يتم التحميل...

الغيبة الكبرى

بحوث حول الحجة(ع)

في الرواية عن الإمام محمَّد التقيّ عليه السلام أنه قال: "إنَّ الإمام بعدي ابني عليّ، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه، ثُمَّ سكت، فقلت له: يا بن رسول الله، فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى عليه السلام بكاءاً شديداً، ثُمَّ قال: إنَّ من بعد الحسن ابنه القائم بالحقِّ المنتظر. فقلت له: يا ابن رسول الله، لِمَ سُمِّيَ القائم؟ قال: لأنَّه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته، فقلت له: ولِمَ سُمِّيَ المنتظر؟

عدد الزوار: 85

تمهيد

في الرواية عن الإمام محمَّد التقيّ عليه السلام أنه قال: "إنَّ الإمام بعدي ابني عليّ، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي، والإمام بعده ابنه الحسن أمره أمر أبيه، وقوله قول أبيه، وطاعته طاعة أبيه، ثُمَّ سكت، فقلت له: يا بن رسول الله، فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى عليه السلام بكاءاً شديداً، ثُمَّ قال: إنَّ من بعد الحسن ابنه القائم بالحقِّ المنتظر. فقلت له: يا ابن رسول الله، لِمَ سُمِّيَ القائم؟ قال: لأنَّه يقوم بعد موت ذكره وارتداد أكثر القائلين بإمامته، فقلت له: ولِمَ سُمِّيَ المنتظر؟ قال: لأنَّ له غيبة يكثر أيّامها، ويطول أمدها، فينتظر خروجه المخلصون، وينكره المرتابون، ويستهزىء بذكره الجاحدون، ويكذِّب بها الوقَّاتون، ويهلك فيها المستعجلون، وينجو فيها المسلّمون"1.

لقد مهَّد أهل البيت عليهم السلام للدور الذي سيقوم به الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف، منذ ولادته حتَّى قيام دولته العادلة، وسلطته على الأرض كلِّها، والمراحل التي ستمرُّ بين ذلك، خصوصاً مرحلة الغيبة الكبرى لما تحتاج هذه المرحلة من تهيئة المؤمنين لهذا الموضوع، وتعايشهم مع غيبة إمامهم، واستعدادهم لمواجهة تحدِّيات مرحلة الغيبة. فكانت هذه الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام وغيرها من الروايات التي تحمل في طيَّاتها رسائل واضحة للمؤمنين تثبِّتهم في غيبته وترشدهم إلى مثل هذه المرحلة التي ينبغي أن يكونوا جاهزين لها على المستوى العقائديّ والنفسيّ. وببركة هذه التوجيهات استطاع المؤمنون أن يتعايشوا مع هذه المرحلة ويوفِّروا متطلباتها، إلى أن يأذن الله تعالى لمولانا صاحب الزمان بالظهور. وهناك أمور لا بدَّ من الإجابة عنها في هذا الإطار نستعرضها خلال هذا الدرس إنْ شاء الله تعالى.


أسباب الغيبة

لا شكَّ أنَّ غيبة الإمام ليست هي القاعدة بالنسبة للدور الذي ينبغي أن يقوم به، بل الأصل أن يكون حاضراً بين أنصاره وأعوانه، يدير وينظِّم ويدبِّر الشؤون ويحقِّق الأهداف، من خلال توجيهاته وقيادته ومواكبته للأمور وحضوره المستمر.

وما نعيشه نحن من غيبة الإمام صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف في هذا الزمن دفعت إليه ظروف وأسباب خاصّة، يكفي أن تزول هذه الظروف وتنتهي تلك الأسباب حتَّى يعود الإمام للظهور والقيادة المباشرة وتحقيق الأهداف والوعد الإلهي.

ومن المهمِّ أن نتعرَّف على هذه الظروف والأسباب التي دعت وتدعو الإمام للغياب، حتَّى نسعى لرفعها وتجنُّبها ممَّا يُعجِل في ظهوره عجل الله فرجه الشريف، وهذا ما سنتعرَّض له فيما يلي:
 
فشل كلّ الأطروحات الأخرى

لقد خلق الله تعالى الإنسان في هذه الدُّنيا وجعله مخيَّراً بين الطرقات والسبل بعد أن أرشده إلى طريق الحقِّ وسبيل النجاة، لكنَّ هذا الإنسان لم يندفع باتِّجاه طريق الحقِّ وسبيل النجاة حصراً، بل سلك الكثير من السُبُلِ الأخرى، وكأنَّه يستشعر منها فائدة له، وهذه التجارب للسُبُلِ الأخرى التي أخبر الله تعالى عنها مسبقاً أنَّها لن يكون منها سوى الخسران والضلال والظلم، ستستمرُّ حتَّى ظهور الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف، ويتحقّق قول الله تعالى: ﴿وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ2.

