قرن العبادات بالبرامج التربوية
التربية
وأول هذه العوامل التي أهتم بها الدين الإسلامي، التعقل والتفكر والتعلم، وهنا ذكرناه تحت عنوان (الغايات والأهداف) التعقل والتفكر من أجل الإنارة، أي ما له حكم المصباح بالنسبة إلى الإنسان.العامل الثاني: الذي أكده الإسلام كثيراً هو التقوى وتزكية النفس...
عدد الزوار: 188
بسم الله الرحمن الرحيم
سنبحث باختصار عن عوامل التربية وكسب الأخلاق الصحيحة من وجهة نظر الإسلام.
وأول هذه العوامل التي أهتم بها الدين الإسلامي، التعقل والتفكر والتعلم، وهنا ذكرناه تحت عنوان (الغايات والأهداف) التعقل والتفكر من أجل الإنارة، أي ما له حكم المصباح بالنسبة إلى الإنسان.
العامل الثاني: الذي أكده الإسلام كثيراً هو التقوى وتزكية النفس، وقد صرح بذلك في القرآن الكريم نفسه، إن التقوى والتزكية تستوجب تنمية إرادة الإنسان وتجعل الإرادة مستعدة للعمل، أي أن الإستثارة وحدها غير كافية، ما لم تحصل الإنارة والقدرة على العمل، إن التقوى والتزكية تمد إرادة الإنسان الخلقية بالقدرة على العمل، وهي قد توجد أيضاً بشكل محدود في العقائد غير المذهبية، إلا أنها ليست بالشكل الموجود في العقائد المذهبية.
العامل الثالث: والذي عقدنا البحث له بشكل رئيس، هو مسألة العبادة بعنوان أنها عامل للتربية وكسب الأخلاق الفاضلة، فكما أن التفكر والتعقل كان لأجل استنارة الفكر في القوة العاقلة، والتقوى والتزكية كانت لأجل تقوية إرادة الإنسان، أي كما أن الإيمان منشأ، للعبادة، فالعبادة أيضاً تقوي الإيمان، وقد صرح بهذه الفكرة كثيراً في النصوص الإسلامية، أي التأثير المتبادل بين الإيمان والعمل، فالإيمان يكون مدعاة للعمل، والعمل الذي ينبعث من الإيمان يكون منشأ لتقوية الإيمان.
روح العبادة
قلنا مراراً: ان روح العبادة هي التذكر، أي ذكر الله والخروج من الغفلة عنه، قال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾،وفي آية أخرى:﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾2. إن العبادة من أجل التذكير، قد أوصي بها كثيراً في الإسلام بما هي فريضة ونافلة، وقد حارب الإسلام ما يسبب الغفلة ويقضي على روح العبادة، أي التذكر، ومنع عنه بشكل (إما مكروه وإما حرام) كالإفراط في الأكل أو التكلم ومعاشرة الناس أو النوم، وقد يرجع بعض هذه الأمور، كالأمر بعدم الإكثار من الأكل إلى علل صحية أيضاً، أي أن المراد منه هو الحفاظ على الصحة ولكن الصحة ليست مراده وحدها قطعاً.
شكل العبادة والبرامج التربوية
مع أن روح العبادة هي إرتباط العبد بربه وكسر حاجز الغفلة، والالتفات إلى الله، إلا أن النكتة الملفتة للنظر هي أن الإسلام قد أعطى شكلاً للعبادة، أولاه أهمية كبيرة، وقد أدخل في هذا الشكل أيضاً مجموعة من البرامج التربوية على هيئة العبادة، مثلاً أنه عندما يراد لقلب الإنسان أن يكون ملتفتاً إلى الله، فما الفرق في كون الجسد طاهراً أم لا؟ إن الله ينظر إلى قلوبكم ولا ينظر إلى صوركم. نحن لا نريد الذهاب إلى ربنا بأبداننا، بل نريد الذهاب إليه بقلوبنا، فلابد أن يكون قلبنا طاهراً، إلا أن الإسلام عندما يشرع العبادة بما أنه يريد أن يكون للعبادة على الخصوص أثر خاص من وجهة نظر تربوية، فإنه يأمر أيضاً بالشيء الذي لا يرتبط كثيراً بالعبادة إلا أنه يؤثر في التربية والتعليم، ويصبه في قالب العبادة واجبة أو مستحبة ويجعله في ضمنها، كمسألة الغسل والوضوء والكون على طهارة دائماً وهي احدى السنن الإسلامية. يقول الإسلام:عندما تقف للصلاة لابد أن يكون جسمك وثوبك طاهرين، إنه برنامج تربوي ضمن العبادة.
العبادة والحقوق الإجتماعية
المسألة الأخرى هي مسألة الحقوق، بحسب روح العبادة لا يختلف الأمر بين أن يجلس على سجادة مغصوبة أو مباحة، فإن كون هذه سجادتي وتلك سجادتك، وأن لا تتصرف في ملكي وأن لا أتصرف في ملكك، يقع ضمن العقود المفيدة في الحياة الاجتماعية، وإلا فكون هذه سجادتي لا يجعل لها كيفية واقعية ولو كانت لك لكانت بكيفية واقعية أخرى، إن مسألة أمر واقعي، هو الحالة والعلقة الروحية المنعقدة بين الإنسان وربه، ومثل تلك الأمور لا يمكنها أن تؤثر في العبادة، نعم بعض الأمور تؤثر فمثلاً إذا أصيب الإنسان ببعض العوارض الروحية والجسدية، فإن العبادة سوف تتلاشى، وهذه العوارض ستمنع من حضور القلب، إلا أن الأمور المذكورة ليس لها مثل هذا الأثر، ومع ذلك يقول الإسلام: يجب في المكان الذي يصلى فيه والماء الذي يتوضأ به وحتى ذلك الوعاء الذي فيه ماء الوضوء والثوب الذي يصلي فيه وكل ما له ربط بعملك هذا يجب أن يكون مباحاً، أي غير محرم، وحتى لو كان في ثيابك خيط واحد مغصوباً فإن عبادتك غير مقبولة، هذه أيضاً اطروحة لبرنامج تربوي يتعلق بالحقوق الاجتماعية في إطار العبادة، إذ لو لم يجعل هذا شرطاً في العبادة فسوف لا تتأثر العبادة من جهة كونها عبادة.
