مناقشة نظرية نسبية الأخلاق
التربية
البحث هنا حول مسألة نسبية الأخلاق، وينبغي أن يطرح السؤال بهذا النحو: هل ان الأخلاق مطلقة أم نسبية؟ أي لو قيل عن سجية أو خصلة انها خلقية، فهل تكون كذلك مطلقاً؟ أي أن الصفة الخلقية تكون خلقية دائماً ولكل شخص وفي جميع الأحوال؟
عدد الزوار: 293
بسم الله الرحمن الرحيم
البحث هنا حول مسألة نسبية الأخلاق، وينبغي أن يطرح السؤال بهذا النحو: هل ان الأخلاق مطلقة أم نسبية؟ أي لو قيل عن سجية أو خصلة انها خلقية، فهل تكون كذلك مطلقاً؟ أي أن الصفة الخلقية تكون خلقية دائماً ولكل شخص وفي جميع الأحوال؟ أو أن الفعل يسمى خلقياً بالنسبة إلى جميع الأفراد وفي جميع الأحوال والأزمنة، كما نقول: إن الأربعة ضعف الاثنين أم ليس كذلك وإنما هي نسبية؟ إن قلنا بأنها نسبية فسوف لا نتمكن من وصف أية خصلة أو سجية واي فعل بأنه فعل خلقي بشكل مطلق، وإنه يصدق في جميع الأمكنة والأحوال وعلى جميع الأفراد.
ثم إن هذه المسألة بالخصوص ينبغي أن تطرح بحكم ارتباطنا بالإسلام، إذ إن الدين الإسلامي المقدس كما قال علماؤنا القدماء تكون إرشاداته على ثلاثة أقسام أساسية.
القسم الأول: العقليات أو الفكريات، ويعبر عنها (باُصول العقائد).
القسم الثاني: النفسيات التي يعبر عنها (بالأخلاق).
القسم الثالث: البدنيات أو الفعليات والتي يعبر عنها (بالأحكام).
إن قسم الأخلاق مهم جداً. فهناك في القرآن الكريم سلسلة من الأوامر والإرشادات الخلقية، ومن جهة نجد أن الدين الإسلامي الحنيف له خصوصية وهي الخاتمية ومسألة الخلود، وهذا الأمر يلازم كوننا نرى الأخلاق مطلقة، أو في الأقل نقول بصيغة استفهامية: هل إن أوامر الإسلام في هذا الباب لها جنبة خلود؟ ولازم ذلك أن نقول: إن الأخلاق مطلقة.
فعلينا أولاً أن نقرأ هل أن الأخلاق مطلقة أم نسبية؟ وبعد ذلك نرجع إلى الإسلام، لنرى ما هي وجهة نظره في الأخلاق، وهل هي نسبية عنده أم مطلقة؟ إن لهذه المسألة ارتباطاً قوياً بالمسألة السابقة في باب معيار الفعل الخلقي، فعلى بعض تلك النظريات تكون الأخلاق مطلقة لا نسبية، وعلى بعضها الآخر تكون نسبية، وهناك نظرية أو نظريتان لم نذكرها وسنذكرها هنا أولاً ثم نوضح هذه المسألة.
الاختيار
يعتقد بعض بعدم وجود معيار للفعل الخلقي أصلاً خارج نفس الإنسان، أي لا يوجد معيار لكون الشيء خلقياً خارج اختيار الإنسان، ولابد انكم سمعتم في القديم (في عهد اليونان) كان هناك علماء يقولون: إن الإنسان مقياس كل شيء، وكانوا يرون هذا في مجال العلم والفلسفة، وان معيار الواقعية والحقيقية أيضاً هو الإنسان وما يراه، أي لا يوجد حق واقعي، وإنما الحق الواقعي هو ما يراه الإنسان، فإن رأى أن هذا الشيء حق فهو حق وإن رأى أنه باطل فهو باطل، بالضبط نظير العقيدة التي كانت لدى بعض متكلمي الإسلام (المعتزلة) في باب الاجتهاد، إذ إن كل مجتهد إذا اجتهد في أمر فإن الحق هو ما رآه، وان المجتهد لا يخطئ، وعلى هذا لو استنبط عشرة من المجتهدين عشرة أحكام متباينة فسيغدو للحق عشرة أشكال، وفي مقابلهم المخطئة حيث قالوا: إن الحق شيء واحد ليس إلاّ، والاجتهاد قد يطابق الواقع وقد يخالفه.