فدولة الإمام عجل الله فرجه الشريف ستكون بعد أن يجرّب الناس جميع الدول والأنظمة الأخرى، ويحصلون على فرصتهم الكافية في ذلك. وعندها لا يبقى أمام الناس سوى القبول بدولة الإمام وبالمشروع الإلهيّ بعد فشل جميع مشاريعهم الأخرى.

وقد ورد عن الإمام محمَّد الباقر عجل الله فرجه الشريف قال: "إنَّ دولتنا آخر الدول ولم يبقَ أهل بيت لهم دولة إلا ملكوا قبلنا، لئلا يقولوا إذا رأوا سيرتنا لو ملكنا سرنا بمثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ"43.

وعن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام قال: "ما يكون هذا الأمر حتَّى لا يبقى صنف من الناس إلا وقد ولُّوا على الناس، حتَّى لا يقول قائل: إنَّا لو وُلِّينا لعدلنا، ثُمَّ يقوم القائم بالحقّ والعدل"5.

وقد رأينا عبر التاريخ كما نرى الآن أيضاً كيف أنَّ جميع هذه الأطروحات تتهاوى وتسقط الواحدة تلو الأخرى، بعد أن تثبت ظلمها وفشلها.

تمحيص المؤمنين

إنَّ مشروعاً بحجم مشروع الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف الذي يراد له أن يكون مشروع المعمورة كلِّها، بعد أن يواجه جميع التحدّيات العسكريَّة والماديَّة والنفسيَّة والعقائديَّة...، لا يستطيع أن يقوم بحملها إلا المخلصون حقَّاً الذين واجهوا جميع أنواع التحدّيات والصعوبات وثبتوا... وحيث إنَّ مشروع الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف ومشروع انتصار وحسم نهائيّ، غير قابل للتراجع أو الانهزام، كان لا بدَّ من توفر أشخاص مضمونين وممتحنين للقيام بهذا المشروع، من هنا كان تمحيص المؤمنين واختبارهم في زمن الغيبة ليقوى عود المؤمنين والمخلصين حقَّاً، ويصبحوا جاهزين للقيام بهذه المسؤوليَّة، ولينكشف الإنهزاميُّون وضعاف النفوس وينسحبوا قبل أن يشكِّلوا أيَّة ثغرة في جيش الإمام المنتظر عجل الله فرجه الشريف، قال تعالى: ﴿مَّا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عليه حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ6.

وعن الإمام الرضا عليه السلام قال: "والله لا يكون ما تمدُّون إليه أعناقكم حتَّى تُميَّزوا وتُمحَّصوا فلا يبقى منكم إلا الأندر، ثمَّ قرأ قوله تعالى: ﴿ألم * أَحَسِبَ الناسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ"7 8.


التسليم المطلق بعد سنين الغيبة

إنِّ فقد الإمام وغيبته، تشعر أنصاره بأهميَّة نعمة حضوره، وبالأضرار الجسيمة التي تلحق غيبته، وبالتالي يرتبطون به ارتباطاً عقليَّاً وقلبيَّاً عالياً جدَّاً، بحيث إنَّه لو ظهر لانساقوا إليه ولبايعوه وتابعوه وأطاعوا أوامره بكلِّ قوَّة وتسليم ووضوح رؤية.

فمن المعروف أنَّ الإنسان لا يقدِّر قيمة الشيء إلا بعد فقده، وهذا ما حصل لبنيّ إسرائيل في صحراء سيناء حينما جاءهم الأمر من نبيِّ الله موسى عليه السلام بدخول فلسطين ومجاهدة الأعداء، فما كان جوابهم إلا أن ﴿قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ9، ولكن بعد وفاة النبيّ موسى عليه السلام ومكثهم 40 سنة في التيه في صحراء سيناء وشعورهم بأهميَّة النبيّ بعد فقده، قاموا مع وصيِّ موسى يوشع بن نون بدخول فلسطين ومحاربة الأعداء.


