حول الفضائل العملية
فلسفة الأخلاق
ليس العلم وقفاً على من يحمل الشهادات، فقد يكون الإنسان عالماً بيده لا بمدرسته وكتابه، مثل الرجل يقضي حياته كلها في الحقل أو في المصنع، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومع هذا يعرف من مهنته الخاصة أكثر من الذين تخصصوا بها، وأمضوا العديد من السنوات في المدرسة والكلية...
عدد الزوار: 276
عالم بلا درس ومسلم بلا اسلام
ليس العلم وقفاً على من يحمل الشهادات، فقد يكون الإنسان عالماً بيده لا بمدرسته وكتابه، مثل الرجل يقضي حياته كلها في الحقل أو في المصنع، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، ومع هذا يعرف من مهنته الخاصة أكثر من الذين تخصصوا بها، وأمضوا العديد من السنوات في المدرسة والكلية، وأيضاً ليس عمل الخير والفضيلة مقتصراً على من قرأ الأخلاق أو تخصص بعلمه، فمن الممكن أن يكون المرء فاضلاً في أخلاقه دون أن يستطيع تعريف الفضيلة كما قيل.
وقال الشيخ محمد عبده ما لفظه أو معناه: قد يوجد مسلمون في غير بلاد الإسلام، ولا يوجد مسلمون في بلاد الإسلام. يريد أن بعض الناس قد لا يتخذ الإسلام ديناً، ومع ذلك يتخلق بأخلاقه، وآخر قد ينتمي إلى الإسلام، ولكنه أبعد الناس عنه. قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: رُب عالم قد قتله جهله، وعلمه معه لا ينفعه.
فالعلم بلا عمل الجهلُ خير منه، والمعرفة بالمباشرة والممارسة تدخل في العلم العملي أو التطبيقي أو (التكنيك) بالتعبير الدارج، ويعتمد هذا العلم على الظواهر الجزئية والمشاهد الحسية، ويتخذ منها مجالاً للدراسة والاختبارات، ويصوغ من نتائجها أحكاماً وقضايا مستمدة من الحس والتجربة، ويعتمد العلم النظري على التفكير والتأمل، وقضاياه حدسية لأنها تدور في عقل الباحث، ولا تستند إلى أذن أو عين، وقد تتجاوز هذه القضايا حدود الفكر والكلام إلى عالم التجربة والامتحان، فان وجدت في العمل والتطبيق البرهان على صدقها اتحد النظر والعمل، وكانت القضية ذات وجهين: نظرية لأن مصدرها الأول الفكر، وأيضاً عملية لمكان التوافق والتطابق بين النظر والعمل، بين التصور والواقع، وبكلمة: العلم العملي ينطلق من الجزئيات والعلم النظري ينطلق من الكليات.
والأخلاق النظرية، هي من هذا النوع، لأنها الأصل والمدرك للأخلاق العملية التي .. فالصلة بينهما صلة النتيجة بمقدماتها، والمدلول بدليله. وقد يظن أن المراد بالأخلاق العملية هنا تقييم العمل والسلوك الموجود بالفعل والحكم عليه بعد حدوثه، وليس هذا بمراد، وإنما المراد بالأخلاق العملية، الأحكام الفرعية التي تتعلق بالعمل مثل افعل، ولا تفعل. فهي عملية لأن موضوعها نفس العمل، وأيضاً يسوغ أن نطلق عليها كلمة (نظرية) من حيث انها مجرد تشريع وانشاء.
وموضوع الأخلاق النظرية عمل أيضاً، ولكنه كلي العمل وماهيته العامة الشاملة التي لا وجود لها إلا في عالم المعنى والاعتبار، أما موضوع الأخلاق العملية فهو العمل الشخصي الخارجي. وإذا تشخصت الماهية الكلية في فرد من أفرادها الخارجية تصير جزئية بهذا اللحاظ.
علم الأخلاق محك الخطأ والصواب
علم الأخلاق مستقل في ذاته ومباحثه وكتبه ورجاله، وإذا كان الوحي من مصادره عند المؤمنين بالله واليوم الآخر فليس معنى هذا أن علم الأخلاق غير مستقل، أو أنه ديني بحت، فان الله سبحانه يأمر بعلم الطب والهندسة والزراعة والصناعة، وكل ما يمتّ إلى الحياة بسبب تماماً كما أمر بالنواميس الطبيعية أن تكون.
