يتم التحميل...

العقل

المتقون

"إنّ الله تبارك وتعالى بشَّر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: " بَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ"1.

عدد الزوار: 128


يا هشام

"إنّ الله تبارك وتعالى بشَّر أهل العقل والفهم في كتابه، فقال: ﴿بَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ1.

يا هشام بن الحكم إنّ الله عزّ وجلّ أكمل للناس الحجج بالعقول، وأفضى إليهم بالبيان، ودلهم على ربوبيّته بالأدلّة فقال: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون2"3.

تمهيد

بدأت وصيّة الإمام عليه السلام لصاحبه هشام بن الحكم، بالتنبيه إلى مركزيّة العقل ومرجعيّته الأساس في البناء الثقافيّ للإنسان، فما المراد من العقل، وما هو دوره الحقيقيّ في بناء شخصيّة الإنسان؟ وهل أنّ للعقل ارتباطاً بسائر الأخلاق الإنسانيّة؟ وكيف يمكننا الإستفادة القصوى من إمكاناته الكبيرة التي أودعها الله تعالى فيه؟
هذه الأسئلة سنتطرّق لها في البداية قبل أن نلج في مضمون هذه الفقرة الهامّة من الوصيّة المباركة للإمام الكاظم عليه السلام.

ما هو العقل؟

للعقل تعريفات كثيرة، وقد يفسّره أهل كلّ علم بالطريقة التي يرونها، إلا أنّ المعنى المشهور له أنّه محلّ تحليل الأفكار والصور التي يختزنها المرء. وقد ميّزت بعض الروايات عن أهل البيت عليهم السلام العقل الحقيقي، ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام حين سأله أحد أصحابه: ما العقل؟ قال: "ما عُبد به الرحمن واكتُسب به الجنان، قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل"4.

يقول أحد العلماء معقباً وشارحاً لإجابة الإمام عليه السلام إنه "أجاب ببعض خواصه(أي العقل) وأغراضه المقصودة منه للتنبيه على أنّ معرفة هذا هو الأهم والأسهل له دون معرفة حقيقته وإشعاراً بأن عرفان حقيقته متعسّر جداً فلا يحصل له بسهولة، ولهذا اختلف العلماء فيها وتحيرت عقول الحكماء في تحديدها..."5.

ويستشف من تعريف الإمام أن العقل هو ما يدعو الإنسان إلى الله ومعرفته وعبادته، التي توصل في النهاية إلى السعادة الأخروية، وفي الحديث أيضاً إشارة إلى شيء آخر وهو الشيطنة، ولعل الشيطنة هي التعبير عن الجانب المظلم لما تدعو له أهواء النفس من الأفعال التي تنافي الأخلاق والعبودية لله تعالى، أو النفس الأمارة بالسوء، وهي "حالة للنفس وقوة محركة لها منافعها كما أن العقل كذلك".

وتوضيح ذلك: أن العقل نوراني شريف الذات نقي الجوهر يدعو إلى ملازمة العلم والعمل واكتساب المنافع الأخروية الموجبة للسعادة الأبدية، وكلما زاد العلم والعمل زادت نورانيته وصفاؤه حتى يصير نوراً محضاً وضوءاً صرفاً يضيء به سماء القلوب وأرض النفوس، والشيطنة قوةٌ ظلمانية... تدعو إلى ملازمة الشرور واكتساب المنافع الدنيوية الموجبة للشقاوة السرمدية واقتراف زهراتها الزائلة الفانية بالمكر والحيل والوساوس الشيطانية، وكلما زادت تلك الشرور والمنافع زادت ظلمتها وكثرت كدورتها حتى تصير ظلمة صرفة وشيطنة محضة"6.

فالخلاصة أن العقل هو ما يوصل المرء لمعرفة الله تعالى والسير على الدين الحنيف والصراط المستقيم، وكذلك ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة"7.

تفاوت العقول وحساب الإنسان

إنّ نسبة التعقل بين البشر ليست على حد واحد، فكل إنسان له قدرة معيّنة على تعقل الأمور، فبعض الناس يصل بالعلم إلى مستوىً عالٍ جداً، وبعضهم يمتلك قدرات عقلية محدودة جداً، ولهذا كان العقل معياراً في استحقاق الحساب، فكل امرئ يحاسب على مقدار ما تعقَّل من الشرع والدين، ففي الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب"8. وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "إنما يداق9 الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا"10.