الصلاة واستقبال القبلة
المسألة الأخرى وفيها نمثل بالصلاة أيضاً هي أن الإسلام يقول: عندما تصلي توجه إلى القبلة، مع أن الإسلام نفسه يصرح بأنه بالنظر إلى واقع العبادة لا يختلف الأمر في الجهة التي تتجه نحوها ﴿ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ﴾3، أي ليس الأمر هو أننا إذا توجهنا نحو الكعبة فقد واجهنا الله، وإذا اتجهنا باتجاه معاكس فسوف لا نواجه الله، ولكن مع ذلك نجد الإسلام من أجل مصلحة تربوية اجتماعية لا تتوقف عليها روح العبادة يقول: بدل أن تتوجه إلى جميع الجهات في الصلاة التي تصليها يتعين عليك ان تصلي إلى جهة واحدة، ليفهم الناس أنه ينبغي عليهم أن تكون لهم جهة واحدة في معاملاتهم، أي أنه درس تربوي في الوحدة والإتحاد، والكون على جهة واحدة متساوية عند الله إلا أنه يقول أيضاً:﴿إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين*فيه آيات بينات مقام إبراهيم﴾4. إن هذا الإختيار نفسه يعد احتراماً للعبادة، وتأكيداً لأهميتها، بحيث ان أول نقطة في العالم اتخذت للعبادة، يجب الآن أيضاً أن يكون هو موضع إتجاه الناس في عبادتهم.
في كتابنا (الخدمات المتبادلة بين إيران والإسلام) ذكرنا مسألة تقديس النار عند الزرادشتيين منذ قديم الزمان يعني قبل ألف سنة في مجلس المباحثة تلك التي كانت تنعقد وخاصة في عصر المأمون وبعده وعندما كان المسلمون يعترضون على الزرادشتيين بسبب عبادتهم للنار، كانوا يقومون بتوجيه عملهم، وأحياناً يقولون: لو كنا عبدة النار لكنتم أيضاً عبدة التراب لأنكم تقفون إلى الكعبة، ويقولون أحياناً: إننا لسنا عبدة نار كما انكم لستم عبدة تراب، فنحن نقف باتجاه النار لا لكي نعبدها، إن هذا الكلام غير صحيح بصورة كلية، فإن الشعور الذي يكون لدى المسلم تجاه الكعبة والإحساس الذي يكون لدى الزرادشتيين تجاه النار كلاهما ناشئ من التعاليم التي جاءت بها النصوص الدينية، وهي تختلف اختلافاً كبيراً، ان الفرد المسلم عندما يتجه إلى الكعبة لا يشعر أبداً أنه يقدس الكعبة، بل لا يتطرق حتى إلى ذهن الطفل عند الركوع والسجود انه يعظم الكعبة، إلا أن كل عابد للنار إنما يعبدها بأي نحو كانت عبادته، سواء على أنها مظهر لله أو أي عنوان آخر، انهم لا يرون النار خالقة، فحتى الوثنيين لا يرون أصنامهم خالقة إلا أنهم يقدسونها، وعابد النار يقدسها أيضاً.
على كل حال إن الأمر بتوجه الجميع في الصلاة على جهة واحدة يعد نوعاً من اعطاء المضمون للعبادة، ان روح العبادة أمر مجرد بحيث لو أن الإنسان اختلى في زاوية يذكر فيها الله سوف تحصل له تلك الروح، ولكن الإسلام لا يرتضي هذه العبادة، هذا مضافاً إلى أن الإشكال المختلفة من الركوع والسجود لها تأثير بلحاظ ذلك التذكر، أي أن كل حالة تمثل خضوعاً وخشوعاً في حضرة الباري تعالى. أراد الإسلام أن يجعل هذه الروح في ثوب سلسلة من الأمور التربوية الأخرى التي يراها ضرورية للحياة.
التدريب على ضبط النفس
من أبرز الخصائص التي أولاها الإسلام أهمية في مجال العبادات مسألة التدريب على ضبط النفس عند أداء العبادة، إن الصلاة حقاً عبادة جامعة وعجيبة، وهذه الخصوصية موجودة أيضاً في الحج، ولكن بنحو آخر، فعندما يحرم الإنسان للحج يقوم بضبط نفسه ومنعها من ممارسة بعض الأمور ونجد الأمر نفسه في الصيام أيضاً.
طيلة مدة الصلاة يجب الإمتناع عن الأكل ولو حتى ذرة من السكر وقد ضمت الصلاة في نفسها الكثير من الاُصول الإسلامية التربوية، فيمنع فيها الأكل والشرب، ويفسدها الضحك والبكاء لغير الله، إذ في حال الصلاة يجب على الإنسان التغلب على رغباته من قبيل الأكل والنوم، وأن يسيطر على أحاسيسه من قبيل الضحك والبكاء، وكذلك يبطل الصلاة التمايل إلى اليسار أو اليمين، فهذه مظاهر من الإنضباط الجسدي والروحي.
التدريب على ضبط الوقت
المسألة الأخرى في الصلاة التي أوليت أهمية هي الدقة في مسألة الوقت بحيث يحسب حساباً دقيقاً حتى للدقيقة والثانية، ويلاحظ أن هذا الأمر لا يؤثر في روح العبادة وعلاقة الإنسان بربه، بحيث لو أننا شرعنا في الصلاة قبل الزوال بدقيقة لا تحصل تلك الحالة من التقرب إلى الله، ولكن ما إن يدخل الزوال تحصل تلك الحالة، ليس الأمر كذلك، إلا أن الإسلام اشترط ضبط الوقت، ولم يرد أن يكون هناك هرج ومرج بالنسبة لوقت أداء العبادات، فلو التفت المصلي إلى أن صلاته لم تكن داخل الوقت أو كان جزء منها خارجه، فإن صلاته تكون باطلة ولكن لو اشتبه المكلف، ولم يكن عامداً فصلى قبل الوقت، ووقعت ركعة من صلاته في الوقت، فإن صلاته تكون صحيحة.
التعايش السلمي
المسألة الأخرى هي مسألة التعايش السلمي مع الآخرين الذي جاء في صلب تعاليم الصلاة، فنحن نخاطب الله في سورة الحمد الواجبة قراءتها في الصلاة بقولنا:﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ بصيغة الجمع لا المفرد، فالكلام على الجمع لا المفرد، مع أنه من وجهة نظر روح العبادة كلما لم يكن هناك في ذهن الإنسان غير الله كان أحسن إلا أن الإسلام من أجل مصلحة اجتماعية مهمة جداً ولأجل أن يجعل من روح المسلم روحاً اجتماعية أمر بأن نقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم﴾ هنا يشاهد التعاون والمسالمة والتآخي العام بشكل ملحوظ. والأكثر من ذلك مسألة السلام المطروحة في تسليم الصلاة: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فإن هذا إعلان لطلب المسألة، ولكن ليس مع كل البشر حتى أولئك الذين ينبغي استئصال جذورهم لصالح البشرية، بل مع عباد الله الصالحين.
