يتم التحميل...

أهمّ أدوار الإمام الباقر عليه السلام

الإمام محمد الباقر(ع)

لقد أدّت السياسات التي انتهجها الأمويّون إلى انحراف الأمّة عن مسيرة الحقّ والعدل, فكان أن انحسرت كلّ معالمه وآثاره الحقيقيّة عن مختلف المواضع والمواقع على امتداد مساحة الدولة الإسلاميّة, في طول البلاد وعرضها.

عدد الزوار: 921

لقد أدّت السياسات التي انتهجها الأمويّون إلى انحراف الأمّة عن مسيرة الحقّ والعدل, فكان أن انحسرت كلّ معالمه وآثاره الحقيقيّة عن مختلف المواضع والمواقع على امتداد مساحة الدولة الإسلاميّة, في طول البلاد وعرضها.

وظهرت تبعات هذه السياسات الكبيرة والخطيرة على الحياة الفكريّة والثقافيّة والعقيديّة للناس, وعلى كلّ الواقع السياسيّ والاجتماعيّ والتربويّ, وغيره.

وقد كانت لهذه السياسات نتائج مرّة, حيث تمكّنت من تدمير البنية الفكريّة, والعقيديّة, والثقافيّة والتربويّة الإسلاميّة بصورة عامّة تدميراً كاملاً, أو كادت.

وأصبحت الأمّة تعيش غربة حقيقيّة عن الإسلام وعن القرآن وأحكامه, وعن رسومه وأعلامه, وعن عهد الإمامة.

وفي عهد الإمام الباقر عليه السلام, كان قد مضى على هذه السياسات مدّة من الزمن طويت خلالها أجيال, لينشأ ثمّة جيل جديد أشدّ إيغالاً في البعد عن هذا الدين, وعن نبيّه الكريم, وقرآنه العظيم.

وقد كان الإنجاز الكبير والمهمّ جداً للإمام الباقر عليه السلام هو في هذا المجال بالذات. فإنّه قد بقر العلم لهذه الأمّة, ولم يترك باباً من أبواب الفقه والشريعة, ولا مجالاً في شتّى مناحي المعارف. ولا شأناً من شؤون العقيدة, والأخلاق, والتربية, والسياسة, والسلوك, وغير ذلك ممّا تحتاج إليه الأمّة إلّا وسجّل فيه وفي أدقّ تفاصيله وجزئيّات النظريّة والتطبيقية كلمة الإسلام الهادفة, والمرشدة إلى طريق الحقّ, والخير, والهدى.

ثمّ جاء بعده ولده الإمام الصادق البارّ الأمين عليه السلام ليكمل المسيرة ويتابع رسم الطريق, لكلّ الأجيال, وعلى امتداد العصور والدهور.

وكان الإمام السجّاد قبلها هو الذي استطاع بسياسته الفضلى, وبطريقته المثلى أن يهيّئ المناخ المناسب لنشوء مدرستها سيّما التي استقطبت المئات من روّاد العلم بل الآلاف. إذ من البديهيّ أنّ هذا الامتداد القويّ والعميق لم يكن ليحصل لو لم يسبقه تخطيط وإعداد عمليّ واسع في نطاق ترسيخ قواعد فكريّة واجتماعيّة وخلقيّة أو الاستفادة من ظروف سياسيّة أصبحت مؤاتية فأرسيت القاعدة العقيديّة والفكريّة الصلبة, التي قام عليها ذلك البناء الشامخ لمدرسة استطاعت أن تلهب في العالم الإسلاميّ, جذوة طالما عمل الحكّام والمتسلّطون على إطفائها, وقد تركت بصماتها على كلّ قضيّة, وفي كلّ موضع وموقع, في شتّى مجالات الحياة1.

ويمكننا أن نسلّط الضوء على أمرين من أهمّ الأدوار التي قام بها الإمام عليه السلام في عصره:

أ- النهوض بجامعة أهل البيت عليهم السلام:

إنّ الظروف التي تهيّأت للإمامين الباقر والصادق عليهما السلام لم تتهيّأ لغيرهما من الأئمّة عليهم السلام, ذلك لأنّ سنيّ إمامة الباقر عليه السلام قد رافقتها بوادر النقمة العارمة على سياسة الأمويّين والدعوة في مختلف الأقطار للتخلّص منهم ومن سوء صنيعهم مع العلويّين من أقوى الأسلحة بيد أخصامهم الطامعين بالحكم, ممّا دعاهم إلى اتّخاذ موقف من الشيعة وأئمّتهم أكثر اعتدالاً ممّا كانوا عليه بالأمس, ولمّا جاء عهد الإمام الصادق عليه السلام كانت الدولة الأمويّة تلفظ أنفاسها الأخيرة وتعاني من انتصارات أخصامها العبّاسيّين هنا وهناك وبالتالي تقلّص ظلّها وتمَّ الأمر للعبّاسيّين.

