يتم التحميل...

مفتاح الخير والشر

المتقون

"المتكلّمون ثلاثة: فرابحٌ وسالم وشاجب، فأمّا الرابح فالذاكر لله، وأمّا السالم فالساكت، وأمّا الشاجب فالذي يخوض في الباطل. إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فاحش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه. وكان أبو ذر رضي الله عنه يقول: "يا مبتغي العلم إنّ هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك".

عدد الزوار: 289

يا هشام

"المتكلّمون ثلاثة: فرابحٌ وسالم وشاجب، فأمّا الرابح فالذاكر لله، وأمّا السالم فالساكت، وأمّا الشاجب فالذي يخوض في الباطل. إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فاحش بذيء قليل الحياء لا يبالي ما قال ولا ما قيل فيه. وكان أبو ذر رضي الله عنه يقول: "يا مبتغي العلم إنّ هذا اللسان مفتاح خير ومفتاح شر، فاختم على فيك كما تختم على ذهبك وورقك".

تمهيد

لقد منَّ الله تعالى علينا حين خلقنا بأعضاء نستعين بها على قضاء حوائجن، ونستكمل بها إنسانيّتن، وجعل فيها حواساً نستشعر بها ما حولنا ونتفاعل معه من خلاله، هذه الأعضاء هي المسمّاة بالجوارح.إن الجوارح لا كرامة لها بحدّ ذاتها إلا أنّ الإنسان نفسه هو المكرم بنعمة الإيجاد ونعمة العقل، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا1.إلا أنّ هذا لا يعني إعفاء الجوارح من المسؤولية، ولهذا فإنّ كرامة الجارحة هذه تتبع تصرف الإنسان فيه، فتارة تكرَّم وتارة تهان.

متى تكرم الجوارح؟


فمن موارد تكريم بعض الجوارح تكريم رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لليد العاملة، وكذلك كرامة اليد التي تجاهد في سبيل الله تعالى وتذيق أعداء الله العذاب امتثالاً لأمره، حيث يقول جلَّ وعلا: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ2.

وكذلك تكرم العين الباكية على مصاب الحسين عليه السلام، ففي الرواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "فعلى مثل الحسين فليبك الباكون فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام"3.في الخلاصة تكرم الجارحة بمقدار ما تكون مطيعة لله تعالى وتسهم في رفع الكمال الإنساني، وتحتكم للعقل فلا تنقاد مع الهوى فتصبح آلة للعدوان والإفساد.

متى تهان الجارحة؟


تهان الجارحة عندما تصبح وسيلة لممارسة الرذائل والإفساد، وعندما تصبح كذلك يأتي الشرع المقدّس ليقيم عليها الحدّ الشرعيّ المؤدّب لكلّ من تسوّل له نفسه استخدام الجوارح في إفساد المجتمع وإيذاء الإنسانيّة، ومن الموارد التي تهان في الجوارح السرقة، فعندما تمتدّ اليد إلى أملاك الناس وتعبث بها يأتي الشرع ليضع الحدَّ عليها فيقطعه، وكذا استثمار الجسد للإفساد في الأرض وتهديد الناس وترويعهم، فإنَّ الشرع يعاقب على هذا بأشدّ أنواع العقوبات وهو القتل.

اللسان


ومن أخطر هذه الجوارح وأكثرها أثراً اللسان، وهو آلة النطق. لكن آلة النطق اللحميّة هذه، فضلاً عن كونها أداة للتفاعل الاجتماعي بالكلام بين الناس واستعمال اللغات، هي الجارحة التي اعتبرتها الروايات الشريفة مفتاحاً للخير أو الشرّ، وسنستعّرض في الفقرات التالية بعض الموارد التي تكرم فيها هذه الجارحة، والموارد التي تهان فيها الجارحة وتنال العقاب الإلهيّ.

اللسان الناطق بالحق

هو لسان مكرّم لأنّه اتخذ مبدأ الدفاع عن الحقّ. والمراد بالحقّ هنا كلّ ما يرضاه العقل السليم وتندب إليه الفطرة النقيّة والشريعة الإلهيّة، فرفض الظلم وانتقاده، واستنكار الباطل وأعمال المستكبّرين المفسدين والطواغيت باللسان، وخصوصاً في موارد التأثير، يجعل هذا اللسان خادماً في طريق الحقّ. وقد وصف الله تعالى بعض النماذج من أهل القول الحق والعمل الحق فقال تعالى: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ4.

فهؤلاء قالوا كلمة الحقّ مع احتمال أن تصيبهم الأذية جراء إعلانهم تمسكهم بالإيمان ورفضهم الشرك، واحتسبوا ما يصيبهم لله تعالى، فكان لسانهم عاملاً لله مسخّراً في خدمة دينه، وكانوا مصداق كلام الإمام الصادق عليه السلام: "إنَّ من حقيقة الإيمان أن تؤثر الحقَّ وإن ضرّك على الباطل وإن نفعك"5.ويرتكز الاعتقاد بلزوم قول الحقّ على كثير من الصفات الأخلاقية الراسخة في النفس، ومنها الشجاعة، والكرم والغيرة على الدين وأهله، وفوق هذا كله التزام ما جاء في الكتاب الإلهيّ الداعي للعمل بالحقّ لأنّ الحقّ منتصر في نهاية المطاف، يقول الله تعالى: ﴿وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ6، ويقول تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون7.