وأيضاً علم الأخلاق خاصة العملي منه يقاس به غيره، ولا يقاس هو بغيره، ومن هنا كان من العلوم المعيارية. مثلاً الأديان كثيرة ومتباينة، وكل دين ينقسم إلى فرق ومذاهب، والقوانين والأنظمة الوضعية بلغت الغاية والنهاية في التناقض والتنافر، أما الآراء والفلسفات والتقاليد والعادات فلا حصر لها ولا عد.. (كل حزب بما لديهم فرحون).
ومن يلتمس الحق والهداية يقف أمام هذا التناقض ذاهلاً حائراً، لا يدري أيها أحق بأن يُسمع ويتبع؟.
ولكن علم الأخلاق العملي هو محك الخطأ والصواب لأنه يهدي إلى محاسن كل دين أو قول أو عمل ومنافعه، ويكشف عن مآخذه ومساوئه، ولأن المفروض في كل دين أو فلسفة أو نظام أن يقوم على مبادئ إنسانية وفضائل عملية كالحرية والعدالة وصيانة النظام والأمن العام.. إلى كل ما لا بد منه ولا غنى عنه لبناء حياة إنسانية أخلاقية للناس أجمعين بلا فضل وامتياز في جنس ولون، أو منصب ونسب، أو جاه وثراء، أو في أي شيء إلا بما يقدمه الإنسان لخدمة أخيه الإنسان.
وقد حرص الإسلام كل الحرص على هذا المعيار والمحك، قال سبحانه: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾1. وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: خير الناس أنفع الناس للناس، وشر الناس من تخاف الناس من شره، أو تتقي شره.
وبعد، فهل من أحد يجرأ أن يضع مادة واحدة لا قانوناً ونظاماً كاملاً ـ يضر بمصلحة الإنسان، ويناقض العدالة مباشرة وبصراحة؟ وإذا اجترأ وفعل فهل يسلم من عواقب الاغتصاب والاستغلال ومصير التزوير والاحتيال؟
صحيفة الأخلاق العملية
ذكر المؤلفون القدامى وبعض الجدد في كتبهم الأخلاقي ـ الوضوء والغسل والتيمم والصوم والصلاة والحج والزكاة وغير ذلك من مسائل علم الفقه.. وما من شك أن العبادة ـ من حيث هي ـ خير وفضيلة، بل نحن على يقين بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، شريطة أن يكون المرء عبداً لله حقاً وواقعاً، وعلى نية الطاعة الصادقة في جميع أحكامه وحلاله وحرامه، وليس عبداً لأهوائه في كل شيء إلا في الصلاة والصيام والحج إلى بيت الله الحرام.
قال الإمام الباقر عليه السلام: "ان لله عباداً ميامين مياسير يعيشون ويعيش الناس في أكنافهم وهم في عباده مثل القطر، ولله عباداً ملاعين مناكيد لا يعيشون ولا يعيش الناس في أكنافهم وهم في عباده بمنزلة الجراد لا يقعون على شيء إلا أتوا عليه".
وليس المراد بعيش الناس هنا أن الغني يتصدق على الجياع والعراة وكفى، بل المراد أن الميامين عند الله هم الذين يجاهدون ويعملون لحياة أعظم لكل الناس في كل زمان ومكان، والدليل على إرادة هذا المعنى قول الإمام: (هو مثل القطر) الذي به يحيا جميع العباد وكل البلاد، وينبت الزرع ويدر الضرع، وتحمل الأشجار وترخص الأسعار، أما أعداء الله والإنسانية الذين لا يطيب لهم العيش إلا من دماء خلق الله وأقوات أهل الأرض، فهم تماماً كالجراد الذي يأتي على الأخضر واليابس، لا يبقي شيئاً من هذا، ولا يذر لذاك أي أثر.
وأيضاً تحدث القدامى في كتب الأخلاق عن الحلواء والفاكهة، واللحية والشارب والعانة والأظافر والتكحل والتدهن والخف والنعل والعمائم والقلانس(1) ولا بأس إن كان الغرض من ذلك الحث على النظافة لأنها من الإيمان، وهو الأساس للخلق الكريم، ولكن لكل زمان دولة ورجال كما قال الأولون. وفي سفينة البحار عن الإمام الصادق عليه السلام "إن خير لباس كل زمان لباس أهله" واشتهر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "لا تكرهوا أولادكم على أخلاقكم فانهم خلقوا لزمان غير زمانكم".