في هذه الظروف الخاصّة انطلق الإمامان الباقر والصادق عليهما السلام لأداء رسالتهما وتمّ لهما ذلك بين عهدين: عهد تحيط به الكوارث والهزائم, وعهد ظهرت فيه تباشير النصر وأحلام السيطرة على الحكم, وقامت الحكومة الجديدة على حساب العلويّين, ولم تتهيّأ مثل هذه الظروف لأحد من أئمّة الشيعة, ولمّا استتبّ الأمر للعبّاسيّين الذين تستّروا بأهل البيت وشيعتهم عادوا يمثّلون أقبح الأدوار التي مثّلها الأمويّون معهم, حتّى قال قائلهم:
يَا لَيْتَ جَوْرَ بَنِي مَرْوَانَ دَامَ لَنَا          وَلَيْتَ عَدْلَ بَنِي العَبَّاسِ في النَّارِ

لقد تأسّست جامعة أهل البيت في وقت كانت الدولة الأمويّة تحيط بها الأخطار من جميع جهاتها, واتّسعت لأكثر من أربعة آلاف طالب, ولكن ذلك كان بعد أن مضى على المسلمين أكثر من قرن من الزمن لا عهد لهم فيه بفقه يختصّ بأهل البيت, ولا بحديث يتجاهر الرواة في نسبته إليهم سوى ما كان يروى عنهم أحياناً بطريق الكتابة في الغالب, لأنّ الأمويّين كانوا جادّين في القضاء على كلّ آثارهم والتنكيل بكلّ من يُتّهم بولائهم2.

أهمّ المجالات العلميّة التي بيّنها الإمام عليه السلام:

وقد قام الإمام الباقر عليه السلام بتبيين العديد من الجوانب العقائديّة والفقهيّة والفكريّة, نشير إلى أهمّها:
1- تجديد علم التوحيد, وتعليم الأمّة تنزيه الله تعالى وتحصينها من التشبيه.
2- توضيح مقام النبوّة وردّ التّهم والشبهات حول شخصيّة النبيّ صلى الله عليه وآله, وكشف تحريفات سنّته وسيرته من قبل الحكومات ورواتها.
3- بيان عقيدة الإمامة وأصالتها في نسيج الإسلام, وتحديد الفئة الناجية, وإرساء معالم عقائدها, وتعليم الأمّة البراءة من مدّعي الإمامة.
4- بيان معالم الفقه الإسلاميّ ووضع أصول الفقه, في مواجهة الفقه الظنّي والكيفيّ, الذي تبنّته الحكومات وعلماؤها, وأصول الحديث في مواجهة الإسرائيليّات والمكذوبات عند بعض الرّواة.
5- فتح نافذة على الأمّة من الغيب النبويّ, وإخبارها عن بعض الأحداث في مستقبلها القريب والبعيد حتّى يتحقّق الوعد الإلهيّ بظهور مهديّها الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً3.

قال الشيخ المفيد قدّس سرّه: "وكان الباقر أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام من بين إخوته خليفة أبيه عليّ بن الحسين, ووصيّه والقائم بالإمامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل في العلم والزهد والسؤدد، وكان أنبههم ذكراً, وأجلّهم في العامّة والخاصّة وأعظمهم قدراً، ولم يَظهر عن أحدٍ من ولد الحسن والحسين عليهما السلام من علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر عن أبي جعفر عليه السلام، وروى عنه معالم الدين بقايا الصحابة ووجوه التابعين ورؤساء فقهاء المسلمين، وصار بالفضل به عَلَماً لأهله تضرب به الأمثال، وتسير بوصفه الآثار والأشعار، وفيه يقول القُرَظِيُّ:
يَا بَاقِرَ العِلْمِ لِأَهْلِ التُّقَى      وَخَيْرَ مَنْ لَبَّى عَلَى الأَجْبُلِ

