يتم التحميل...

حجة الوداع

حجة الوداع

تُعتبر مراسيم الحج ومناسكه من أعظم العبادات الإسلامية الجماعية التي يؤديها المسلمون، جلالاً وأُبهة، وذلك لأنّ أداء مراسيم الحج ومناسكه في كل سنة مرة واحدة، يُمثِّلُ بالنسبة للأُمة الإسلامية أكبر مظاهر الاتحاد والوحدة،

عدد الزوار: 42

تُعتبر مراسيم الحج ومناسكه من أعظم العبادات الإسلامية الجماعية التي يؤديها المسلمون، جلالاً وأُبهة، وذلك لأنّ أداء مراسيم الحج ومناسكه في كل سنة مرة واحدة، يُمثِّلُ بالنسبة للأُمة الإسلامية أكبر مظاهر الاتحاد والوحدة، ودليلاً كاملاً على الترفع على المناصب والدرجات، وتكونُ نموذجاً بارزاً للمساواة بين جميع أبناء البشر، وسبيلاً إلى تقوية أواصر الأُخوة المتينة بين المسلمين. فإذا كان المسلمون لا ينتفعون بهذه المائدة الكبرى التي منحها ربُهم لهم، وإذا كانُوا لا يستفيدون من هذا المؤتمر الإسلامي السنوي العظيم الذي يمكنه بِحقِّ أن يجيبَ ويعالج الكثير من مشكلاتنا الاجتماعية، ويكون نقطة تحول عميق في حياتنا- استفادة كاملة لائقة، فانَّ ذلك ليس وبدون ريب أو شك ناشئاً من قصور في القانون الإسلامي، بل هو دليل على قصور قادة المسلمين وتقصير حُكامهم الذين لا يُولون هذه المراسم وهذا الموسم العظيم اهتماماً مناسباً، ولا يفكرون في استغلاله على الوجه المطلوب.

فمنذ أن فرغ النبي إبراهيم الخليل عليه السَّلام من إقامة صرح الكعبة المعظَّمة ودعا الموحِّدين إلى زيارتها، والحج إليها لم تزل هذه البنية الشريفة كعبة القلوب، ومطاف الشعوب والأقوام والجماعات الموحّدة التي تأتي إليها كل عام من شتى نقاط العالم، ومن مختلف أنحاء الجزيرة العربية، ويؤدُّون عندها المناسك التي علّمها إياهم النبيُ العظيمُ إبراهيم الخليل على نبينا وآله وعليه السَّلام.

ولكن تقادم العهد، وانقطاع شعب الحجاز عن قيادة الأنبياء، وأنانية قريش، وسيادة الوثنية على عقول العرب أوجب أن تتعرض مراسم الحج ومناسكه من حيث الزمان والمكان لعملية تحريف وتغيير، وان تفقد صبغتها الحقيقية ووجهها الواقعيّ.

لهذه الجهات أُمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في السنة العاشرة من الهجرة، ومن قِبَلِ اللّه سبحانه أن يشارك في مراسم الحج شخصياً، ويقوم بتعليم مناسك الحج للناس، ويوقفَهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عملياً، كما يقوم بإزالة كلِّ ما علِق بها من زوائد طيلة السنوات الغابرة، ويعيّنُ حدود "عرفات"و "منى"ويوم الإفاضة منها ولهذا فانّ السفر كان سفراً ذا طابع تعليمي، قبل أن يكون ذا طابع سياسيّ واجتماعي.

أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الشهر الحادي من العام العاشر للهجرة أي شهر ذي القعدة بأن ينادى في المدينة وبين القبائل بأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يقصد مكة للحج هذا العام، فاحدث هذا الإعلان شوقاً وابتهاجاً عظيمين في نفوس جمع كبير من المسلمين، فتهيّأ عدد هائل منهم لمرافقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وضربت مضارب وخيم كثيرة خارج المدينة المنورة بانتظار حركة النبي صلّى اللّه عليه وآله وتوجّهه إلى مكة.

وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ذي القعدة خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من المدينة متوجهاً إلى مكة، وقد استخلف مكانه في المدينة أبا دجانة الأنصاري، وقد ساق معه ما يزيد عن ستين بدنة.

وعندما بلغ الموكب النبويُّ العظيمُ إلى "ذي الحليفة"وهي نقطة فيها مسجد الشجرة أيضاً أحرم بلبس قطعتين عاديتين من القماش الأبيض من مسجد الشجرة، ودخل الحرم، ولبّى عند الإحرام قائل: "لبَّيكَ اللّهمَ لبَّيك لبّيك لا شريكَ لكَ لبيك إن الحمد والنعمة لك والملكَ لبَّيكَ لا شريك لكَ لبَّيك ".

وهو بذلك يلبي نداء إبراهيم، كما أنّه صلّى اللّه عليه وآله كان يكرّر هذه التلبية كلّما شاهد راكباً، أو علا مرتفعاً من الأرض، أو هبط وادياً.ولما شّارف مكة قطع التلبية المذكورة.

وفي اليوم الرابع من شهر ذي الحجة، دخل صلّى اللّه عليه وآله مكة المكرمة وتوجّه نحو المسجد الحرام رأساً، ثم دخله من باب بني شيبة وهو يحمد اللّه ويثني عليه ويصلي على إبراهيم عليه السَّلام.