لسان الصدق

اللسان الصادق، الذي لا يتسرّب الكذب إليه، حتى لو أدّى الصدق لضرره، ولم يكن في صالحه، هو لسان محترم ومكرّم، لأنّ اللسان الصادق معيار الإيمان، وبه يتميّز المؤمن عن المنافق، فقد ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الصدق رأس الإيمان، وزين الإنسان"8.

بل اختبار الإيمان الحقيقي ومعرفة الرجال بالحقّ تكون بمعرفة صدقهم، فلا يقاس الإيمان بطول السجود، ولا ثفنات الجبهات، بل أرشدنا أهل البيت عليهم السلام إلى ذلك بمعرفة الصدق، فمن كان صادقاً فهو المؤمن، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإنّ الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة"9، ويقول جلَّ وعلا: ﴿إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ10.

اللسان المهان


اللسان المهان هو اللسان الذي يصيره المرء بسوء اختياره أداةً للمعاصي والأذيّة والفساد، ومن الأمثلة على ذلك:

لسان السخرية

وهو لسان اتخذ في الناس عملاً له، فلا تراه إلا ناطقاً بعيوب الآخرين مستهزئاً بهم، مخالفاً قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ11.

لسان الغيبة

وهو لسان مهان لاستخدامه في الكبائر من الذنوب، فالغيبة من أسوأ المعاصي، وتعقب الخسران في الدارين، فأمّا في الدنيا فلأنّ المغتاب يضع من قدره، وينشغل بما لا ينفعه، ويصفه الناس والكرام بلؤم الطبع، فعن الإمام علي عليه السلام: "من أقبح اللؤم غيبة الأخيار"12.وأمّا في الآخرة فما أشدَّ ما أوعد الله تعالى عليه المغتابين من العذاب، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "مررت ليلة أسري بي على قوم يخمشون وجوههم بأظفارهم، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء ؟ فقال: هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم"13.

لنحارب الغيبة

إنّ الغيبة مرض اجتماعي، يدلّ على ضعف الثقافة في الأمّة، وعلينا بناءً على هذا أن نحاربها أشّد المحاربة، لأنّها بالدرجة الأولى موجبة لسخط الله تعالى، ولأنّها تنزل من قدر الأمّة بعين أعدائه، ويروى على سبيل التذكرة أنّ أحد الغزاة أراد أن يغزو مدينة فأرسل عيناً (جاسوساً) يتحسّس له علاقات أهله، فدخل إلى حانوت وذم لصاحبه جاره وهو صاحب ُحانوت ٍ مماثل، ورماه بأنّه يرفع الثمن، فما كان من صاحب الحانوت إلا أن هبّ وانتفض دفاعاً عن كرامة جاره المهدورة بلسان المغتاب ولم يرتضِ منه غيبته، فعاد الرجل لملكه وأخبره بما جرى معه فهاب أن يدخل المدينة وعُرى أهلها متماسكة.

إنّ حربنا للغيبة تكون أوّلاً من الداخل أي من النفس، يقول الله تعالى:﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ14.فعلينا بالمراقبة لأنفسنا بالدرجة الأولى وقمعها عن التعرّض للناس وملاحظتها دائماً ومنعها من الانزلاق في هذه المهالك الأخلاقية، وبالدرجة الثانية إصلاح مجتمعاتنا الصغيرة وسهراتنا ومنع أيّة غيبة فيه، وليكن نهجنا في ذلك نهج أهل البيت عليهم السلام في منع من يتحدّث أمامنا بالغيبة، فقد روى الإمام الصادق عليه السلام: "قال رجل لعلي بن الحسين عليه السلام: إنّ فلاناً ينسبك إلى أنّك ضال مبتدع، فقال له علي بن الحسين عليه السلام: ما رعيت حقّ مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقّي حيث أبلغتني عن أخي ما لست أعلمه!... إيّاك والغيبة فإنّها إدام كلاب النار، واعلم أن مَن أكثر مِن ذكر عيوب الناس شهد عليه الإكثار أنّه إنّما يطلبها بقدر ما فيه"15.


*اولو الالباب,سلسلة الدروس الثقافية,نشر:جمعية المعارف,ط:2009م-ص:113-118.


1- الإسراء:70
2- التوبة:14
3- المجلسي-محمّد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء،الطبعة الثانية المصححة - ج 44 ص 284
4- التوبة:51-52
5- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 1 ص 192
6- الأنفال:7-8
7- الأنبياء:18
8- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 ص 1573
9- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 2 ص 1574
10- الزمر:3
11- الحجرات:11
12- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2328
13- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2328
14- الأنفال:53
15- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج 3 ص 2329
16- الأنعام:38
2010-11-30