النية
مسألة النية أيضاً من المسائل التي أوليت اهتماماً كبيراً، فمن مسلمات الفقه الإسلامي كون النية روح العبادة، قال الرسول الأكرم (صتى الله عليه واله وسلم): "لا عمل إلا بنية"5 أو: "لكل امرئ ما نوى"6 ، ان العمل الذي يحدث من غير قصد لا يكون ذا قيمة، فالعمل الذي يقدم عليه الإنسان على نوعين: أحياناً يقدم الإنسان على الفعل وكأنه ماكنة لا إنسان (كأغلب الصلاة التي نؤديها) وأحيانا نقدم على الفعل ونحن ملتفتون إليه، وعندما يقدم الإنسان على فعل عن توجه منه والتفات فقد حدد هدفاً ومقصوداً في ذهنه وهو ملتفت إلى ما يفعله، حتى أن السيد البروجردي في باب النية لم ير كفاية وجود الداعي لدى الإنسان، وكنا في البداية نتعجب من أن يكون للسيد البروجردي رأي كهذا، إذ إن أغلب العلماء يكتفون بالداعي فقط، وأن يحدث في نفس الإنسان قصد للقربة، بحيث لو سألناه ماذا تصنع؟ يجيب: أصلي لله سبحانه، ولو كانت الغفلة أكثر من هذا المقدار وعمله الآلي وصل إلى درجة بحيث إذا سألناه ماذا تصنع، فإنه يمعن النظر أولاً ثم يجيب، فإن صلاته تكون باطلة بإجماع العلماء، إلا أن المرحوم السيد البروجردي كان يقول شيئاً آخر أيضاً وهو أنه لا يكفي هذا المقدار من الالتفات من قبل الشخص هو أن ما يقدم عليه هو بداعي قصد القربة، بل لابد من أن يخطر في قلبه هذا المعنى وكأنه يتكلم مع نفسه: أصلي أربع ركعات صلاة الظهر أداء قربة إلى الله، وعندها يقول: الله أكبر، طبعاً لا تأثير في لحاظ الباعث، فإن الباعث في محله، ولكن الفعل عندما يكون بهذه الحال فإن العمل يكون أقرب إلى حال الالتفات منه إلى حال الغفلة، أي أن الإنسان يقدم على فعله بوعي أكثر.
أركان النية
إن الإسلام لا يرتضي أي عمل عبادي لا تدخل فيه النية، وان النية في الإسلام تحوي ركنين، الأول أن العمل ينبغي أن يكون صادراً عن التفات لا عن عادة، من قبيل الكثير من الأعمال التي يقدم عليها الإنسان بلا التفات منه كالمشي مثلاً، فإذن أول ركن للنية هو أن يركز ذهنه بشكل يكون العمل صادراً عن التفات لا عن غفلة، وان ما يشترطونه من استدامة النية لأجل هذا الشيء، فلا يكفي الالتفات الذي حصل في بداية الصلاة، يعني لو أن الشخص غفل عن عمله بشكل يحتاج معه إلى تنبيهه إلى ما يصنع، فإن صلاته تكون باطلة أيضاً.
الركن الثاني للنية: الإخلاص، وما هو الباعث على العمل، وعلى هذا تكون أركان النية بهذا النحو.
1 ـ ماذا أفعل؟ وهو أصل النية التي يجب كونها لأجل التقرب إلى الله ورضاه. لماذا أفعل هذا العمل؟
أهمية النية
إن للنية أهمية بحيث لو أعملنا مقايسة بين العمل نفسه وبين النية التي هي توأم العمل، لرجح جانب النية على العمل، وهذا مفهوم حديث الرسول الذي يقول: "نية المؤمن خير من عمله"، هل يعني أن النية بلا عمل خير من العمل بلا نية؟ فإن العمل بلا نية لا قيمة له، وكذلك النية بلا عمل فإذن ماذا يعني هذا الحديث؟ هل المراد أن نية المؤمن خير من عمله الصادر عن نية؟ بديهي أن هذا ليس صحيحاً أيضاً، فإن النية وحدها لا يمكن أن تكون أفضل من العمل الصادر عن نية كما في قولنا: إن الروح أشرف من الجسد، فليس المراد أن الروح اشرف من الجسد الذي فيه روح، إذ إنه يمتلك الروح مع شيء زائد عليها، الجواب أنه كلا، بل المراد أن هذا الموجود المركب من الروح والجسد يكون جزؤه هذا أشرف من جزئه الآخر. إن هذا يصور مدى اهتمام الإسلام بالنية، وان العمل ينبغي أن يكون توأم النية والإلتفات، وأن يعي الإنسان ما يفعله ولا يمارس أفعاله غافلاً عنها.
خاصية العادة
يرى علماء النفس: أن الشيء ما أن يصبح عادة للإنسان حتى تكون فيه خاصيتان متضادتان، وكلما زاد في اعتياده يغدو عمل الإنسان أسهل، فإن من يعتاد على الكتابة على الآلة الطابعة، كلما مارسها أكثر يكون العمل لديه أسرع وأسهل، ولكن كلما كثر اعتياده يقل التفاته، أي يخرج عمله هذا عن كونه إرادياً ويقرب أكثر نحو العمل غير الإرادي، هذه خاصية العادة، وان السبب وراء اهتمام الإسلام بالنية إلى هذه الدرجة هو الحد من صيرورة العبادة عادة وعملاً غير إرادي ولا هادف.