ثم بدأ من الحجَر الأسود فاستلمه 1 أولاً، ثم طاف سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم عليه السلام. وعندما فرغ من صلاته سعى بين الصفا والمروة، ثم التفت إلى حجاج بيت اللّه الحرام وقال: "مَن لم يسُق منكُم هدياً فليُحلَّ وليجعَلها عُمرة -أي فليقصِّر: أي يأخذ من شعره وظفره فيحلّ له ما حرم عليه بالإحرام ومن ساق منكُم هدياً فليُقِم على إحرامه ".

وقد كرَه البعضُ هذا واعتذَروا بأنه يعزُّ عليهم أو لا يلذُّ لهم أن يخرجوا من الإحرام فيحلّ لهم ما يحرم على المحرم، فيلبسوا الثياب ويقربوا النساء ويتدهنوا ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله على إحرامه أشعث أغبر. وربّما قالو: لا يصحُّ هذا، كيف تقطر رؤوسنا من الغسل 2 ونحنُ زوّار بيت اللّه ؟.

الإمام علي عليه السلام يعود من اليمن

لما علم الإمام علي عليه السَّلام بتوجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله إلى مكة للمشاركة في مراسم الحج، خرج هو وجنوده وقد ساق معه هدياً للمشاركة في الحج، واصطحب حُلَلاً من بزّ اليمن وحريرها قد أخذها من أهل نجران، وهي الجزية التي تقرَّر دفعُها إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله.

ولقد تعجل عليّ عليه السَّلام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله واستخلف على جنده الذين خرجوا معه إلى الحج رجلاً من أصحابه لقيادتهم حتى مكة، فالتحق برسول اللّه ولقيه على مشارف مكة، فسُرَّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله به، وبما أحرزَه من نجاحات في مهمته التي بعثه بها إلى أرض اليمن، وقد أخبر بها النبي صلّى اللّه عليه وآله على وجه التفصيل.

فلما فرغ من بيان أخبار سفره، قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: "انطلِق فطف بالبيت، وحِلَّ كما حلَّ أصحابك. فقال علي: يا رسول اللّه إني أهللت كما أهللت.

فسأله النبيُ صلّى اللّه عليه وآله عن كيفية إهلاله ساعة أحرم للحج، فقال علي عليه السَّلام: يا رسول اللّه إني قلتُ حين أحرمتُ: "اللّهمَ إني أُهلُّ بما أهلَّ به نبيُّك وعبدُك ورسولُك محمَّد صلّى اللّه عليه وآله ".

قال النبي وقد أخبره بأنه يشاركه في الحكم ما دام أهلّ بهذه الكيفية: "فهل معكَ هدي ؟ ". قال علي: نعم وهو يشير إلى الهدي الذي ساقه معه من اليمن. فأشركه رسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله في الحكم، وثبت على إحرامه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حتى فَرغا عن الحج.ونحر رَسولُ اللّه صلّى اللّه عليه وآله الهديَ عن نفسه، كما نحر علي هديه أيضاً.

ثم إِن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله أمر علياً السلام بأن يرجع إلى جنوده الذين فارقهم، ويصطحبهم إلى مكة، فلما رجع علي عليه السلام إِليهم، وجد أن الرجل الذي استخلفه على أولئك الجنود قد عمد فكسا كلّ رجل من القوم حلة من البزّ الذي كان قد أخذه علي من أهل نجران ليسلّمها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، فانزعج من هذا التصرّف غير المشروع وقال له: ويلك ما هذا ؟

قال: كسوتُ القوم ليتجمّلوا به إذا قدموا في الناس بمكة، فقال علي عليه السلام: "ويلك!أنزع قبل أن تنتهي إِلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله "، فانتزع ذلك الرجل الحلل من الجنود، وردّها إِلى مكانها مع الأشياء الأُخرى من جزيه أهل نجران.

فانزعج جماعة من أولئك الجنود ممن يزعجهم العدل والنظام دائماً ويريدون أن تسير الأمور وفق أهوائهم ومشتهياتهم وإن خالفت سنن الحق ومبادئ العدالة، وأبدوا شكواهم من ما صنع بهم من استرداد الحلل والثياب.

ولما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله بمكة اشتكوا علياً عليه السلام، فقام رسول اللّه خطيباً في الناس وقال: "أيُّها الناس، لا تشكوا علياً، فوالله إِنه لأخشن في ذات اللّه -أو في سبيل- مِن أن يشكى".

*راجع: سيد المرسلين، الشيخ جعفر الهادي، مؤسسة النشر الإسلامي، ط2، قم/إيران، 1422هـ، ج2، ص628-633.


1-المراد من الاستلام هو مسح الحجر الأسود باليدين قبل الشروع بالطواف وفلسفة هذا العمل هي أن هذا الحجر كان يقف عليه إبراهيم لدى بناء جدران الكعبة وإقامتها ورفعها، واستلامُه نوع من تجديد الميثاق مع الخليل عليه السَّلام والعمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل إبراهيم.
2-هذه العبارة كناية عن مقاربة الأزواج وغسل الجناية لان مقاربتهن هي أحد محرمات الحرام وترتفع هذه الحرمة بالتقصير وهو أخذ شيء من شعر الرأس أو اللحية أو تقليم الظفر.

2012-10-19