وقال مالك بن أعين الجهنيّ فيه:
إِذا طَلَبَ النَّاسُ عِلْمَ القُرْآ     نِ كَانَتْ قُرَيْشٌ عَلَيْهِ عِيَالَا
وَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ ابْنُ بِنْتِ النَّبِـ     ـيِّ؟ نِلْتَ بِذَاكَ فُرُوعاً طِوَالا
نُجُومٌ تَهَلَّلُ لِلْمُدْلِجِينَ جِبَالٌ      تُوَرِّثُ عِلْماً جِبَالا4


وقد روى أبو جعفر عليه السلام أخبار المبتداء وأخبار الأنبياء، وكتب عنه الناس المغازي وأثروا عنه السنن واعتمدوا عليه في مناسك الحجّ التي رواها عن رسول الله صلى الله عليه وآله, وكتبوا عنه تفسير القرآن، وروت عنه الخاصّة والعامّة الأخبار، وناظر من كان يردّ عليه من أهل الآراء، وحفظ عنه الناس كثيراً من علم الكلام...5

ب- بناء النخبة الصالحة:
لقد جهد الأئمّة عليهم السلام في تربية مجموعة من الأفراد كان لهم قصب السبق في الفضيلة, ومن هنا كان لكلّ إمام ثلّة طاهرة من الأصحاب والأنصار, عرفوا بالحواريّين.

وقد كان للإمام الباقر عليه السلام مجموعة من الأصحاب نالوا مرتبة عالية من العلم والعمل, يقول الشيخ الكشّي أحد أئمّة علم الرجال: "أجمعت العصابة على تصديق هؤلاء الأوّلين من أصحاب أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام وانقادوا لهم بالفقه، فقالوا: أفقه الأوّلين ستّة: زرارة، ومعروف بن خربوذ، وبريد، وأبو بصير الأسديّ، والفضيل بن يسار، ومحمّد بن مسلم الطائفيّ، قالوا: وأفقه الستّة زرارة، وقال بعضهم مكان أبي بصير الأسديّ أبو بصير المراديّ وهو ليث بن البختريّ"6.

ونحن لا يسعنا في هذا المختصر استقصاء أحوال جميع أصحابه, إلّا أنّنا نكتفي بالإشارة إلى بعض النماذج منهم:

1- زرارة بن أعين:
وهو من أجلّة أصحاب الإمام الباقر عليه السلام, قال عنه الرجاليّ الكبير المعروف بالشيخ النجاشيّ: "أبو الحسن, شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدّمهم، وكان قارئاً فقيهاً متكلّماً شاعراً أديباً، قد اجتمعت فيه خلال الفضل والدين، صادقاً فيما يرويه"7.

وقد رويت في حقّه روايات عديدة:

منها: ما رواه هو عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال له: "يا زرارة إنّ اسمك في أسامي أهل الجنّة بغير ألف"، قلت: نعم جعلت فداك اسمي عبد ربّه, ولكنّي لقّبت بزرارة8.
ومنها: ما عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "رحم الله زرارة بن أعين، لولا زرارة بن أعين، لولا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي عليه السلام"9.
ومنها: عن ابن أبي عمير، قال:" قلت لجميل بن درّاج: ما أحسن محضرك وأزين مجلسك؟ فقال: إي والله ما كنّا حول زرارة بن أعين إلّا بمنزلة الصبيان في الكتاب حول المعلم"10.

2- أبان بن تغلب:
أبو سعيد, قال عنه النجاشيّ: "عظيم المنزلة في أصحابنا، لقي عليّ بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله عليهم السلام، روى عنهم، وكانت له عندهم منزلة وقدم". "وكان قارئاً من وجوه القرّاء، فقيهاً، لغويّاً، سمع من العرب وحكى عنهم".

وكان أبان رحمه الله مقدّماً في كلّ فنٍّ من العلم في القرآن والفقه والحديث والأدب واللغة والنحو.

وقال له أبو جعفر الباقر عليه السلام: "اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك".

وكان أبان إذا قدم المدينة تقوّضت إليه الحلق، وأخليت له سارية النبيّ صلى الله عليه وآله.

وعن أبان بن محمّد بن أبان بن تغلب قال: سمعت أبي يقول: دخلت مع أبي إلى أبي عبد الله عليه السلام، فلمّا بصر به أمر بوسادة فألقيت له، وصافحه واعتنقه وساءله ورحّب به.

