العلم والعمل
المتقون
"إنّ كل الناس يبصر النجوم ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها.يا هشام إن المسيح عليه السلام قال للحواريين:بحق أقول لكم:
عدد الزوار: 125
يا هشام
"إنّ كل الناس يبصر النجوم ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها.يا هشام إن المسيح عليه السلام قال للحواريين:بحق أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً، وباطنه فاسداً، كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم، وما يغني عنكم أن تنقّوا جلودكم وقلوبكم دنسة، لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب، ويمسك النخالة، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه...بحق أقول لكم: إن الناس في الحكمة رجلان فرجل أتقنها بقوله، وصدقها بفعله، ورجل أتقنها بقوله، وضيعها بسوء فعله، فشتان بينهما".
تمهيد
بعد أن تعرفنا في الدرس السابق إلى العلماء وحقهم وما علينا من واجب تجاههم, وما في صحبتهم من نفع وخير, وصل الكلام بنا في الوصيّة المباركة إلى مقاطع ركز فيها الإمام عليه السلام على مسألة العلم والعمل والموافقة بينهما, وعن أصناف الناس في التعاطي مع العلم.
وأما عن فضل العلم فيجيبنا الشهيد الثاني على السؤال في كتابه منية المريد في آداب المفيد والمستفيد قائلاً: "اعلم أن الله سبحانه جعل العلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم العلوي والسفلي طراً، وكفى بذلك جلالةً وفخراً، قال الله تعالى في محكم الكتاب تذكرةً وتبصرةً لأولي الألباب: ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾1، وكفى بهذه الآية دليلاً على شرف العلم، لا سيما علم التوحيد الذي هو أساس كل علم ومدار كل معرفة، وجعل سبحانه العلم أعلى شرف وأول منَّة امتنَّ بها على ابن آدم عليه السلام بعد خلقه وإبرازه من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود، فقال سبحانه في أول سورة أنزلها على نبيه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾2. فتأمل كيف افتتح كتابه الكريم المجيد الذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾3 بنعمة الإيجاد، ثم أردفها بنعمة العلم، فلو كان ثمة منَّة أو توجد نعمة بعد نعمة الإيجاد هي أعلى من العلم لما خصه الله تعالى بذلك"4.
وسنذهب معاً في جولة لنرى إرشادات الإمام عليه السلام في هذا المجال.
العلم والهداية
"يا هشام إن كل الناس يبصر النجوم ولكن لا يهتدي بها إلا من يعرف مجاريها ومنازلها، وكذلك أنتم تدرسون الحكمة ولكن لا يهتدي بها منكم إلا من عمل بها".
ولعل تشبيه العلم والحكمة بالنجوم لأنها تدل على طريق الصواب, فقد كانت العرب فيما مضى تستهدي بالنجوم إلى الطرق والاتجاهات, فلا تضيع, وكذلك من يهتدي بالعلم والحكمة فإنه لا يضيع عن درب الصواب, ولذا كان العلم رأساً للفضائل كما في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "يتفاضل الناس بالعلوم والعقول، لا بالأموال والأصول"5.
بل إن الله تعالى قد يعاقب المرء بحرمانه من العلم, ففي الرواية عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "ما استرذل الله تعالى عبداً إلا حُرِم العلم"6.ويشير الإمام عليه السلام في ختام الفقرة إلى مسألة غاية في الأهميّة وهي محور الحديث في هذا الدرس, وهي أن العالم بالنجوم يمكن أن يهتدي بها, وليس ضرورياً أن يهتدي بمجرد العلم, ولكن عليه أن يطبق هذه النظريات التي يعرفها على النجوم في المسافات والحساب ليصل إلى مراده, وكذا الأمر بالنسبة للعلم.
ثمرة العلم
فثمرة العلم لا مجرد زيادة المعلومات لدى الإنسان لكي يقال هذا مثقف وذو علم, ولكن ليطبق الإنسان ما في العلم في مجالات الحياة, ليسمو به في طريق الفضائل, ويجتنب بما ينهاه علمه عنه طريق الرذائل, فالعلم يسمو بالحياة, ويسمو بالإنسان إلى كمال الإنسانيّة, ولذا ورد عن الإمام علي عليه السلام: "ثمرة العلم العمل به" وعنه عليه السلام: "ثمرة العلم العمل للحياة"7.
وقد روي أنه في التوراة: قال الله تعالى لموسى عليه السلام: "عظِّم الحكمة، فإني لاأجعل الحكمة في قلب أحد إلا وأردت أن أغفر له، فتعلمها ثم اعمل بها، ثم أبدلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة"8.