هناك شيئان ينبغي التطرق لهما: الأول: ما هو موضع اهتمام الإسلام من القواعد والمتبينات في مجال الأخلاق والتربية؟
لقد طرحت المذاهب الخلقية أفكارها بشأن الأخلاق الحسنة، وان الإختلاف بين المذاهب يصل إلى حد التضاد، فبعض المذاهب يصف عملاً ما بأنه خلقي، بينما يراه مذهب آخر منافياً للخلق، الأخلاق عمل توجيهي أي علم (كيف ينبغي أن نكون) والإرشاد إلى (كن هكذا)، السؤال هو: كيف نكون لنغدو صالحين من وجهة نظر هذا المذهب؟ فإذن مجرد الأمر بتحصيل الأخلاق الحسنة، لا يمكن أن يكون محدداً لمذهب خلقي، وقد قلنا مراراً: إن أوهى كلام هو المقولة المنسوبة لزرادشت إذ يقول: "الكلام الحسن، الظن الحسن، والفعل الحسن" فما هو الحسن؟ وكما لو انهم طلبوا من مهندس أن يرسم لهم خريطة مسجد؟ فيقول أنه سيصمم بناء جيداً، ففي البداية ينبغي أن نرى ما هو البناء وما هو (الجيد) في نظره، أو يقال لخياط: أي ثوب تخيط؟ يقول: هو من الطراز الجيد، ولكن لا نعلم ما هو الجيد عنده، فلهذا لابد أن نرى أي الأخلاق يراها الإسلام حسنة وأيها سيئة وفي هذه الصورة نتمكن من تعرف الطريقة الخلقية والتربية الإسلامية.
نظرية نيتشه
ان أكثر المذاهب الخلقية ترى أن المعيار الخلقي كامن في محاربة النفس أي التكبر و(الأنا). أي أن الفعل الخلقي هو ذلك الفعل الذي لا يكون هدف الإنسان منه ذاته، والأخلاق معناها تهديم جدار (الأنا)، الذي أقامه الإنسان بينه وبين الآخرين. وليس لدينا سوى ثلاثة مذاهب ترى أن على الإنسان أن ينمي "ذاته"، مثل كلام نيتشه الذي يباين التعاليم التي تذكر تحت عنوان حب الآخرين وحب الإنسان وإرادة مصلحة الغير والايثار. يقول: إن هذا الكلام كله تافه، ان الإنسان السعيد هو الذي يسعى وراء القدرة والقوة، وليس هناك معنى لإفناء الذات، بل ينبغي تنميتها. ولا معنى للترحم على الضعفاء، بل لابد أن يزال الضعيف من الوجود، وإذا سقط إنسان في بئر فينبغي أن يطرح فوقه حجر، لان ذنبه الذي لا يغتفر هو ضعفه. ونحن إن سعينا لهذه الأخلاق فقد قمنا بتقوية البشر؛ إذ بعد مدة يصفى النسل ولا يبقى إلا الأقوياء، وعلى أثر اختيار الأصلح، تتقدم البشرية نحو الأمام، وان أكبر خيانة اقترفت بحق البشر إنما هي التي ارتكبها اولئك الذين عملوا على مساعدة الضعفاء.
إن هذه الآراء احدثت ضجة في العالم؛ لأنها تقوم بإدانة المسيح الذي أوحى كثيراً بالمحبة والتآخي، ومساعدة الضعفاء، وكانت ترى أن تعاليم المسيح هذه مضرة بالإنسانية.
المسألة الأخرى التي طرحت: هي أن لدينا نوعين من (الأنا). الأولى هي (الأنا) التي ينبغي تدميرها وهي ذلك الاهتمام الذي نقول عنه (تنمية النفس وعبوديتها) ونسميه أحياناً (عبادة الشهوة) ولكن في الوقت نفسه هناك نوع آخر من (الأنا) ينبغي تنميته ولا ينبغي التفريط به إذ إنه بتهديمه تتقطع جذور الأخلاق الإسلامية بشكل كامل.
الأخلاق في المجتمعات الإسلامية
هناك ثلاثة أنواع من الأخلاق في المجتمعات الإسلامية
1 ـ الأخلاق الفلسفية أو السقراطية: التي بسبب التعقيد العلمي الموجود فيها، لم تخرج عن محيط العلماء والفلاسفة إلى عامة الناس. ولكن النوعين الآخرين للأخلاق كانا مؤثرين في الناس.
2 ـ الأخلاق العرفانية: أي الأخلاق التي روجها العرفاء والمتصوفون وطبعاً بمقياس واسع مبتنٍ على الكتاب والسنة.
3 ـ أخلاق الحديث، أي الأخلاق التي روجها المحدثون في صفوف الناس عن طريق نقل الأخبار والأحاديث وغيرها.
لهذين النوعين من الأخلاق أوجه اشتراك كثيرة، وان اختلفا في بعض النقاط. إن محور أخلاق العرفاء هو مجاهدة النفس، وهذا طبعاً تعليم صحيح موافق أيضاً للأخلاق المذكورة في الكتاب والسنة، ولكن حصل فيه نوع من الإفراط جر إلى الوقوع في بعض التعاليم غير المنسجمة مع الكتاب والسنة، وخرج بالأخلاق الإسلامية من حالة الحياة إلى حالة الموت.
إن هؤلاء قد أغفلوا ما أوصى به الإسلام مما هو كرامة للنفس وشرف لها تحت عناوين مجاهدة النفس و(الأنا). ان الإسلام يخالف عبادة النفس بمعنى البطنة والانغماس في الشهوة وحب المال والجاه، ولكن هناك أشياء لا يميل إليها الطبع وقد أوصى الإسلام بتقويتها، من قبيل طلب العزة والشرف وكرامة النفس.
هناك حديث في نهج البلاغة يقول: "من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته"7 أي لو حصل هذا الشعور في الإنسان سوف يترك الإنصياع للشهوات سريعاً ويرجع الإنسان إلى باطنه ويلتفت إلى ذاته، وإن للذات مقاماً رفيعاً وهي أسمى من أن تلوث بهذه الأمور، (كما لو أننا أرشدنا شخصاً إلى لوحة جميلة جداً وسألناه: هل تعرف ما هذه اللوحة؟ إنها جميلة جداً واستثنائية، ولكنها ومع الأسف في موضع يقع عليها التراب والغبار) إنه مادام لم يعرفها فهو لا يقدر ثمنها ولا يعيرها اهتماماً، ولكنه ما ان يتعرف عليها حتى يقوم فوراً بالحفاظ عليها.
حديث آخر عن الإمام الهادي: "من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره" 8 إن الذي يفقد احساسه بكرامته هذا الكنز العظيم، والذي لا يشعر بشرفه وكرامته، احذره ولا تأمن شره. وقد جاء في الحديث المعروف في العقل والجهل في تحف العقول (ص389): "لا دين لمن لا مروءة له". إن الدعوة إلى المروءة هي نفسها دعوة إلى الذات. (ولا مروءة لمن لا عقل له. إن أعظم الناس قدراً من لا يرى الدنيا لنفسه خطراً).