وقال أبو عبد الله عليه السلام لمّا أتاه نعيه: "أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان"11.

3- محمّد بن مسلم:
الثقفيّ الطائفيّ أبو جعفر, قال عنه النجاشيّ: "وجه أصحابنا بالكوفة، فقيه, ورع, صحب أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام، وروى عنهما وكان من أوثق الناس"12.

عن عبد الله بن أبي يعفور، قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ولا يمكن القدوم، ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني وليس عندي كلَّ ما يسألني عنه، قال: "فما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفيّ، فإنّه قد سمع من أبي وكان عنده وجيهاً"13.

عن حريز، عن محمّد بن مسلم، قال: ما شجر14 في رأيي شيء قطّ إلّا سألت عنه أبا جعفر عليه السلام حتّى سألته عن ثلاثين ألف حديث, وسألت أبا عبد الله عليه السلام عن ستّة عشر ألف حديث15.

عن هشام بن سالم، قال: أقام محمّد بن مسلم بالمدينة أربع سنين يدخل على أبي جعفر عليه السلام يسأله، ثمّ كان يدخل على جعفر بن محمّد يسأله، قال ابن أحمد: فسمعت عبد الرحمن بن الحجّاج، وحمّاد بن عثمان يقولان: ما كان أحد من الشيعة أفقه من محمّد بن مسلم16.

وكان محمّد بن مسلم، يدخل على أبي جعفر عليه السلام فقال أبو جعفر: بشّر المخبتين، وكان رجلاً موسراً جليلاً, فقال أبو جعفر عليه السلام: "تواضع"، فأخذ قوصرة من تمر فوضعها على باب المسجد وجعل يبيع التمر، فجاء قومه فقالوا: فضحتنا! فقال: أمرني مولاي بشيء فلا أبرح حتّى أبيع هذه القوصرة، فقالوا: أمّا إذا أبيت إلّا هذا فاقعد في الطحّانين، ثمّ سلّموا إليه رحاً، فقعد على بابه وجعل يطحن.

وقيل: إنّه كان من العبّاد في زمانه17.

عن زرارة، قال: شهد أبو كريبة الأزديّ ومحمّد بن مسلم الثقفيّ عند شريك بشهادة وهو قاضٍ، فنظر في وجوههما مليّاً، ثمّ قال: جعفريّان فاطميّان! فبكيا، فقال لهما: ما يبكيكما؟ قالا له: نسبتنا إلى أقوامٍ لا يرضون بأمثالنا أن يكونوا من إخوانهم لما يرون من سخف ورعنا، ونسبتنا إلى رجل لا يرضى بأمثالنا أن يكونوا من شيعته، فإن تفضّل وقبلنا فله المنّ علينا والفضل، فتبسّم شريك، ثمّ قال: إذا كانت الرجال فلتكن أمثالكم، يا وليد أجزهما هذه المرّة..18.

عن محمّد بن مسلم، قال: خرجت إلى المدينة وأنا وجع ثقيل. فقيل له (يعني للباقر عليه السلام): محمّد بن مسلم وجع، فأرسل إليّ أبو جعفر بشراب مع الغلام مغطّى بمنديل فناولنيه الغلام وقال لي: اشربه فإنّه قد أمرني ألّا أرجع حتّى تشربه، فتناولته فإذا رائحة المسك منه وإذا شراب طيب الطعم بارد، فلمّا شربته قال لي الغلام يقول لك إذا شربت فتعال، ففكّرت فيما قال لي ولا أقدر على النهوض قبل ذلك على رجلي. فلمّا استقرّ الشراب في جوفي كأنّما نشطت من عقال19، فأتيت بابه فاستأذنت عليه، فصوَّت بي: "صحّ الجسم, ادخل ادخل"، فدخلت وأنا باكٍ فسلّمت عليه وقبّلت يده ورأسه، فقال لي: "وما يبكيك يا محمّد"؟ فقلت: جعلت فداك أبكي على اغترابي وبعد الشقّة وقلّة المقدرة على المقام عندك والنظر إليك. فقال لي: "أمّا قلّة المقدرة: فكذلك جعل الله أولياءنا وأهل مودّتنا وجعل البلاء إليهم سريعاً، وأمّا ما ذكرت من الغربة: فلك بأبي عبد الله أسوة بأرض ناءٍ عنّا بالفرات. وأمّا ما ذكرت من بعد الشقّة: فإنّ المؤمن في هذه الدار غريب، وفي هذا الخلق المنكوس حتّى يخرج من هذه الدار إلى رحمة الله. وأمّا ما ذكرت من حبّك قربنا والنظر إلينا وأنّك لا تقدر على ذلك: فالله يعلم ما في قلبك وجزاؤك عليه"20.