قال اليونانيون الكلام نفسه بشأن (الحقيقة) وقالوا: إن معيار الحقيقة هو الإنسان، وليس معيار الإنسان هو الحقيقة، كان بحث اليونانيين في الحقيقة والواقعية والعلوم النظرية، أي ما هو كائن، فإذن لو كنا نقول مثلاً: إن الله موجود، كانوا يقولون: بما أن هذا الإنسان يرى أن الله موجود فإذن هو موجود، ولو قال الآخر: إن الله معدوم يقولون: نعم هو معدوم لأن هذا قال ذلك.
هذا بحث نظري، ولكن ظهرت نظرية في باب الأخلاق في العصر الحديث لا تقول هذا الكلام في باب الحقيقة، بل تقوله في باب الأخلاق، والأخلاق تختلف عن الحقيقة في أن الحقيقة تتعلق بما هو موجود، وأما الأخلاق فإنها متعلقة بما ينبغي أن يوجد، قالوا: بشأن ما ينبغي أن يكون، أو بعبارة أخرى بشأن الخير الخلقي والشر الخلقي، ليس هناك أي معيار غير اختيار الإنسان، وأضافوا: إن مرادنا من الأخلاق الحسنة، والأخلاق المنتقاة والمقبولة، وقالوا: إن معيار ما هو محمود أي منتخب ومنتقى هو أن كل خلق مقبول فهو خلق حسن، إلا أن الاختيار يتغير على مر الأزمنة، وعندما يتغير الاختيار تتغير الأخلاق الحميدة طبعاً، إن الخلق الفلاني كان محموداً في وقت ما ومورد ارتضاء العموم واختيارهم، فإذن كان حسناً، لكنه قد يصير في زمن آخر غير محمود، ويكون الخلق المضاد له محموداً، ان هذا الاضطراب وهذه التغيرات الحادثة في الخلق وكونه حميداً في زمن وغير حميد في زمن آخر مرجعه إلى التكامل ومنشؤه روح الزمان، وبعبارة أخرى روح المجتمع.
روح الزمان
هناك كلام لـ(هيجل) بعنوان روح الزمان، إنه يرى أن التكامل هو قانون هذا العالم، وان روح الزمان دائماً تأخذ بالمجتمع إلى الأمام، إن هذه الروح التي هي بمثابة روح المجتمع لأجل أن تتقدم بالمجتمع، تؤثر في الأفكار والانتخابات، أي أن روح الزمان تلهم الخلق والسجية وتجعلها هي المنتقاة بشكل ينسجم مع التكامل، وتنسخ الخلق والسجايا الأخرى التي تعود إلى ما يقتضيه الماضي كما نسخت المقتضيات الماضية وفي الواقع يعطي لروح الزمان أو روح المجتمع تلك الحالة التي يعطيها الآخرون لله، إذ يقولون: ان الله يلهم الإنسان الأخلاق الحسنة، إن هيجل يعترف بالله إلا أنه يقول: إن روح المجتمع وروح الزمان تلهم الخلق الحسن، وهناك فرقان بين ما يراه هيجل وما يراه بقية أنصار الإلهام.
الأول: إنه يرى أن الملهم روح المجتمع وروح الزمان، وهم يرون الملهم هو الله وما وراء الطبيعة.
الثاني: انهم يرون الملهم أمراً ثابتاً ومنسجماً ومطلقاً، وهو يرى الملهم أمراً متغيراً ونسبياً وتابعاً للمتغيرات الزمنية، وفي نظره أن الملهم بتغير الأزمنة يقوم بتغيير الإلهامات السابقة ونسخها.