وطبعاً هذه ليست عبادة للنفس، إن أعظم الناس قدراً هو الذي لو وضعت الدنيا بما فيها في كفة وكرامته وعزة نفسه في كفة أخرى، لقدم عزة نفسه على جميع الدنيا، أي لا يكون مستعداً لتلويث شرفه وكرامته مقابل أن يعطى الدنيا بما فيها.
يقول في نهج البلاغة: "قدر الرجل على قدر همته، وصدقه على قدر مروءته" إنها جملة عجيبة! إن الذي يشعر برجولته لا يكذب، ويرى الكذب دون شأنه "إن هذا الالتفات إلى الذات هو مطلب في حد ذاته"، "وعفته على قدر غيرته"9 أي أن الذي له غيرة على عرضه لا ينظر إلى أعراض الناس، وإن الذي يهتك أعراض الناس فاقد لغيرته. وأكثر صراحة من كل هذا كلمة في وصيته (عليه السلام) للإمام الحسن (عليه السلام) (أكرم نفسك عن كل دنية، وإن ساقتك إليها الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً): "ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً"10.
من المحتمل أن يقول شخص: لو أراد الإنسان أن يجاهد نفسه، فلو لم يكن عبد غيره فقد ارتكب عبادة نفسه أكثر من كونه أصبح حراً، كلا إن تلك النفس التي كان عليه أن يجاهدها هي غير تلك النفس التي عليه أن يحافظ عليها. إن هذه الجمل يقولها علي (عليه السلام) وتمام هدفه مجاهدة الهوى وحب الذات، يتضح أن ذلك الهوى وتلك (الأنا) التي تحاربها النفس هي غير ذلك الشيء الذي يريد الإسلام إحياءه.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث في تحف العقول: "ولا تكن فظاً غليظاً يكره الناس قربك، ولا تكن واهناً يحقرك من عرفك" أي أن الإسلام لا يرتضي للمسلم تحت عنوان مجاهدة النفس أن يجعل من نفسه شخصاً وضيعاً وحقيراً، لا يعتني به من مر به، بل ينبغي الحفاظ على العزة والشرف: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين﴾ . هذا هو منطق القرآن.
نقطة ضعف الأخلاق الصوفية
توجد في الأخلاق الصوفية والعرفانية نقطة ضعف، مع أن العرفاء قاموا بإسداء خدمة كبيرة إلى الإسلام إذ إنهم قاموا بترويج الأخلاق شعراً ونثراً وتمثيلاً إلا أن الإنسان يشتبه أحياناً، انظروا إلى جملة أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه: ولا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً، أو جملة الإمام الصادق ولا تكن واهناً يحقرك من عرفك. وانظروا في المقابل هذا الكلام الذي يذكره ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: يقول إبراهيم الأدهم11: أنا لم افرح كما فرحت في ثلاثة مواضع12: الأول: عندما كنت راكباً في سفينة، وكان فيها رجل يقوم بمداعبة الناس واضحاكهم، وقد أحاط به من في السفينة وكان في جملة ما نقله من القصص أنه كان جندياً وقد حارب هو ورفاقه في الموضع الفلاني وكانوا يقومون بأسر الأشخاص، وبعد ذلك من أجل أن يوضح كيف كان يسحب الأسرى نظر إلى الأطراف لم ير من هو أنسب مني لجره إلى ساحة قصته، فتقدم نحوي وجرني من شعر رأسي وهو يقول: هكذا كنا نقوم بسحبهم. ففرحت إذ أني رأيت أنه لا يوجد من هو أحقر مني في نظره. (إن ابن أبي الحديد ينقل هذه القضية مستحسناً لها. وهي بالضبط خلاف كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الصادق (عليه السلام) وفي موضع آخر كنت مريضاً فنمت في المسجد، وعندها كانوا يقومون بطرد السائلين من المساجد، فجاءني المؤذن الذي كان خادماً أيضاً وقال لي: انهض واخرج، فلم أتمكن من النهوض، فأخذ برجلي وقام بسحبي ورمى بي خارج المسجد. ففرحت كثيراً لأني كنت في هذه المرتبة من الضعة بنظره (إن هذا الرجل ينقل هذه الخاطرة عن نفسه على أنها مجاهدة للنفس والهوى وهو يتحمل فيها الإهانة والحقارة) ومرة ثالثة كنت أمتلك ثوباً فنظرت إليه فلم أميز بين شعره والقملة.
إن هذا طبعاً لا ينسجم مع الأخلاق الإسلامية، إن الإسلام يأمرنا بضرب ذلك الرجل الذي يجعل من الآخرين سخرية ويرى أن النظافة من الإيمان. ولكن جميع هذه الأمور قد غض الطرف عنها بعنوان مجاهدة النفس وهذا غير صحيح.كذلك ينقل ابن أبي الحديد مادحاً أن شخصاً دعا أحد المشاهير في التصوف فذهب إليه، فاعتذر منه. وكذا في المرة الثانية والثالثة، ومع ذلك لم يهتم للأمر كثيراً ولم ينزعج من هذه الإهانة( الصوفي لا يغضب ولا يضجر) وبعد ذلك أخذ هذا الرجل يثني عليه ويقول له: أنت شخص فذ وكبير، فقد أقدمت على إهانتك ثلاث مرات ولم تتأثر، فقال له الصوفي:(كلا، إن هذه ليست فضيلة، فإنك تمدحني على خلق موجود حتى لدى الكلب، فإنك لو أعطيت الكلب رغيفاً لأقبل عليه، وان منعته يرتد على ادباره) إن هذا الدرويش لم يتأثر من هذه الإهانة، في حين أن ذلك الشخص قد لوث كرامته. ومضافاً إلى كل هذا شبّه نفسه في جواب مدحه بالكلب.
وينقل أيضاً كلاماً عن الجنيد توجد فيه فقرة غير جيدة، وفقرتان جيدتان. يقول: لا يكون العارف عارفاً حتى يكون كالأرض يطؤه البر والفاجر. كسحاب يظل كل شيء (وهذه الفقرة صحيحة طبعاً) وكالمطر يسقي ما ينبت وما لا ينبت. وهذه صحيحة أيضاً. ولكن علينا أن نزن الجملة الأولى: يوجد في الوسائل باب عنوان كراهة الظلم وأن للإنسان الخيار في ماله وعمله ويمكنه حتى تطليق زوجته، ولكن ليس له خيار في كرامته ولا يمكنه أن يقول: لي خيار التنازل عن كرامتي.