4- جابر بن يزيد:
أبو عبد الله الجعفيّ, كان باب الإمام الباقر عليه السلام20, ومن حملة الأسرار.

عن جابر بن يزيد الجعفيّ، قال: حدّثني أبو جعفر عليه السلام بسبعين ألف حديث لم أحدّث بها أحداً قطّ، ولا أحدّث بها أحداً أبداً، قال جابر: فقلت لأبي جعفر عليه السلام جعلت فداك إنّك قد حمّلتني وقراً عظيماً بما حدّثتني به من سرّكم الذي لا أحدّث به أحداً، فربّما جاش في صدري حتّى يأخذني منه شبه الجنون، قال: "يا جابر فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبّان فاحفر حفيرة ودلّ رأسك فيها، ثمّ قل: حدّثني محمّد بن عليّ بكذا وكذا"22.

عن عبد الحميد بن أبي العلاء، قال: دخلت المسجد حين قتل الوليد، فإذا الناس مجتمعون قال: فأتيتهم فإذا جابر الجعفيّ عليه عمامة خزّ حمراء وإذا هو يقول: حدّثني وصيّ الأوصياء ووارث علم الأنبياء محمّد بن عليّ عليه السلام، قال: فقال الناس: جنّ جابر جنّ جابر23.

عن جابر بن يزيد الجعفيّ، قال: خدمت سيّدنا الإمام أبا جعفر محمّد بن عليّ عليهما السلام ثماني عشرة سنة، فلمّا أردت الخروج ودّعته، وقلت: أفدني. فقال: "بعد ثماني عشرة سنة، يا جابر"! قلت: نعم إنّكم بحر لا ينزف ولا يبلغ قعره.

فقال: "يا جابر، بلّغ شيعتي عنّي السلام، وأعلمهم أنّه لا قرابة بيننا وبين الله عزَّ وجلَّ، ولا يتقرّب إليه إلّا بالطاعة له.

يا جابر، من أطاع الله وأحبّنا فهو وليّنا، ومن عصى الله لم ينفعه حبّنا.

يا جابر، من هذا الذي يسأل الله فلم يعطه، أو توكّل عليه فلم يكفه، أو وثق به فلم ينجه!

يا جابر، أنزل الدنيا منك كمنزل نزلته تريد التحويل عنه، وهل الدنيا إلّا دابة ركبتها في منامك فاستيقظت وأنت على فراشك غير راكب ولا آخذ بعنانها، أو كثوب لبسته أو كجارية وطئتها.

يا جابر، الدنيا عند ذوي الألباب كفيء الظلال، لا إله إلّا الله إعزاز لأهل دعوته، الصلاة تثبيت للإخلاص وتنزيه عن الكبر، والزكاة تزيد في الرزق، والصيام والحجّ تسكين القلوب، القصاص والحدود حقن الدماء، وحبّنا أهل البيت نظام الدين، وجعلنا الله وإيّاكم من الذين يخشون ربّهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون"24.

عن النعمان بن بشير قال: كنت مزاملاً لجابر بن يزيد الجعفيّ، فلمّا أن كنّا بالمدينة دخل على أبي جعفر عليه السلام فودّعه وخرج من عنده وهو مسرور حتّى وردنا الأخيرجة- أوّل منزل نعدل من فيْد إلى المدينة- يوم جمعة فصلّينا الزوال، فلمّا نهض بنا البعير إذا أنا برجل طوال آدم معه كتاب، فناوله جابراً فتناوله فقبّله ووضعه على عينيه وإذا هو: من محمّد بن عليّ إلى جابر بن يزيد وعليه طين أسود رطب، فقال له: متى عهدك بسيّدي؟ فقال: الساعة فقال له: قبل الصلاة أو بعد الصلاة؟ فقال: بعد الصلاة، ففكّ الخاتم وأقبل يقرؤه ويقبض وجهه حتّى أتى على آخره، ثمّ أمسك الكتاب فما رأيته ضاحكاً ولا مسروراً حتّى وافى الكوفة، فلمّا وافينا الكوفة ليلاً بتّ ليلتي، فلمّا أصبحت أتيته إعظاماً له فوجدته قد خرج عليّ وفي عنقه كعاب25، قد علّقها وقد ركب قصبة وهو يقول: "أجد منصور بن جمهور أميراً غير مأمور" وأبياتاً من نحو هذا فنظر في وجهي ونظرت في وجهه فلم يقل لي شيئاً ولم أقل له, وأقبلت أبكي لما رأيته, واجتمع عليّ وعليه الصبيان والناس، وجاء حتّى دخل الرحبة وأقبل يدور مع الصبيان, والناس يقولون: جُنّ جابر بن يزيد جُنّ، فوالله ما مضت الأيّام حتّى ورد كتاب هشام بن عبد الملك إلى واليه أن انظر رجلاً يقال له: جابر بن يزيد الجعفيّ فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه، فالتفت إلى جلسائه فقال لهم: من جابر بن يزيد الجعفيّ؟ قالوا: أصلحك الله كان رجلاً له علم وفضل وحديث، وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم, قال: فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب، فقال: الحمد لله الذي عافاني من قتله، قال: ولم تمض الأيّام حتّى دخل منصور بن جمهور الكوفة وصنع ما كان يقول جابر26.


