أولو الألباب
المتقون
"إنّ لله على الناس حجّتين:حجَّة ظاهرة، وحجَّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول.يا هشام إنّ العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.يا هشام إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب ؟ وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض.
عدد الزوار: 566
يا هشام
"إنّ لله على الناس حجّتين:حجَّة ظاهرة، وحجَّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول.يا هشام إنّ العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.يا هشام إنّ العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب ؟ وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض.يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا، ورغبوا في الآخرة، لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته"1.
تمهيد
بعد أن عرفنا العقل وما يقابله من الشيطنة، وعرفنا ارتباط العقل بسائر الأخلاق، ودوره في فهم معاني العبادة لله تعالى، فإن من المناسب التعرض لما جاء في الوصيّة من صفات أولي العقول أي أولي الألباب، فقد مرت الوصيّة على صفات ذات أهميّة بالغة، وبدأت هذه الفقرة من الوصيّة بذكر الحجَّة البالغة من الله تعالى على العباد، والتي ألقاها من خلال العقول "يا هشام إنّ لله على الناس حجّتين: حجَّة ظاهرة، وحجَّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمّة عليهم السلام، وأمّا الباطنة فالعقول".
يعني أكمل للناس حججه من الأنبياء والأوصياء المرضيين، بعقولهم الصافية وأذهانهم الثاقبة أو بسبب أن منحهم عقولاً زكيةً عاريةً عن شوائب النقصان مدركةً لشواهد الربوبية بحقايق الإيمان2.ففي مقابل ما منّ الله تعالى به على الإنسان من بعث الأنبياء والرسل كهادين ومرشدين، جعل في نفس الإنسان حجّةً باطنةً ترشده للخير، فالعقل يدرك بنفسه حسن بعض الخصال كالصدق والأمانة والعدل، ويستقبح الظلم والكذب وسائر الأخلاق الرديئة، وهذه هي الحجَّة الباطنة على الإنسان، ويسميها البعض بالنبي الداخلي، في مقابل النبي المرسل من الله تعالى إلى سائر الناس.
من هم أولو الألباب؟
كثُرت الآيات الكريمة التي ذكرت أولي الألباب وتعدّدت الموارد التي نزلت فيها تلك الآيات المباركة، إلا أنّ الله تعالى أكّد على هذا الوصف لمن اتصف بخصال محدّدة، منها قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَاب﴾3.ولكي نتطلع عن قرب إلى صفات أولي الألباب سنأخذ فيما يلي من فقرات الوصيّة هذه الصفات التي ذكرها الإمام عليه السلام لهشام.
لا يشغله الحلال عن الشكر
إنّ نعم الله تعالى علينا لا تعدّ ولا تحصى من أول نعمة وأعظمها وهي نعمة الوجود إلى سائر النعم التي نحتاجها في استمرار الوجود، بل استمرار وجود الإنسان حياً هو نعمة بحدّ ذاته، وإنّ الإنسان يحمل في فطرته وجوب شكر المنعم على إحسانه وإنعامه. والشكر صفة أخلاقية وصف الله تعالى بها أنبياءه العظام، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾4.
وفضلاً عن كون الشكر للمنعم واجباً فطرياً ويعاب تاركه، فقد أكّدت الروايات والآيات على لزوم الشكر باستمرار، يقول الله تعالى: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾5.وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "أحسنوا جوار النعم، قلت: وما حسن جوار النعم؟ قال: الشكر لمن أنعم بها وأداء حقوقها"6.ولكن في زحمة الحياة وانشغال الإنسان في حفظ النعم واهتمامه بأمرها ينسى أمر الشكر لله تعالى أصل هذه النعم وواهبها، ولهذا فإنّ العاقل من لا يشغله الحلال عن الشكر لله تعالى في غمرة فرحه بالنعمة.
ولا يغلب الحرام صبره
للنفس الإنسانيّة غريزة وشهوات، تطلب الإشباع دوماً. والله تعالى حدّد لنا الطرق السليمة لإشباع هذه الشهوات. وقد يتأخر الإنسان أحياناً في الوصول للطرق السليمة هذه امتحاناً من الله تعالى له، واختباراً لصبره، فهنا يأتي دور الصبر، الصبر الذي يقف في وجه الشهوات وغرائز النفس قائلاً له: انتظري قليلاً ريثما يأتي الحلّ المناسب لتلبيتك،أما الآن فلا، ولن أسمح لك بأن تجرّيني بجموحك إلى غضب الله تعالى وناره.
فحين يكون التفكير بالعقل وبالموازنة بين نيل الوطر الدنيويّ الزائل، وحتميّة العقاب الإلهيّ بعد ذلك، وبين الصبر، فإنّ العاقل من يتخذ الصبر سلاحاً في وجه هذه الغرائز.وقد ورد في الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: الصبر: "إمّا صبر على المصيبة، أو على الطاعة، أو عن المعصية، وهذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الأولين"7.
تركوا الذنوب
ثم انتقل الإمام عليه السلام لصفة أخرى من صفات أهل العقل وأولي الألباب فقال: "يا هشام إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب؟ وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض".