كرامة النفس في القرآن والحديث
إن هذا الموضوع( كرامة وعزة النفس) لم يعتنَ به كثيراً أو أهمل كلياً في حين إننا نستنبط منه قواعد الأخلاق الإسلامية، وهو أحد طرق تعريف الإنسان بنفسه وتذكيره بكرامته الذاتية، فيجب أولاً أن نرى هل توجد في التعاليم الإسلامية عبارات تشير إلى عظمة وأهمية النفس أو تعرف الإنسان بنفسه أم لا؟ وان وجدت، فهل هناك تعارض بينها وبين التعاليم الإسلامية التي تنكر النفس أحياناً؟
عزَّة النفس
يعبر في كثير من التعاليم الإسلامية عن حالة الغرور أو الإحساس بالرفعة والشرف بـ"عزة النفس"، وفي مقدمة هذه التعابير قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين﴾ .، ان على المؤمن أن يعلم بأن العزة تنحصر به، وأنه هو الذي يجب أن يكون عزيزاً، وهذا طريق للتعريف بالنفس والتوجه إليها.
وفي الحديث النبوي: "اطلبوا الحوائج بعزّة الأنفس"13 أي لا تذلوا ولا تحقروا أنفسكم أمام الآخرين لطلب حاجتكم، احفظوا عزتكم ولا تقضوا حوائجكم بثمن ذلتكم وذهاب عزتكم. في نهج البلاغة يقول الإمام (عليه السلام) لأصحابه: "فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين"14 يتبين هنا أن للعزة والسيادة والقهر قدراً وقيمة عظمى بحيث لا يمكن أن يتخلى عنها في الحياة، فإن تحققت العزة فلا يهم أن يتحرك جسم الإنسان على هذه الأرض أم لا، وان لم تكن فالحركة والحياة على وجه الأرض موت.
كان شعار سيد الشهداء المعروف في يوم عاشوراء هو: "الموت أولى من ركوب العار"15 ، أي انني أريد العزة فقط، وعبارته الأخرى: "هيهات منا الذلة"16، هي شعار آخر مضافاً إلى شعارات أخرى رفعت في يوم عاشوراء، وقد تلألأت هذه الشعارات في تاريخ عاشوراء، "إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً"17 ، ومن الكلمات التي ذكرت له (عليه السلام): "موت في عزّ خير من حياة في ذل"18 .
وهناك تعبير آخر قريب من المعنى الذي ذكرناه يروى أيضاً عنه (عليه السلام): "الصدق عز والكذب عجز"19، لذلك يجب أن يكون الإنسان صادقاً، لأن الصدق عز للإنسان "وهنا اعتبرت العزة مبنى الصدق" فالذي يكذب هو الضعيف والعاجز، أما القوي فإنه لا يكذب.
الكلمة الثانية من الحكم في نهج البلاغة: "ازرى بنفسه من استشعر الطمع"، أي احتقر نفسه من جعل الطمع شعاراً له، الطمع يذل الإنسان، ومبنى هذا الخلق السيئ هو حقارة النفس "ورضي بالذل من كشف عن ضره"، يكره شرعاً أن يظهر الإنسان ابتلاءاته للآخرين، لأن هذا الأمر يحقر الإنسان ويذله.
جاء رجل إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وشكاه دهره وانني كذا وكذا، حيران وعليّ دين، فاعطاه الإمام مقداراً من المال، قال الرجل: لم يكن قصدي أن آخذ شيئاً، لقد أردت أن أشرح لكم حالي لتدعوا لي عند الله، فقال الإمام (عليه السلام): إنني لم أقل كان قصدك هذا ولكن خذ هذا وانفقه على نفسك، "ولا تخبر الناس بكل ما أنت فيه فتهون عليهم"20. جملة: "ورضي بالذل من كشف عن ضره"، وجملة: "وهانت عليه نفسه من أمّر عليها لسانه"، لها معنى عظيم. وهناك كلمة أخرى في نهج البلاغة هي: "المنية ولا الدنية، والتقلل ولا التوسل"21 ، لماذا يمد الإنسان يده للآخرين؟ أقنع بالقليل ولا أستجدي الآخرين.
ينقل سعدي في كتابه "بوستان" أنه مرّ الإمام علي (عليه السلام) بقصاب، فقال القصاب: عندي لحم جيد، قال الإمام (عليه السلام): ليس لي مال لأشتري الآن، فقال القصاب: سوف أنتظر، قال الإمام (عليه السلام): أقول لبطني أن تصبر وتنتظر.
وهناك حديث آخر للإمام الصادق (عليه السلام) في "تحف العقول" بشأن المعاشرة أيضاً يقول (عليه السلام): "ولا تكن فظاً غليظاً يكره الناس قربك، ولا تكن واهناً يحقرك من عرفك"، وهذا عكس ما ذكرناه سابقاً عن أبن أبي الحديد الذي ينقل عن أحد مشاهير المتصوفة، أنه فرح في ثلاثة مواضع، منها: أننا كنا في السفينة وكانوا يبحثون عن أحمق يسخرون منه ووجدني أنا، لأنني شعرت بأنه لا يوجد أحد أقل منزلة مني في أعينهم، ففرحت كثيراً، هذا خلاف لما يريده الإسلام، ان الاحساس بالتواضع في داخل النفس، شيء غير إظهار الإنسان نفسه حقيراً أو ان يحقر نفسه أمام الآخرين، ينقل في "الوسائل"22 ، أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يقول دائماً: "ليجتمع في قلبك الإفتقار إلى الناس والاستغناء عنهم" لكن هذا الإجتماع ليس في شيء واحد، بل هو بالإضافة إلى شيئين، والإمام يوضح ذلك بقوله: فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن بشرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزك، هنا يجب الاستغناء عن الناس إذا كانت مسألة عرضك وشرفك في البين ولو رأيت انك لو كنت ليناً فقدت عزتك وشرفك وجب عليك أن لا تتعامل مع الآخرين بلين. هناك بعض العبارات تحت عنوان "العلو" كتعبير القرآن: ﴿ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ 23، يطرح هنا مسألة العلو ويدعو إليها.