الفقر رذيلة لا فضيلة
وأطال بعضهم الحديث عن فضائل الجوع وفوائده، ومنها أنه صفاء للقلب، ونور للذهن!. ونحن لا نشك في أن للجائع أجراً عند الله وفضلاً، ولكن ذهنه وعقله في شغل شاغل بمعدته، أما قلبه فيحوم حول الموائد والولائم الفاخرة التي يمدها أهل المال والثراء.
وكان الأجدر والأليق بالدعاة إلى الدين والأخلاق أن يتحدثوا عن رذيلة الفقر وما يترتب عليها من أسواء وأدواء كالكذب والنفاق، والبغاء والرياء، والحقد والحسد، والغيبة والسرقة، والذل والهوان، والجهل والمرض.. إلى غير ذلك من القبائح والرذائل. واشتهر في أيامنا أن أمهات الرذائل وجذورها ثلاث: (الفقر والمرض والجهل) ولكن كلمة الفقر بمجردها تدل على الجهل والمرض، ويغني ذكره عن التصريح بهما، لأن الفقر من حيث هو ينطوي على العديد من الرذائل، منها الجهل والمرض وأيضاً الكفر والإلحاد.
ومن هنا قال نبي الأخلاق والخلائق بلسانه ولسان آله صلى الله عليه وآله وسلم كما في نهج البلاغة وسفينة البحار وغيرهما: "كاد الفقر يكون كفراً.. الفقر سواد الوجه في الدنيا والآخرة.. المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف (لأن قوته عدة ودعامة للدين والإيمان).. الفقر يخرس الفطن عن حجته.. الفقر الموت الأكبر.. الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن.. الفقر مدهشة للعقل، ومنقصة للدين، وداعية للمقت". ولا شيء وراء ذلك إلا الانتحار، وقد فعله العديد من المشردين والجائعين.
ولم يكتف الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بالإشارة إلى ما للفقر من أسواء حتى ذكر منبعه ومصدره حيث قال: "ما جاع فقير إلا بما مُتع به غني" أي أن الذين يجمعون الأموال لا لسد الحاجة وقضائها، بل ليضاهوا ويباهوا بالرفاهية والتكاثر، هم الذين سلبوا لقمة الجائع، وسرقوا ثوب العاري، واغتصبوا مأوى المشرد.. ان الهدف من الأول العمل والسعي ومن المال والإنتاج هو أن يكون كل واحد من سكان هذا الكوكب في المستوى اللائق بحياة الإنسان وحرمته وكرامته.
ولا أدري كيف نسي هذه الحقيقة من تحدث عن فضل الفقر وفضيلته، وهو يثق بعلمه، بل ويرى نفسه أفضل من أنبياء بني إسرائيل لأنه أعرف منهم بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وسنته؟ كيف نسي هذه الحقيقة، وحفظ روايات في فوائد الفقر ومنافعه؟ وأعجب من ذا وأغرب أن نهتم ونهضم مثل هذه الأوهام والأخطاء ونذهل عن أثرها وخطرها،
ونحن نعيش في العصر الذي هدم أو زعزع العديد من المفاهيم التقليدية؟ وإذا عذرنا الأولين فما هو عذرنا، ونحن نتلوا كتاب الله وقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا﴾2.
الحكمة ضالة المؤمن
هذا مثال من كتاب في الأخلاق مسطور ومنشور، بل ومقروء أيضاً في بعض البيئات.. وما أشرنا اليه بقصد أن نزري بكاتبه، بل ليعلم القارئ أن الذين كتبوا في الأخلاق في زمن بائد قد تأثروا بالمجتمع الذي عاشوا فيه والثقافة السائدة آنذاك.. ولو كنا في عهدهم لكتبنا مثل ما كتبوا، أما الآن وقد تغير كل شيء فعلينا أن نساير عصرنا تماماً كما فعل وساير الأولون.
على أننا نحاول جاهدين أن نعرض في الصفحات الآتية ما يضمن لكل الأفراد حقوقهم التي لا يسوغ أن ينكرها عاقل على وجه الأرض، وفضائل إنسانية بحتة ينبغي أن يتحلى بها كل البشر على السواء في كل زمان ومكان مهما اختلفت طبقاتهم وأديانهم وطباعهم وأذوافهم.