هل العقل لوحده؟

لا يواجه العقل الشهوات الجامحة للنفس الأمارة لوحده، بل سخّر الله تعالى له العديد من الجنود المساعدة وهي الأخلاق والصفات الحميدة الداعية للخير والعمل الصالح. وقد أشار أهل البيت عليهم السلام لهذه الجنود وما يقابلها من جنود الجهل والشيطنة والنفس الأمارة في الحديث الطويل: قال سماعة: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام وعنده جماعة من مواليه فجرى ذكر العقل والجهل فقال أبو عبد الله عليه السلام: "اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا، قال سماعة: فقلت: جعلت فداك لا نعرف إلا ما عرفتنا، فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله عزّ وجلّ خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، فقال الله تبارك وتعالى: خلقتك خلقاً عظيماً و كرمتك على جميع خلقي، قال: ثم خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانياً فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فلم يقبل فقال له: استكبرت فلعنه، ثم جعل للعقل خمسة وسبعين جنداً فلما رأى الجهل ما أكرم الله به العقل وما أعطاه أضمر له العداوة فقال الجهل: يا رب هذا خلق مثلي خلقته وكرمته وقويته وأنا ضده ولا قوة لي به فأعطني من الجند مثل ما أعطيته فقال: نعم فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي قال: قد رضيت فأعطاه خمسة وسبعين جنداً..."11.

ثم عدّد الإمام عليه السلام جنود العقل وما يقابلها من جنود الجهل. والناظر لهذه الحالة يعلم علم اليقين أنّ أرض النفس البشريّة ساحة لمعركة كبرى، لكن أسلحتها هي الخير والشر، والأعمال المرضية والأعمال المسخطة، فهل سيتغلّب عقل المرء على شهواته فيحدّ من جموحها وهيمنتها على عقله، ويجعلها طيّعة بين يديه؟ أم أنّه سيصفد العقل ويجعله أسيراً لها، وطوعاً بين يديها تحركه كيفما تشاء؟

علاقة العقل بسائر الأخلاق

بعد معرفتنا أن للعقل جنوداً تسانده وتؤازره في هذه المعركة نعلم أن الأخلاق لا تنفك عن العقل، فحيثما يكون العقل تكون بإزائه سائر الخصال الحميدة، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "أكمل الناس عقلاً أحسنهم خلقاً"12.

وعلى رأس تلك الأخلاق الحميدة الحياء، ففي الرواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: "هبط جبرئيل على آدم عليه السلام فقال: يا آدم إني أُمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاختر واحدة ودع اثنتين، فقال له: وما تلك الثلاث؟ قال: العقل والحياء والدين، فقال آدم عليه السلام: فإني قد اخترت العقل، فقال جبرئيل عليه السلام للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرئيل إنا أُمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج"13.فكما أن الأخلاق الحسنة هي نتاج العقل والعلم والوعي والبصيرة، فإنّ الأخلاق الذميمة فرع الشيطنة والنفس الأمّارة بالسوء، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ قلوب الجهّال تستفزها الأطماع، وترتهنها المنى، وتستعلقها الخدائع14"15.

بين العبادة والعقل

يستشف من الروايات الشريفة عن أهل البيت عليهم السلام أنّ للعقل دوراً أساساً في فهم معنى العبادة والقيام بها بالشكل الذي يدرك الإنسان فيه أنّ عمله هذا ليس مجرّد حركات أو لقلقة لسان، فبوعي الإنسان للمضامين العالية التي تتضمّنها العبادات تصبح الصلاة بالنسبة له رادعاً حقيقياً عن الفحشاء والمنكر، وكذلك يصير الصوم مثبتاً للإخلاص في نفسه، والزكاة تطهيراً لماله، أما من لا يُعمل العقل في إدراك هذه المعاني فإنّه يقوم بمجرّد حركات، وإن كانت تسقط الفريضة عنه إلا أنّها لا ترتقي بروحه لما يريده له الله تعالى، ففي الرواية عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: "قلت له: جعلت فداك إنّ لي جاراً كثير الصلاة، كثير الصدقة، كثير الحج لا بأس به، قال: فقال: يا إسحاق كيف عقله؟ قال: قلت له: جعلت فداك ليس له عقل، قال: فقال: لا يرتفع بذلك منه"16.

*اولو الالباب,سلسلة الدروس الثقافية,نشر:جمعية المعارف,ط:2009م-ص:7-12.


1- الزمر: 17-18.
2- البقرة: 163-164.
3- المازندراني - مولى محمد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج1 ص90.
4- الكليني - الكافي - دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 11
5- المازندراني - مولي محمّد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 1 ص 74
6- المازندراني - مولى محمّد صالح - شرح أصول الكافي - دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان - ج 1 ص 75
7- الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 11
8- الكليني- الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 10
9- المداقة: المناقشة في الحساب.
10- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 11
11- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 21
12- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 23
13- محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي - الوفاة: 381 – من لا يحضره الفقيه - جامعة المدرسين – الطبعة الثانية 1404 هـ.ج 4 ص 417
14- تستفزها أي تستخفها وتخرجها من مقرها. وترتهنها المنى أي إرادة ما لا يتوقع حصوله، أو المراد بها ما يعرض للانسان من أحاديث النفس وتسويل الشيطان، أي تأخذها وتجعلها مشغولة بها ولا تتركها إلا بحصول ما تتمناه كما أن الرهن لا ينفك الا بأداء المال. وتستعلقها أي: تصيدها وتربطها بالحبال.
15- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 23
16- الكليني-الكافي- دار الكتب الإسلامية – طهران - الطبعة الخامسة - ج 1 ص 24

2012-09-18