إن هذا الرأي من جملة الأفكار التي تركت أثراً كبيراً على أوربا وفي النتيجة على العالم، لقد زلزل أسس المعايير الثابتة، يقول أحد الأصدقاء: قمت بمهاجمة هؤلاء في أحد المؤتمرات التي أقمتها في الخارج، قلت إنكم كنتم تؤمنون بروح القدس، وكنتم تستلهمون منه، وفي يوم آخر كنتم تستلهمون من روح الزمان، ان مأساتكم بدأت من يوم اعتقادكم بروح الزمان، واعطائكم إياه الأهمية التي كنتم ترونها لروح القدس، وفي النتيجة قد أضعتم جميع الأحوال والموازين الثابتة والتفتم فقط إلى مقتضيات الزمان، وإنه يقتضي هذا الشيء أو ذاك، ما معنى روح الزمان؟ ومن الذي أثبت أن هذه الروح هي التي تقوم بدفع الأفراد إلى الأمام؟ وعندما تتغير المشاهد لابد أن يكون تغييرها هذا ناشئاً من روح الزمان.
ولكن على كل حال فإن هذه النظرية كانت سائدة بين الأوروبيين، ونحن لو اعتقدنا بهذا الكلام فينبغي لنا أن نقول بنسبية الأخلاق.
وهناك نقطة أخرى أيضاً (وان لم أرها في كتبهم إلاّ انني اتصور أن مرادهم هو هذا): إن روح الزمان كيف تعمل؟ فهل إنها تقوم بتغيير الأفكار في رأس كل قرن دفعة واحدة؟ أم إن الأفكار تتغير تدريجاً؟ ولو كان التغيير تدريجاً فهل هناك عدد معين يلهمون أولاً وبعد ذلك يستلهم الآخرون منهم؟ هل يوجد دوماً طبقة متفوقة وعالمة في المجتمع هم بحكم الأنبياء إلا أنهم لا يلهمون من قبل الله، وإنما يلهمون من قبل روح الزمان؟ وحسب مصطلحهم طبقة (الأنتلكتوئيل)، إن هؤلاء في الواقع يرون لهذه الطبقة نوعاً من الرسالة النبوية.ان أخذنا بهذا الرأي فسوف لا يكون لدينا أي أصل خلقي ثابت، لأن الاختيار سوف يكون هو المعيار، طبعاً نحن أيضاً نرتضي كون الاختيار هو المعيار وإن الاختيارات متغيرة، إلا أننا نرى أن تغيير الانتخابات من نوع تغيير المزاج.
إن المزاج له حالة من الاعتدال وحالات من الانحراف، وللمجتمع أيضاً رقي وانحطاط، ولا يمكن جعل كل المتغيرات الحاصلة في المجتمع على حساب التكامل إن التعاليم القرآنية أيضاً تقوم على هذا الأساس، فإن قوماً يصلون إلى مرحلة من الرقي ثم ينحرفون، وهذا الانحراف ـ الذي يعبر عنه القرآن بالانحراف الخلقي ـ يؤدي إلى هلاكهم، إن التاريخ يوضح أيضاً أن المجتمعات تمر بمتغيرات، وفي هذه المتغيرات كما يحصل للمجتمع ترق، يحصل أحياناً انحطاط، وهذا الانحطاط يكون سبباً لسقوطه.
أجل ربما أمكن قبول أن العالم بمجموعه يسير نحو هذا التكامل، ولكن هذا يختلف عن اعتقادنا بأن كل مجتمع متكامل، فإن الخيارات المتعلقة بالمجتمعات أمر مستقل فلو أخذنا مثلاً كل ألف سنة فمن الممكن (وليس 100%) أن يقال: إن البشرية بمجموعها قد تقدمت بعد ألف سنة، وأما لو أراد الإنسان القول: إن هذا التقدم تحقق من جميع الجهات فإن هذا أمر مشكل.