متى تنتهي الغيبة؟

إنَّ ما سبق يشير إلى المصلحة في الغيبة نفسها وضرورتها لتتحقّق الأمور التي تحدَّثنا عنها، ولكنَّ تحقّق تلك الأمور لوحدها لا يكفي للظهور، بل هناك أسباب وشرائط أخرى لا بدَّ من توفُّرها أيضاً ليتحقّق الفَرَجُ، منها:

وجود الأنصار

لا بدَّ من توفُّر العدد الكافي من الأنصار المخلصين القادرين على تحقيق مشروع الإمام عجل الله فرجه الشريف، وهناك العديد من الروايات التي تحدَّثت عن هؤلاء الأنصار، الذين يجتمعون حول الإمام عند بداية حركته وعددهم 313 بعدد المسلمين في بدر، ولعلَّهم يشكِّلون نواة التحرُّك وقادة جيوش الإمام.

هؤلاء الذين يكفون الإمام ما يريد كما ذُكِرَ في الرواية عن الإمام جعفر بن محمَّد الصادق عليه السلام: "يحفُّون به يقونه بأنفسهم في الحروب ويكفونه ما يريد"10.

عدم التوقيت

هناك العديد من الروايات التي تؤكِّد على عدم توقيت ظهور الإمام الحجّة عجل الله فرجه الشريف، كما في الرواية عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام قال: "لقد حدَّثني أبي عن أبيه عن آبائه عليهم السلام أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلَّم قيل له: يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريَّتِك؟ فقال عليه السلام: مثله مثل الساعة لا يجلِّيها لوقتها إلا هو، ثقُلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة"11.

بل هناك روايات واضحة في تكذيب من يوقِّت للظهور كالرواية عن الإمام محمَّد الباقر عليه السلام: "كذب الوقَّاتون، كذب الوقَّاتون، كذب الوقَّاتون"12.

وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: "يا مهزم كذب الوقَّاتون، وهلك المستعجلون، ونجا المسلمون، وإلينا يصيرون"13.

فما هو السبب في إخفاء وقت الظهور؟ هناك العديد من الأسباب التي تدعو إلى ذلك، نذكر منها:

1- مادام للظهور ظروفه الموضوعية التي يتحقّق الكثير منها على يد المؤمنين، فمن المناسب أن يرتبط الظهور بعمل هؤلاء الناس، وبهمّتهم وحضورهم، ممَّا سيدفعهم للعمل ولتجهيز الأرضيَّة للظهور، وبالتالي للتعجيل بالظهور، وأمَّا ربط الظهور بزمن هو مجرَّد رقم وتاريخ، فهذا لن يكون ربطاً بالأسباب الحقيقيَّة، ولن يكون مساعداً على مستوى دفع الناس باتِّجاه تحقيق ظروف وشرائط الظهور.

2- إخفاء وقت الظهور سيبقى شعلة الأمل مشتعلة دائماً في قلوب المؤمنين، ففي الرواية عن محمَّد بن الفضيل عن الرضا عليه السلام، قال سألته عن شيء من الفَرَجِ، فقال: "أليس انتظار الفَرَج من الفَرَج، إِنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول: ﴿فانتظروا إنِّي معكم من المنتظرين﴾،"14 وهذا الأمل سيدفعهم لإصلاح أمورهم، والابتعاد عن المعاصي والتزام الطاعات، وتجهيز الأنفس لنصرة الإمام، ولذلك جاء في رسالة الإمام عجل الله فرجه الشريف التي أرسلها للشيخ المفيد: "فليعمل كلُّ امرئ منكم بما يقرِّبه من محبَّتِنا ويتجنَّب ما يدنيه من كراهيتنا وسخطنا، فإنَّ أمرنا بغتة فجأة، حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة"15.

* معز الأولياء، سلسلة الدروس اثقافية. نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: الأولى آب 2009م- 1430هـ. ص: 51-56.


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 51، ص 30
2- آل عمران: 83
3- الأعراف: 128
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 53، ص 239
5- م.ن. ج52، ص 244
6- آل عمران: 179
7- العنكبوت: 2
8- الشيخ عزيز الله عطاردي، مسند الإمام الرضا عليه السلام، ج 1، ص 264
9- المائدة: 24
10- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 52، ص 208
11- م.ن.ج 51، ص 154
12- الشيخ الكليني، الكافي، ج 1، ص 368
13- م.ن. ج1، ص368
14- العلامة المجلسي، بحار الأنوار ج 52 ص 128
15- م.ن. ج 53، ص 176

2010-07-24