ويقول الشهيد الثاني رحمه الله: "اعلم أن العلم بمنزلة الشجرة، والعمل بمنزلة الثمرة، والغرض من الشجرة المثمرة ليس إلا ثمرتها، أما شجرتها بدون الاستعمال، فلا يتعلّق بها غرض أصلاً، فإن الانتفاع بها في أي وجه كان ضرب من الثمرة بهذا المعنى. وإنما كان الغرض الذاتي من العلم مطلقاً العمل، لأن العلوم كلها ترجع إلى أمرين: علم معاملة، وعلم معرفة، فعلم المعاملة هو معرفة الحلالِ والحرام ونظائرهما من الأحكام، ومعرفة أخلاق النفس المذمومة والمحمودة، وكيفية علاجها والفرار منها، وعلم المعرفة كالعلم بالله تعالى وصفاته وأسمائه"9.
ثم شبه رحمه الله العلم بلا عمل بمثل جميل فقال: "إنما مثله مثل مريض به علة لا يزيلها إلا دواء مركب من أخلاط كثيرة، لا يعرفها إلا حذاق الأطباء، فسعى في طلب الطبيب بعد أن هاجر عن وطنه حتى عثر على طبيب حاذق، فعلمه الدواء، وفصل له الاخلاط، وأنواعها ومقاديرها، ومعادنها التي منها تجلب وعلمه كيفية دق كل واحد منها، وكيفية خلطها وعجنها، فتعلم ذلك منه، وكتب منه نسخة حسنة بحسن خط، ورجع إلى بيته، وهو يكررها ويقرأها، ويعلمها المرضى، ولم يشتغل بشربها واستعمالها، أفترى أن ذلك يغني عنه من مرضه شيئاً؟! هيهات لو كتب منه ألف نسخة، وعلمه ألف مريض حتى شفى جميعهم، وكرره كل ليلة ألف مرة لم يغنه ذلك من مرضه شيئاً إلى أن يزن الذهب، ويشتري الدواء ويخلطه كما تعلم، ويشربه، ويصبر على مرارته، ويكون شربه في وقته، وبعد تقديم الاحتماء، وجميع شروطه، وإذا فعل جميع ذلك كله، فهو على خطر من شفائه، فكيف إذا لم يشربه أصلا؟"10.
حسن الظاهر والباطن
ثم انتقل الإمام عليه السلام للحديث عن الربط بين حسن الظاهر والباطن وربطه بالقول والعمل , وكأنه يشير إلى أن من وافق عمله علمه, فإن ذلك يدل على حسن الباطن وسلامة السريرة, فقال عليه السلام:"يا هشام إن المسيح عليه السلام قال للحواريين:
بحق أقول لكم: لا يغني عن الجسد أن يكون ظاهره صحيحاً، وباطنه فاسداً، كذلك لا تغني أجسادكم التي قد أعجبتكم وقد فسدت قلوبكم، وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة، لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب، ويمسك النخالة، كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم يا عبيد الدنيا إنما مثلكم مثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه..."
وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام لهذا المعنى في الشعر المنسوب إليه
أَبُنَيَّ إن من الرجال بهيمة في صورة الرجل السميع المبصرِ
فطن لكل رزية في ماله وإذا أصيب بدينه لم يشعرِ
وكم من الناس من يهتم بجمال الظاهر من الجسد فيذهب إلى صالات الرياضة ويبالغ في تدريب الجسد ليبدو في أحسن مظهره, على ما في ذلك من حسن, إلا أنه ينسى في المقابل ما على القلب من واجب, فأي صلاح في جسد جميل متناسق يحوي قلباً فاسداً منحرفاً عن الصراط السوي, لا يرى إلا عيب الآخرين, ويغفل عما في نفسه من العيوب والمثالب؟ وقد روي في الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "أكبر العيب أن تعيب غيرك بما هو فيك"11.
بل وصفت بعض الروايات من يتصف بهذه الصفة بالغباء, فعن الإمام علي عليه السلام: "كفى بالمرء غباوة، أن ينظر من عيوب الناس إلى ما خفي عليه من عيوبه"12، لأنه في الحقيقة لا يتابع عيوب الناس إلا من يرى في نفسه كمالاً, فيعجب بنفسه ويرى منها كل الخير فتمنعه عن النقد لذاته, وتلجئه لنقد الآخرين, فعن الإمام علي عليه السلام: "من أبصر عيب نفسه لم يعب أحداً"13.