كلام سارتر
إنهم يرون: ان المجتمع ينمو بشكل تلقائي، كما تنمو النبتة، ولأجل أن يتخذ نموه مرحلة الفعلية تتغير اختياراته، وإن هذه الاختيارات تنسجم دائماً مع التكامل. إن ارتضى أحد هذه النظرية فستكون الأخلاق نسبية (100%) إن سارتر الذي يقيس كل شيء على أساس محور الاختيار الشخصي، يقول: لا يوجد أي معيار لكون الفعل خلقياً خارج الإنسان، إلا أنه يقول: كل شخص ينتخب عملاً ما، فمعنى اختياره هوأن هذا العمل الذي اخترته أنا جيد وحسن، وبديهي أنه لا يوجد أحد ينتخب شيئاً على أنه قبيح وسيئ وإنما يختاره بوصفه حسناً، ويضيف أن الإنسان في الواقع عندما يختار لنفسه عملاً فإنه يعطي له قيمة، وعلى هذا يكون قد انتخب هذا العمل نفسه للآخرين.
إن هذا هو الكلام نفسه الذي نقوله نحن، من أن الإنسان بقيامه بعمل ما يقدم على ترويج ذلك العمل، فإن فعل خيراً قام بترويج الخير، وإن فعل شراً فقد روج الشر، إن العمل الذي يختاره الإنسان مع أنه جزئي إلا أنه يضفي عليه طابع الكلية في الوقت نفسه، فمثلاً ان اختيار طريق للنجاح عمل جزئي، أي شخصي وفردي، إذ يرتبط شخص معين في زمان ومكان معينين، ولكن هنا في الواقع كلية أيضاً، فإنكم عندما تختارون عملاً فمعنى ذلك ان هذا العمل بشكل كلي حسن للجميع، حسب قوله: ان معيار كون الفعل خلقياً هو أخلاق الفرد الفاعل، فإذن تكون الأخلاق أمراً نسبياً، لا تنشأ من انتخاب الفرد (ولا شأن لنا الآن في كون هذا الكلام باطلاً من أساسه)، إن معيار كون فعل ما خلقياً في هذه النظرية هو انتخاب الفرد ، فإذن عندي أن يكون الشيء الذي انتخبته خلقياً، وأنت حيث انتخبت فعلاً آخر يكون عندك الفعل الخلقي شيئاً آخر، وقد يتغير الفعلان في وقت آخر أيضاً.
إلا أننا إذا تجاوزنا هذه النظرية والتفتنا إلى سائر النظريات التي قمنا بنقلها سابقاً، يمكننا القول بعدم نسبية الأخلاق، فإن الأخلاق بذلك المعنى الذي عرفناها به تكون مطلقة، ولكن لا مانع من القول بأن الفعل الخلقي نسبي.
مفهوم حب الإنسانية
ذكرنا في جملة ما نقلناه من النظريات: أن البعض يرى أن معيار كون الفعل خلقياً هو الحب، وأن يكون الآخرون هم الهدف، فلدينا هنا شيئان: أحدهما الأخلاق نفسها، أي الخلق والسجية والخصلة الروحية للإنسان، وهي حب الغير وكون الإنسان حريصاً على مصير الإنسانية، ينبغي أن نقول: يكون هذا الشيء نسبياً بل هو مطلق، ولا يكون هذا الأمر نسبياً عند شخص ومطلقاً عند آخر، بل إن حب الإنسانية والحرص على مصيرها الذي ينشأ من خدمة البشر هو بنفسه أمر مطلق وصادق على كل شخص وفي جميع الظروف والأزمنة، من المحتمل أن نقول: لا فهذه أيضاً لا كلية فيها، إذن فمن الممكن أن يكون إنسان شخصاً مؤذياً أو جانياً أو قاتلاً مفسداً، وان مثل هذا الإنسان تدعو كل عقيدة إلى محاربته والتخلص منه، فإذن هذه النظرية ليست صادقة بشكل كلي أيضاً، وقد يجاب بأنها كلية (إن حب الإنسانية ومحاربة المفسد) ليس بينهما تناف، وإن اللازم لمحبة الإنسان (ليس هو عدم محاربة المفسد) فنحن قلنا أولاً: الإنسان بشكل مطلق ولم نحصره في إنسان معين، فلو وجد شخص يضر بالمجتمع الإنساني، فإن حب المجتمع الإنساني يأمرنا ويحكم بوجوب التخلص من هذا الفرد.