فضول الدنيا هو ما زاد عن حاجة المرء فيها، والمراد من ترك هذا الفضول، الترك القلبي لا ترك التملك والحيازة، إذ من المعلوم أنّ التملك للكماليات وما يزيد عن حاجة الإنسان من المباحات، ولكن المراد ترك التعلّق القلبي الذي يجعل الإنسان منشغلاً كلياً عن آخرته بها. وترك الفضول القلبي من الدنيا، أمر ندبت إليه الكثير من الروايات التي سنأتي عليها في شرح المقطع اللاحق من الوصيّة.
وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنب من الفرض، أي الواجب، فإذا كان أولو العقل لما أدركوا من فناء الدنيا وأنّ الدار الآخرة هي المستقَرُّ الدائم تركوا تعلّقهم بهذه الدنيا فقدّموا كل ما يرضي الله تعالى عليها، فكيف لا يتركون الذنوب؟ فإنّ الذنوب الجالبة للغضب الإلهيّ أحقّ بالترك من غيرها التي يحبذ تركها.
وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنب من الفرض، أي الواجب، فإذا كان أولو العقل لما أدركوا من فناء الدنيا وأنّ الدار الآخرة هي المستقَرُّ الدائم تركوا تعلّقهم بهذه الدنيا فقدّموا كل ما يرضي الله تعالى عليها، فكيف لا يتركون الذنوب؟ فإنّ الذنوب الجالبة للغضب الإلهيّ أحقّ بالترك من غيرها التي يحبذ تركها.
وترك الذنوب هو التقوى التي وصفتها الآية الشريفة باللباس: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾8.وعن الإمام الباقر عليه السلامفي تفسير هذه الآية: "فأمّا اللباس فالثياب التي تلبسون، وأما الرياش فالمتاع والمال، وأما لباس التقوى فالعفاف، لأن العفيف لا تبدو له عورة وإن كان عارياً من الثياب والفاجر بادي العورة وإن كان كاسياً من الثياب، يقول: (ولباس التقوى ذلك خير) يقول: العفاف خير"9.
وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه، وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم، فأخذوا الراحة بالنصب، والريّ بالظمأ، واستقربوا الأجل فبادروا العمل"10.فأهل التقوى أهل الوعي لما في التقوى من خير الدنيا والآخرة ومن تكامل للنفس الإنسانيّة.
زهدوا في الدنيا
ثم انتقل الإمام عليه السلام للحديث عن أنّ أولي الألباب هم أهل الزهد في الدنيا فقال عليه السلام: "يا هشام إنّ العقلاء زهدوا في الدنيا، ورغبوا في الآخرة، لأنّهم علموا أنّ الدنيا طالبة ومطلوبة، فمن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت فيفسد عليه دنياه وآخرته".
فما هو الزهد في الدنيا؟
يجيبنا أمير المؤمنين عليه السلام على هذا السؤال بما روي عنه: "الزهد بين كلمتين من القرآن، قال الله تعالى:﴿لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُم﴾11 ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد استكمل الزهد بطرفيه"12.وهو ترك التعلّق بمتاع الدنيا بحيث يصبح الشغل الشاغل والمقدم على سائر الأمور حتى الأخروية منها.
أمّا فضل الزهد فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "جُعل الخير كله في بيت وجُعل مفتاحه الزهد في الدنيا، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يجد الرجل حلاوة الإيمان في قلبه حتى لا يبالي من أكل الدنيا ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: حرام على قلوبكم أن تعرف حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا"13.
ويحصل الزهد في قلب المؤمن عندما يوقن أنّ الموت قادم لا محالة وأن الدنيا زائلة، لا مجرد المعرفة بل اليقين كما يرى نفسه في المرآة، فعن الإمام الباقر عليه السلام: "يا أبا عبيدة أكثر ذكر الموت، فإنّه لم يكثر إنسان ذكر الموت إلا زهد في الدنيا"14.فالعاقل من يدرك زوال الدنيا، ويدرك أنّ التناول منها لا يشبع نهم الإنسان، وأنّه سيزداد عطشا كلّما شرب منها، ويعي قول الإمام الباقر عليه السلام : "مثل الحريص على الدنيا كمثل دودة القزّ، كلما ازدادت على نفسها لفّاً كان أبعد لها من الخروج حتى تموت غمّاً"15.ولذلك ترك الدنيا وزهد فيها، ولم يتعلّق قلبه بها.
*اولو الالباب,سلسلة الدروس الثقافية,نشر:جمعية المعارف,ط:2009م-ص:15-20.
1- المازندراني-مولى محمد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 1 ص145.
2- راجع المازندراني - مولى محمّد صالح - شرح أصول الكافي -دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 1 ص 94
3- الزمر: 18
4- النحل:120 - 121
5- العنكبوت: 17
6- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 4 ص 38
7- الريشهري- محمّد- ميزان الحكمة- دار الحديث, الطبعة الأولى- ج 2 ص 1562
8- الأعراف: 26
9- تفسير علي بن إبراهيم القمي ج1 ص 226
10- نهج البلاغة الخطبة 114
11- الحديد: من الآية23
12- الحر العاملي - محمّد بن الحسن - وسائل الشيعة - مؤسسة أهل البيت - الطبعة الثانية 1414 ه.ق.-ج 61 ص 19
13- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة -ج 2 ص 128
14- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة -ج 2 ص 131
15- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة -ج 2 ص 134