
ثانياً: التثقيف السياسي
إنّ النشاط السياسي الذي يقوم به أصحاب الإمام عليه السلام في هذه المرحلة ولما يمتاز به من صعوبات كان يحتاج الى لون خاص من الوعي ودقة في الملاحظة وعمق في الايمان، ممّا دفع بالإمام عليه السلام الى أن يرعى ويشجع الخواص ويعمق في نفوسهم روح التديّن ويمنحهم سقفاً خاصاً من المستوى الايماني ويدفعهم الى اُفق سياسي يتحرّكون به ضد الخصوم بشكل سليم ويوفّر لهم قوة تمنحهم قدرة المواصلة وسموّ النفس.
وفي هذا المجال نلاحظ ما يلي:
1- شحّذ الإمام عليه السلام الهمم التي آمنت بالحق موضحاً أنّ الأمر لا يتعلق بكثرة الانصار أو قلتها.
فعن سماعة بن مهران قال: قال لي العبد الصالح عليه السلام : "ياسماعة أمنوا على فرشهم، وأخافوني أما والله لقد كانت الدنيا وما فيها إلاّ واحد يعبد الله، ولو كان معه غيره لاضافه الله عزّ وجلّ اليه حيث يقول: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين﴾ فصبر بذلك ماشاء الله. ثم إن الله آنسه باسماعيل واسحاق، فصاروا ثلاثة.
أما والله إن المؤمن لقليل، وإنّ أهل الباطل لكثير أتدري لم ذلك ؟ فقلت: لا أدري جعلت فداك. فقال: صيّروا أنساً للمؤمنين يبثّون اليهم ما في صدورهم، فيستريحون الى ذلك ويسكنون إليه".
2- لقد سعى الإمام عليه السلام لتربية شيعته على أساس تقوية أواصر الاخوة والمحبة الايمانية بحيث تصبح الجماعة الصالحة قوة اجتماعية متماسكة لا يمكن زعزعتها أو تضعيفها لقوة الترابط العقائدي والروحي فيما بينها.
لنقرأ النص التالي معاً:
سأل الإمام موسى عليه السلام يوماً أحد أصحابه قائلا له: "يا عاصم كيف أنتم في التواصل والتبارّ ؟ فقال: على أفضل ما كان عليه أحد. فقال عليه السلام : أيأتي أحدكم عند الضيقة منزل أخيه فلا يجده، فيأمر باخراج كيسه فيخرج فيفضّ ختمه فيأخذ من ذلك حاجته، فلا ينكر عليه؟! قال: لا، قال: لستم على ما أحب من التواصل والضيقة والفقر".
ثالثاً: البناء العملي والانتماء الفكري:
ركّز الإمام الكاظم عليه السلام في تربيته للجماعة الصالحة على ضرورة الانتماء الفكري والمعرفي لمدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وتحرك الإمام عليه السلام بهذا الاتّجاه مستغلا للنهضة الفكرية التي حقّقها الإمام الصادق عليه السلام من قبل فقام باكمال عمل أبيه في بناء الكادر المتخصص فامتدّت قواعده من هذا النوع حتى ذكر له ( 319 ) صحابياً كل منهم تلقى العلم والمعرفة من الإمام الكاظم عليه السلام وقد خضعت هذه الجماعة بانتمائها الفكري الى برمجة متقنة يمكنها مواجهة التحديات الثقافية والفقهية والابداع في ميدانها الخاص.
وفيما يلى نشير الى جانب من نشاط الإمام عليه السلام بهذا الاتّجاه:
قام الإمام موسى الكاظم عليه السلام بإعداد نخبة من الفقهاء ورواة الحديث تقدّر كما ذكرنا بـ ( 319 ) شخصاً لكن قد تميّز من بين أصحابه ستة بالصدق والأمانة وأجمع الرواة على تصديقهم فيما يروونه عن الأئمة عليهم السلام على أنه اشتهر بين المحدثين ثمانية عشر فقيهاً ومحدّثاً من أصحاب الأئمة الثلاثة: (الباقر والصادق والكاظم) وهم المعروفون بأصحاب الاجماع، ستة من أصحاب "أبي جعفر" وستة من أصحاب "أبي عبدالله" وستة من أصحاب "أبي الحسن موسى عليهم السلام "، وهم: "يونس بن عبد الرحمن"، و"صفوان بن يحيى بياع السابري"، و"محمد بن أبي عمير"، و"عبدالله بن المغيرة"، و"الحسن ابن محبوب السرّاد"، و"أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي"هذا في المجال الفقهي أما الميادين الفكرية الأخرى مثل الكلام والقرآن، واللغة وما شاكل ذلك فلها أيضاً نخبة متخصصة فيها.
* سلسلة أعلام الهداية، الإمام الكاظم ع، ج9، ص 104-110.
2011-06-27