ثانياً: ليس المراد بحب الإنسان، الإنسان بما هو حيوان مستوي القامة له رأس يقف على قائمتين ويمشي بهما، وإنما المراد من الإنسان هو الإنسانية، أي الفضائل الإنسانية، لا هذا اللحم والجلد، فإن صار الإنسان عبارة عن هذا اللحم والجلد ليس إلا، فلا فرق حينئذ بينه وبين الحيوانات الأخرى، فالإنسان أيضاً ليس سوى حيوان له روح ويأكل وينام وله شهوات، فإذن لا يمكن أن نمنحه قيمة فوق التي نجعلها للحيوان، فإننا عندما نقول (إنسان) فإننا نقولها باعتبار تلك الكمالات والاعتبارات الإنسانية.
على كل حال لو اعتقدنا بأن أساس الأخلاق هو الحب، فإن الأخلاق بمعنى الخصلة والسجية أمر ثابت، (وسنذكر الفعل الخلقي فيما بعد)، وكذلك لو اعتقدنا أن الأخلاق سلسلة من الإلهامات الوجدانية التي ذكرها السيد (كانت) في فلسفته وطرح مجموعة من القواعد على أنها إلهامات يلهمها وجدان كل إنسان فمن المسلم به أن تلك الإلهامات كلية ودائمة وصادقة في جميع الأزمنة.
قلنا: إن راسل وغيره يعرفون الأخلاق بنحو آخر، ويقولون: إن معيار كون الشيء خلقياً، هو انسجام مصلحة الفرد مع المجتمع، لأن الإنسان فرد نفعي 100%، ولا يمكن إدخاله في طريق غير طريق المنفعة الشخصية، وفي الأقل لو أردنا أن يصدر منه فعل خلقي يصل نفعه إلى الغير، ينبغي علينا أولاً إفهامه أن يجعل مصلحته منسجمة مع مصلحة المجتمع، إن الأخلاق هنا مطروحة على أنها خصلة، خصلة ذكية في أن يجعل الإنسان مصلحته منسجمة مع مصلحة المجتمع في جميع الأحوال، بناء على هذه العقيدة تكون الأخلاق كخصلة أمراً ثابتاً وليس نسبياً.
وقلنا: إن هناك عقيدة أخرى في باب الأخلاق، يقول بها القدماء، فهم يرون أصل العدل على أساس الروح المجردة، يقولون: إن الخلق الحسن عبارة عن نوع من التوازن والاعتدال بين جميع القوى تحت الحكم المطلق للقوة العاقلة، بشكل تكون فيه جميع هذه القوى رعية لهذا الحاكم الواحد، طبقاً لهذا المسلك يتضح أيضاً أن الأخلاق أمر مطلق، وهي كون الإنسان بنحو تكون فيه جميع غرائزه خاضعة لقوة العقل، وليس ثمة ما يدعونا إلى القول بأنه في هذا الزمان يختلف الحال عن الزمان الآخر، فإن الانصياع هو الانصياع ليس غير.
والعقيدة الافلاطونية القائمة على أساس الجمال تقول: إن جذور الأخلاق هي جمال الروح، وهذا أيضاً أمر ثابت، إن افلاطون كان يرى طبعاً جذور الجمال هي الاعتدال.