1- اقتبسنا هذا الكلام من مقدّمة للعلّامة السيّد جعفر مرتضى على كتاب الإمام الباقر نجيّ الرسول للكاتب سليمان الكتانيّ, وانظر حول تأسيس الإمام السجّاد عليه السلام للمدرسة العلمّية كتاب "سيّد البكّائين" ص 55, من سلسلة مجالس العترة.
2- الحسنيّ هاشم معروف: سيرة الأئمّة الاثني عشر, ج 2 ص 194.
3- الكورانيّ العامليّ عليّ: جواهر التاريخ ج 5 ص 48.
4- المفيد: الإرشاد ج 2 ص 157.
5- المصدر السابق ج 2 ص 163.
6- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال المعروف برجال الكشّي, ج 2 ص 507.
7- النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 175 الرقم 463.
8- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال ج 1 ص 345.
9- المصدر السابق ص 348.
10- المصدر السابق ص 346.
11- النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 10- 12 الرقم 7, وانظر: الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 622.
12- النجاشيّ: رجال النجاشيّ ص 324, الرقم 882.
13- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال ج 1 ص 383.
14- شجر بين القوم إذا اختلف الأمر بينهم.
15- المصدر السابق ص 386.
16- المصدر السابق ص 391.
17- المصدر السابق ص 388- 389.
18- المصدر السابق ص 384- 385.
19- كذا والقياس أنشطت. نشط الحبل: عقده. وأنشطه حلّه. ويقال هذا للمريض إذا برأ، وللمغشيّ عليه إذا أفاق. والعقال حبل يشدّ به البعير في وسط ذراعه.
20- المصدر السابق ص 391- 392.
21- ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب ج 4 ص 211.
22- الطوسيّ: اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 441- 442.
23- المصدر السابق ص 437.
24- الطوسيّ: الأماليّ ص 296.
25- الكعاب: فصوص النرد, واحدها كعب وكعبة.
26- الكلينيّ: الكافي ج 1 ص 396. قال العلّامة المجلسيّ في البحار ج 46 ص 283, بعد نقله لهذا الحديث: بيان: فيد: منزل بطريق مكّة، والمعنى أنّك إذا توجّهت من فيْد إلى المدينة فهو أوّل منازلك، والحاصل: أنّ الطريق من الكوفة إلى مكّة وإلى المدينة مشتركان إلى فيْد ثمّ يفترق الطريقان، فإذا ذهبت إلى المدينة عادلاً عن طريق مكّة فأوّل منزل تنزله الأخيرجة.
وقيل: أراد به أنّ المسافة بين الأخيرجة وبين المدينة كالمسافة بين فيْد والمدينة.
وقيل: المعنى أنّ المسافة بينها وبين الكوفة كانت مثل ما بين فيْد والمدينة وما ذكرنا أظهر.
ومنصور بن جمهور كان والياً بالكوفة ولّاه يزيد بن الوليد من خلفاء بني أميّة بعد عزل يوسف بن عمر في سنة ستّ وعشرين ومائة، وكان بعد وفاة الباقر عليه السلام باثنتي عشرة سنة، ولعلّ جابراً رحمه الله أخبر بذلك فيما أخبر من وقائع الكوفة.

 

2010-11-12