بل قد يصل المرء لحالة يرى فيها عيوب الناس وهو يرتكبها بدون أي فرق فيعيب الناس, ولا يعيب نفسه، وهذا من وصفته الروايات بالأحمق، فعن الإمام علي عليه السلام: "من أنكر عيوب الناس ورضيها لنفسه، فذلك الأحمق"14.
في الخلاصة، لا بد من توافق القول والعمل, فإن توافق قول الإنسان وعمله دلّ هذا على حسن الظاهر والباطن, وأما لو تخالفا فإنه يستبطن في نفسه خلاف ما يعلمه من الخير.
وقد مثَّل الإمام عليه السلام على هذه الحالة النفسية المرضية بقول المسيح عليه السلام لأتباعه أن لا يكونوا كالمنخل فالمنخل يخرج منه الطحين السليم ويبقى فيه الزؤان والحجارة الصغيرة وما اختلط به من النبات غير النافع, وحال المرء في هذا سواء, فقد يكون الإنسان داعياً الحقّّ بلسانه فيخرج ما حوَته النفس من الخير ويبقي في قلبه الأدران والأفكار السقيمة, والمعتقدات الباطلة, والأخلاق الرديئة.
والمثل الآخر السراج، فالسراج نافع للناس بنوره حيث ينوِّر لهم ظلام ليلهم, ولكنه لا يستفيد لا من زيته ولا من نوره فليس له عين يرى بها الضوء, وفوق هذا يحرق الفتيل لأجل الغير بدون أن يلقى أي نتيجة لنفسه, وكذا من يحمل العلم بلا عمل يحرق نفسه بالمجان ويستفيد الآخرون منه.
إتقانٌ بالقول أم تصديق بالعمل؟
"بحق أقول لكم: إن الناس في الحكمة رجلان فرجل أتقنها بقوله، وصدقها بفعله، ورجل أتقنها بقوله، وضيعها بسوء فعله، فشتان بينهما".الفرصة التي ينبغي أن لا تضيع من المرء هي فرصة العلم الذي يمكنه من بلوغ الدرجات العليا من الكمال, وأن يكون المرء ذا علم وحكمة فيضيعهما بترك العمل فهما, فهذا الخاسر الأكبر , وخصوصاً حين يرى في الآخرة من نجا من العذاب وفاز بالرضوان بسبب الحكمة التي كانت تخرج من لسانه, فأي خسارة بعد هذه؟
فلا يغرّنَّ المرء ما حوَاه من العلم فإن الغرور بحد ذاته مرض نفسي أخلاقي, يحجب المرء عن رؤية ما في نفسه من العيوب والمخازي, لأن الشيطان يقف عند هذا المفترق, ليصل بالإنسان ليرى معايب نفسه محاسن, وفي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "سكر الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سكر الخمور"15.وبهذا الغرور يحول المرء علمه إلى جهل حقيقي, ففي الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "كفى بالاغترار جهلاً, وعنه في حديث آخر:لا يُلفى العاقِل مغروراً"16.
*اولو الالباب,سلسلة الدروس الثقافية,نشر:جمعية المعارف,ط:2009م-ص:51-57.
1- الطلاق:12
2- العلق:1-5
3- فصلت:42
4- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2064
5- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2062
6- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2064
7- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2090
8- الشهيد الثاني - زين الدين بن علي - منية المريد - تحقيق: رضا المختاري - نشر مكتب الإعلام الإسلامي - ص120
9- الشهيد الثاني - زين الدين بن علي - منية المريد - تحقيق: رضا المختاري - نشر مكتب الإعلام الإسلامي - ص150
10- الشهيد الثاني - زين الدين بن علي - منية المريد - تحقيق: رضا المختاري - نشر مكتب الإعلام الإسلامي - ص151
11- الميرزا النوري - مستدرك الوسائل - مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - بيروت - لبنان - ج11، ص315
12- الميرزا النوري - مستدرك الوسائل - مؤسسة آل البيت عليهم السلام - لإحياء التراث - بيروت - لبنان - ج11، ص315
13- الميرزا النوري - مستدرك الوسائل - مؤسسة آل البيت عليهم السلام - لإحياء التراث - بيروت - لبنان - ج11، ص316
14- الميرزا النوري - مستدرك الوسائل - مؤسسة آل البيت عليهم السلام - لإحياء التراث - بيروت - لبنان - ج11، ص316
15- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2234
16- الريشهري - محمد - ميزان الحكمة - دار الحديث، الطبعة الأولى - ج3، ص2234