السلوك نسبي
ينبغي عدم الخلط بين كون الأخلاق مطلقة وكون الفعل الخلقي مطلقاً، أي لا يمكن الاستناد إلى فعل، والقول: إن هذا الفعل خلقي دائماً، كما أنه لا يمكن أن يقال: إن هذا الفعل مناف للأخلاق دائماً، وغالباً ما صار هذا الأمر سبباً لوقوع الكثير في الاشتباه، فقد تصوروا أن اللازم للأخلاق المطلقة والثابتة هو أن علينا منذ البداية أن نصنف الأفعال، وأن نضع جملة منها في طرف ونقول:إن هذه الأعمال أعمال خلقية، ونضع جملة منها في طرف آخر ونقول: إنها ليست خلقية، ولكن ينبغي أن نقول: كلا، فعلى حد تعبير القدماء:إن الأفعال تختلف بالوجوه والاعتبارات، أي من الممكن أن يكون فعل ما باعتبار خلقياً، وغير خلقي باعتبار آخر، إن كون السلوك مطلقاً أو نسبياً هو غير كون الأخلاق مطلقة أو نسبية، مثلاً: هل صفع اليتيم فعل خلقي وحسن أم هو مناف للخلق وسيئ؟ الجواب: انه لا يمكن الحكم على مطلق صفع اليتيم وبأنه حسن أم لا، فتارة نصفع اليتيم كي نسلبه حقه، وأخرى نضربه حتى يتأدب، فإذن لا يوجد حكم ثابت لصفع اليتيم وكونه سيئاً مطلقاً أو جيداً مطلقاً، بل أحياناً يكون جيداً إذا كان في موضع التأديب، وفي موضع آخر يكون قبيحاً كسرقة ماله أو ابعاده ونفيه أو قهره: ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ﴾ 1.
أو مثلاً ماذا تقول في الانحناء لشخص؟ هناك اختلاف كثير بين الموارد، فأحياناً ينحني الإنسان أمام شخص بغية تعظيمه، وهنا أيضاً ينبغي لنا أن نرى من هو ذلك الشخص، فإن كان إنساناً مستقيماً كان الانحناء له أمراً لائقاً (وهذا العمل خلقي) وأحياناً يكون الانحناء لهذا الشخص بقصد الاستهزاء، ففي هذه الصورة يتخذ هذا الفعل عنواناً آخر مختلفاً، وربما لا يوجد أي فعل في الإسلام إلا وله حكم ثانوي يفترق عن الحكم الأولي على حد تعبير الفقهاء.
العناوين الأولية والثانوية
لدى علمائنا مصطلح جميل جداً، يقولون: لدينا عناوين أولية وعناوين ثانوية، ومرادهم هو أن لكل شيء بنفسه إسماً وعنواناً أي تصدق عليه صفة (ولكن أحياناً يعرض عليه عنوان آخر) فمثلاً إن زيداً في نفسه إنسان، ولكن أحياناً يعرض عليه عنوان ثانوي، أي يتصف بصفة غير صفته الأولية، فمثلاً زيد إنسان عالم، أو إنسان ظالم، إن هذا العنوان الآخر الذي يرد عليه هو عنوان ثانوي ومن المحتمل أن يكون كذلك عنوان ثالث ورابع وخامس وهكذا، تماماً كالشخص الذي له أعمال متعددة فبالاعتبار الأول زيد ابن لعمرو، إلا أنه استاذ في الجامعة أيضاً، ومع ذلك هو رئيس للمجلس ومدير لإحدى الشركات، له عناوين مختلفة، عندها يقولون: إن كل شيء يكون له حكم باعتبار كل عنوان يعرض عليه مثلاً لو سئلنا: هل ان لحم الكبش حلال أم حرام؟ نقول: حلال اللحم، ثم يسألون: هل يحل لنا أكل لحم الخنزير أم يحرم؟ نقول: حرام، إذ إن العنوان الأولي للحم الخروف هو الحلية والعنوان الأولي للحم الخنزير الحرمة، ولكن اللحم الحلال نفسه قد يصير حراماً بالعنوان الثانوي كما لو كان مغصوباً، ولحم الخنزير المحرم يكون حلالاً فيما إذا اضطر الشخص إليه في مخمصة وتوقفت حياته على أكله، وهنا لا يكون حلالاً له فقط وإنما يكون أكله واجباً، أي لو لم يأكل منه ومات يكون فعل أمراً محرماً، ومن هذا القبيل من الأمثلة يوجد لدينا الكثير.