والتعبير الآخر هو "القوة" وهو إحدى طرق العودة إلى النفس ولكن بطريقة شعور القدرة في النفس، قدمنا حديثاً للإمام الحسين (عليه السلام) وهو: "الصدق عز والكذب عجز"، القوي لا يكذب أبداً، انه يقول: إن على الإنسان أن ينمي في نفسه الشعور بالقوة والعظمة وان الكذب والغيبة وأمثالها من الضعف والعجز، كما يقول الحديث حول الغيبة: "الغيبة جهد العاجز"24 ، فالإنسان القوي لا يسمح لنفسه أن يتحدث على الآخرين في غيابهم.
وجاء في حديث آخر: "ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيع، ترفع نفسك عن منزلة الواهن الضعيف"25 ، أي ان على الإنسان أن يبحث عن رزقه بنفسه. تقوم مسألة البحث عن الرزق والمعيشة من الناحية الأخلاقية على أساس القوة واعتبر اهمال العمل، والكسل من الضعف والعجز.
عظمة النفس
وهذا التعبير يعني أن روح الإنسان شيء نفيس وثمين، وأن الأخلاق الحسنة والفاضلة أمور تناسب هذا الشيء النفيس، والأخلاق الرذيلة تنافيه، وعدم التناسب هذا يحط من قيمتها، هذا التعبير يعطي للإنسان ثروة نفيسة جداً ألا وهي نفسه ويقول له: يجب أن لا تضيع هذه النفس ولا تلوثها لأنها ثمينة ونفيسة.
ان أمير المؤمنين (عليه السلام) يخاطب الإمام الحسن (عليه السلام) في رسالة له في نهج البلاغة: "أكرم نفسك عن كل دنية، فانك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً"، فيجب عدم تضييع هذا الشيء الثمين، الذي يفوق كل ثمن وقيمة، إن الأشياء التي يتعلق بها استقلال الدولة وشرفها تعد فوق كل القيم بالنسبة للأمة، ليس هناك شعب وان كاد يموت من الفقر مستعد لكي يساوم على قيمه أو تراثه، كبعض الآثار العلمية والأدبية وحتى الذوقية الفنية.
ولأمير المؤمنين كلام آخر يقول فيه: "لا دين لمن لا مروءة له"26 ، (وفي الحقيقة ان الدين هو المروءة)، "ولا مروءة لمن لا عقل له، وان أعظم الناس قدراً من لا يرى الدنيا لنفسه خطراً"27 ، ما هي هذه النفس لتكون الدنيا بأكملها رخيصة في نظره وقدره، بحيث لو أعطي الدنيا كلها قبال نفسه فسيرى أن نفسه أفضل من الدنيا وما فيها.
هناك قول للإمام الصادق (عليه السلام) في شعر رباعي وجدته في المجلد الثاني عشر من البحار، الشعر هو للإمام (عليه السلام) حفظت البيت الأول منه: أثار من بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن28.
الغيرة
التعبير الآخر هو "الغيرة" إن بعض الأمور الأخلاقية تكون بمقتضى الغيرة أو عدم اقتضائها، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "قدر الرجل على قدر همته، وشجاعته على قدر أنفته، وعفته على قدر غيرته"29 ، فبقدر شعور الإنسان بالغيرة على شرفه وعرضه فإنه يحترم شرف الآخرين وعرضهم وكرامتهم، أي أن غيرته لا تسمح له بالتعدي على عرض الآخرين، لذا يقول (عليه السلام) في تعبير آخر: "ما زنى غيور قط"30 ، أي أن كل من يزني ويهدم عفة الآخرين لا غيرة له أبداً.
والتعبير الآخر في هذا المجال هو كلمة "الحرية" يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً". وهناك تعابير حول "كرامة النفس" مثل: "من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته"31 ، ويقول الإمام الهادي (عليه السلام): "من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره"32.
هل يوجد تناقض؟
كل هذه التعابير حول شعور الإنسان بقيمة نفسه، ومن جهة أخرى نجد في الإسلام تعاليم أخرى أشهر من هذه، وقد تعد منافية لها، فمثلاً عندما نقول: عزّة النفس، إذاً ما نصنع بالتواضع؟ هل التواضع شيء غير التذلل؟ فلو أردنا أن نحفظ عزة النفس إذاً علينا أن لا نتواضع! فهل عزة النفس ضد التواضع أم لا؟ وكذلك علو النفس، فالقرآن الكريم من جانب يقول: (وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)، وفي مكان آخر يذم علو النفس فيقول: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾33.
كل ما سمعناه لحد الآن كان حول الضعف، يقول سعدي: انا تلك النملة التي تسحق بالأقدام، لا نحلة يصرخ من لدغها... فكيف اُأدي شكر هذه النعمة وهي أنني لا أملك طاقة إيذاء الآخرين.