فتارة نصب البحث على الفعل وتارة على الخصلة، إن أردنا أن نصب البحث على الخصلة، فعلى مبنى هيجل أو سارتر والذين يقولون: لا يوجد معيار للأخلاق سوى اختيار الإنسان ستكون الأخلاق والسجايا أمراً نسبياً، ولكننا لو تجاوزنا هذه المسالك فإن الأخلاق بعنوان أنها خصلة وسجية يمكن عدها أمراً ثابتاً، وأما الفعل الخلقي فلا.
التمثيل بالعفاف
إن الذين يؤمنون بنسبية الأخلاق يقولون مثلاً: كانت العفة في يوم ما صفة حسنة في المجتمع ـ على مستوى حاجة المجتمع وظرفه ـ لأن الحياة كانت حياة فلاحية وكان مقتضى حياة الفلاحة أن تكون العوائل مستقلة ومنفصلة عن بعضها الآخر، هذا ما كانت تقتضيه المصلحة، ولذا كان من المستحسن التأكيد على تأصيل العفة، ولكن بعد ذلك ظهرت الحياة الآلية وجرت المرأة في خضم المجتمع وداخل المعامل، فالعفاف كان يوماً ما خصلة جيدة، وأما الآن فانه ليس كذلك. وهذا الكلام ليس صحيحاً على المبنى الذي ذكرناه، فإن العفة بعنوانها حالة نفسية معناها: انصياع القوة الشهوانية لسلطان العقل والإيمان، وعدم الخضوع لقوة الشهوة.
فإذن العفة جيدة في جميع الأحوال، نعم لا مانع من اختلاف ذلك الفعل الذي نسميه خلقياً، لكن ليس بالمقياس الذي يقول به هؤلاء، ففي هذا المقياس لا يختلف الحال أبداً، مثلاً في الأمثلة الفقهية المعروفة، يقولون: امرأة مريضة وبحاجة إلى طبيبة، ولا توجد طبيبة، ولابد للطبيب أن يمسَّ جسدها وأحياناً في أمراض الولادة يضطر إلى النظر إلى عورتها والمفروض أن حياتها في خطر، ففي هذه الصورة تجوز مراجعة الطبيب، إن لمس المرأة والنظر إلى جسدها من قبل الأجنبي أمر مخالف للعفة، ولكن هذا الفعل يفقد جنبته غير الخلقية في ظل ظروف استثنائية، ولكن هنا شيء آخر غير كون العفة بذاتها تفقد قيمتها كخصلة وسجية، وإنما تبقى قيمتها محفوظة، وإنما الذي يتغير هي الحالة أو الفعل.
من هنا يمكننا أن نفهم أن الأعمال التي ترتبط أكثر بالظروف الاقتصادية والصناعية والفنية، هذه الأفعال نفسها تتغير كثيراً، إلا أن الأعمال التي لها ارتباط قليل بهذه الأمور مثل هذه المسائل المتعلقة بالعفة والستر والحجاب لا تتغير كثيراً، إن التغييرات تكون مرتبطة إما بالمجتمع أو الظروف الاقتصادية والفنية، وهي لا تحدث تغيرات من هذه الجهة، إن هذه المسائل مرتبطة بنوع من الارتباط الذي يمكن أن يقع بين الجنسين، والجاذبة الموجودة لدى هذين الجنسين، كل منهما تجاه الآخر، وبما أن الاُصول ثابتة فتكون أفعالها الخلقية دائماً على وتيرة واحدة. فإذن لابد من التفكيك بين الفعل الخلقي والأخلاق نفسها، إن على الذين يبلغون الأخلاق أن يفعلوا شيئين، بالنسبة إلى التوصية بالأخلاق والسجايا نفسها، فعليهم أن يوصوا بها على أنها أمور مطلقة، ولكن في نفس الوقت عليهم ان يزودوا الناس بنوع من الفهم والاجتهاد وحتى لا يختلط عليهم في مقام العمل الفعل الخلقي بالفعل غير الخلقي.
التمثيل بالصدق
إننا قد نرى الفعل الخلقي غير خلقي، ونرى الفعل غير الخلقي خلقياً، مثلاً الصدق جيد من جهة أنه صدق، ولابد من قوله، والكذب من جهة أنه تحريف يكون قبيحاً، ولكن هل يمكن أن يقال: الصدق واجب في كل الأحوال، والكذب يحرم قوله في جميع الأحوال؟ في بعض الأحيان يجب ارتكاب الكذب قطعاً، والشيء العجيب هو أن بعضهم أخذ يهاجم سعدي، إذ يقول: الكذب الذي تكون فيه مصلحة أولى من الصدق الذي يشعل الفتن، إنه كلام صحيح جداً، ولكن هناك من يقول: إن الذي يكذب لابد أنه يقصد مصلحة ما، كلا إن الكذب الذي فيه منفعة يختلف عن الكذب الذي فيه تحايل ومكر بالآخرين، لماذا يريد الإنسان أن يقول الصدق؟ إن في الصدق مصلحة المجتمع، ولذا يكون مراداً، فلو كان الكذب أحياناً محققاً لمصلحة المجتمع والفرد، فمن البديهي أنه يكون مطلوباً أيضاً.
كتب محيط الطباطبائي مقالة جاء فيها: عندما دخل الانگليز الهند وكانت اللغة الفارسية معمولاً بها هناك في وقت ما كان من جملة الكتب التي منعوا دراستها في المدارس وأيدهم الزرادشتيون في ذلك كتاب (كلستان سعدي)، لأنه يفسد اذهان الأطفال، لأنه يقول:(الكذب الذي فيه مصلحة أولى من الصدق الذي يشعل الفتن) وأضاف بعد ذلك، أن أولئك المحتالين كانوا يعلمون أن لهذا العمل سبباً آخر، وهو أنه يوجد في بداية الكتاب كلام آخر وهو:
يا كريما تأكل من خزانة العنب وتعمل لمصلحة الزرادشتيين والنصارى
لماذا تحرم الأصدقاء مما في أيديهم وتهتم بالأعداء وتجد في خدمتهم
يلقن الطفل من البداية أن النصارى والزرادشتيين أعداء الله، فلأجل أن لا تقال تلك الجملة، تذرعوا بذريعة أخرى، وإلا فأي عاقل في الدنيا يفهم معنى الصدق والكذب، ولا يفهم أنه أحياناً يكون الصدق أخطر مائة مرة من كل جريمة؟ طبعاً في المواضيع التي يجوز فيها الكذب يجب الاكتفاء منه بالقدر الضروري، وينبغي أن يكون على شكل التورية، كقصة أبي ذر حيث يقال: انه حمل الرسول على ظهره والقى عليه رداءه، فمر به على الكفار، فقالوا له: ماذا تحمل يا أبا ذر؟ فقال: محمد، وكان هذا كلام صادق لا يتوقعونه، وإلا لو كان أبو ذر يعلم أنهم سوف يصدقونه لحرم عليه قوله، وكان أشد حرمة من كل حرام، بلا شك إن الإنسان لا مانع له من أن يكذب في بعض الموارد كإصلاح ذات البين، ولدينا في الفقه موارد يجوز فيها الكذب، كمصالحة عدوين وانقاذ بريء بكذبة، وان قصة سعدي تصب في هذا المورد، ففي مثل هذه الظروف يكون الكذب حسناً قطعاً.الغرض هو أ نه ينبغي أن نضع فرقاً بين الفعل الخلقي والأخلاق نفسها، إن كون الفعل الخلقي متغيراً ينسجم مع الإسلام أيضاً، مثلاً يسأل شخص: هل السرقة حرام؟ نقول: نعم، فإن سأل: هل تجوز السرقة في بعض الموارد؟ فالجواب: نعم، تجوز في بعض الموارد، بل ربما تجب.
*التربية والتعليم في الاسلام،الشيخ مرتضى مطهري،دار الهادي، بيروت لبنان ،ط4 1426هـ -2005م، ص89-101.
1-الضحى:9-10
2010-03-05