وأما بشأن النفس النفيسة، فيقال: أليست النفس هي ذلك الشيء الشرير والخبيث التي تشبه بالكلب وكل الأشياء الشريرة؟ إذاً كيف تُعرف هنا بالشيء النفيس والثمين؟ وهكذا العبارات الأخرى من قبيل الحرية، الكرامة وغيرها، ألم يوص الإسلام بجهاد النفس؟ فكيف يجب هنا احترام النفس التي تجب مجاهدتها والنظر إليها كالعدو كما قال الرسول الأكرم: "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك"34، ونجد أن "العجب" مذموم. أليس العجب هو غير عظمة النفس في عين صاحبها؟ وهكذا التكبر، كيف تتناسب هذه التعابير مع ما قيل من قبل؟ هل هناك تناقض أم لا؟
لا يوجد تناقض، لأن للإنسان نفسين، فنفس لو نظر إليها الإنسان لكان ذلك عجباً، وان نظر إليها باكبار كان تكبراً، ولو أرادها هي وحدها كان ذلك غروراً مذموماً، فهذه هي التي تجب مجاهدتها والنظر إليها بوصفها عدواً تجب محاربة أهوائه، أما النفس الأخرى فهي التي يجب تعزيزها وتكريمها واحترامها وحفظ حريتها وقدرتها وقوتها وعدم تلويثها بالضعف، ولكن كيف نوضح هاتين النفسين؟ إن للإنسان "نفسين" وذاتين، فهل معنى ذلك أن له "أنانيتين"؟ لاشك أن لكل شخص "أنا" واحدة لا اثنين، ووصف الإنسان بتعدد الشخصية غير مقبول، هناك مرض يعرف في علم النفس "بازدواج الشخصية" ولكن ذلك المرض في الحقيقة ليس شخصين قد يقال للشخص غير المتعادل وغير المتوازن أنه مصاب بمرض تعدد الشخصية لكنه في الحقيقة لا يملك شخصيات متعددة، ليس للإنسان نفسان في الحقيقة، بل إن للإنسان نفسين، بمعنى أنه يمتلك نفساً حقيقية وواقعية وأخرى مجازية وتسمى لا نفس، ومحاربة النفس في الحقيقة هي محاربة النفس مع اللانفس، إننا نملك نفساً بعنوان نفس شخصية وفردية، فعندما أقول "أنا" سوف أضع نفسي في مقابل "أنانية" الآخرين، أو في الحقيقة أنفي الأنانيات الأخرى: أنا، لا أنتم، فارادة شيء لهذه النفس تعني لهذا الشخص في مقابل بقية الأفراد وأحياناً ضدهم، كلما أصبحت النفس شخصية وفردية ومنفصلة عن بقية الأنفس فهذه الحالة مرتبطة بالأنفس أي مرتبطة بجوانبه البدنية، ولكن للإنسان في باطنه وذاته نفسه حقيقة تعتبر أصل ذاته وهذه الأخرى التي يتصورها "نفساً" هي في الحقيقة "لا نفس"، وهذه هي التي يعبر عنها القرآن الكريم: ﴿فإذا سويته ونفخت فيه من روحي﴾35. وهذه حقيقة ليست من جنس المادة والطبيعة، بل من جنس الملكوت والقدرة، من جنس عالم آخر، فالتوجه لهذه النفس يعني معرفة حقيقة إنسانيته، عندما يتوجه لها الإنسان يراها الحقيقة المحضة، لأن جوهرها هو جوهر الحقيقة وأنها مخالفة للباطل وكل ما هو عدم، إنها تلائم الصدق، لأن الصدق حقيقة، ولأن الكذب عدم ولا حقيقة وبلا معنى وفائدة فهو غير ملائم لها، وهي من سنخ القدرة والملكوت، ولذا فهي لا توافق العجز والضعف، وهي من سنخ العلم فلا توافق الجهل، هي من سنخ النور، فلا توافق الظلام، هي من سنخ الحرية، لأن "أنا" الإنسان الحقيقية حرة وبما أنها من جوهر الحرية والإرادة فهي مخالفة للذلة والعبودية للآخرين أو للشهوات هي من سنخ التجرد وما وراء المادة فهي مخالفة للتلوثات والأوساخ المادية والطبيعية التي تجعل الإنسان أسيراً لها.
لذلك فان التوجه إلى "الأنا" بعنوان فرد يعيش الآن في مقابل بقية الافراد هي التي تحدث الحروب لأجلها أو بقول العارفين "أنا" بعنوان شخص وفرد وجسم، ومن مقتضيات هذا الجسم: الأكل، النوم، الشهوات الجنسية، وكل ما يرتبط بحياة هذا الجسم، نعم التوجه إلى "الأنا" بهذا المعنى مذموم.
والأنا التي يجب أن يسيطر عليها وينظر إليها بعين العدو كي لا تسلب اختيار الإنسان، وبعين الخادم الذي لا يغفل عنه سيده، هي "الأنا" التي تقف في مقابل بقية الأفراد، أما تلك "الأنا" التي ذكرت بمعنى عزة النفس، قوة النفس، كرامة النفس، شرف النفس، وحرية النفس، فليس فيها أنا ونحن، هي ذلك الجوهر القدسي الإلهي الذي يوجد عند كل إنسان، كل فرد لو يراجع ذاته وباطن نفسه يرى سلسلة من الصفات التي تتناسب معه وأخرى دون شأنه، وهي صفات الشر والحقارة، فكما لو رميت لوحة في الأوساخ تشعر بأن هذا المكان دون شأنها، فالأنا عندما ترى نفسها ملوثة تشعر بأن هذه التلوث غير لائق بها فتلك "الأنا" هي المعنى الواقع في مقابل المعاني، وهذه "الأنا" هي فرد واحد وتقع في مقابل بقية الأفراد.
إذاً لا يوجد تضاد بين هذين التعبيرين فمن جانب أمرنا بجهاد النفس وتزكية النفس: "واجعل نفسك عدواً تجاهده"36 "إن المؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا ونفسه ظنون عنده"37 ومن جانب آخر يقال: اعرف نفسك واحترمها، واكرمها واعزها، واحفظ عزّتها وشرفها وكرامتها وحريتها، هذه جوهر الإنسانية وهي حقيقة، ويوجد هذا النور الإلهي في كل إنسان ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) فهي من عالم أفضل من هذا العالم، إذاً لا يوجد ارتباط بين الإثنين.
*التربية والتعليم في الاسلام،الشيخ مرتضى مطهري،دار الهادي، بيروت لبنان ،ط4 1426هـ -2005م، ص119-143.
1- طه:14
2- العنكبوت: 45.
3- البقرة: 115.
4- آل عمران: 96 - 97.
5- اُصول الكافي، ج1.
6- صحيح البخاري، ج1.
7- الحكمة رقم: 44.
8- تحف العقول.
9-الحكمة رقم: 44.
10- نهج البلاغة، الرسالة رقم: 31 الجزء 45.
11- كان إبراهيم الأدهم أميراً، ثم تاب وصار صوفياً.
12- طبعاً أنه يقولها من ناحية خلقية.
13- نهج الفصاحة، حديث 325، ص64.
14- نهج البلاغة، الخطبة: 51.
15- بحار الأنوار، ج78، ص128.
16- مقتل الخوارزمي، ج2، ص6.
17- اللهوف، ص69.
18- بحار الأنوار، ج44، ص192 الطبعة الجديدة.
19- تاريخ اليعقوبي، ج2، ص246.
20- بحار الأنوار، ج47، ص34.
21- الحكمة، 369.
22- ج2، ص203.
23- آل عمران: 139.
24- نهج البلاغة الحكمة، 453.
25- الوسائل، ج12، ص30.
26- تحف العقول، ص410.
27- بحار الأنوار، ج45، ص25.
28- نهج البلاغة، الحكمة: 44.
29- نهج البلاغة، الحكمة: 297.
30- نهج البلاغة، ص441.
31- تحف العقول، ص512.
32- المحجة البيضاء، ج5، ص6.
33- القصص: 83.
34- الوسائل، ج11، ص123.
35- الحجر: 29.
36-نهج البلاغة، الخطبة 176
37-نهج البلاغة، الخطبة 176