وقد نجد ضالتنا هذه في فصل من كتاب أو مقال في صحيفة، فنلخصه أو نقتطف منه أو نقلم أو نطعم أو نعلق عليه أو نستخرج منه العظة إن تك خفية غامضة، كل ذلك مع الإشارة إلى المصدر وبعد الإيمان والإيقان بأن القارئ يرتاح لما اخترنا له، وينتفع به، ويدعوه إلى التفكير والتأمل. وسلام على من قال: "خذ الحكمة أنّى كانت".
أقسام الأخلاق العملية
كل حق أو واجب عملي، يدخل في الأخلاق العملية، والمعنيان متلازمان، لأن ما من إنسان إلا وعليه مثل الذي له، وأكثر القدامى أو الكثير منهم قسموا الواجب إلى ثلاثة أقسام: (1) واجب الإنسان نحو خالقه (2) واجبه نحو نفسه (3) واجبه نحو مجتمعه.
وفي آخر كتاب دستور الأخلاق في القرآن لمؤلفه الدكتور دراز قسم الأخلاق العملية إلى خمسة أقسام، وخصص لكل قسم فصلاً مستقلاً سرد فيه وعدد عناوين بلا معنونات وموضوعات بلا محمولات سوى آية أو آيتين مع الموضوع كدليل على مصدره ومدركه من غير شرح أو تعليق.
وفيما يلي نشير إلى هذه الأقسام بايجاز على ترتيب دراز وتبويبه:
1- الأخلاق الفردية، ومنها الاستقامة والعفة وكظم الغيظ والصدق والتواضع والبخل والإسراف، وما أشبه.
2- الأخلاق الأسرية كواجب الآباء والأبناء والزوجة وسائر الأقارب والأرحام.
3- الأخلاق الاجتماعية كحرمة القتل والغش والظلم، ووجوب الوفاء بالأمانة والعهد، واستحباب البر والاحسان والعفو والكرم، وأيضاً ذكر في هذا القسم كلمة (نشر العلم) مقرونة بآيتين الآية 67 من المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ والآية 11 من الضحى: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾. وكأنه يفسر السائل بما يشمل المتعلم، والنعمة بما تعم العلم.
ولا نقاش في التفسير الأول، أما التفسير الثاني فلنا فيه نظر لأن سياق الآيات بالكامل يدل على أن المراد بالتحدث هنا شكر الله سبحانه الذي آوى بعد اليتم، وهدى بعد الحيرة، وأغنى بعد العيلة.. وإن قال قائل: الهدى علم. قلنا في جوابه: أجل، ولكن المقصود هنا مجرد الشكر على العلم لا نشره الذي هو محل الكلام.. اللهم إلا أن يقال: إن نشر العلم بذاته من أجلى مظاهر الشكر.
4ـ أخلاق الدولة كالعلاقة بين الرئيس والشعب، وامضاء القرار النهائي، واستدل عليه المؤلف بقوله تعالى: ﴿َإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ﴾3.
ويلاحظ أن هذه الآية نزلت في شئون الحرب، وعلى فرض العموم فأية ملازمة بين تنفيذ العزم وكتابة القرار وامضائه؟ فقد يمضي المرء على عزمه دون ان يكتب ويوقع.
وذكر المؤلف في هذا القسم العدالة والحرية والمساواة، وإقرار النظام صون الأموال والتشاور والدفاع ومساعدة المستضعفين ووحدة الكلمة وعدم الاستسلام والرقابة والوفاء بالعهد الخ.
5- الأخلاق الدينية، وفي رأسها طاعة الله وشكره على أنعمه، ثم التوكل عليه، والخوف من سطوته والأمل برحمته، والتوبة من الذنب، وعدم الإكثار من الحلف.
ونحن لا نلتزم بما قاله درّاز أو بغيره من القدامى أو الجدد، ونحاول أن نستمد حديثنا عن الأخلاق العملية من الحقوق الطبيعية التي يصبو اليها كل فرد ومجتمع، ولا ينكرها عاقل منصف، وأيضاً نستمد حديثنا من الفضائل الإنسانية البديهية ....
* فلسفة الأخلاق في الإسلام،الشيخ محمد جواد مغنية،دار التيار الجديد،بيروت لبنان،ط5 - 1412هـ - 1992م،ص149 - 158.
2- المائدة: 104
3- آل عمران: 159 2010-03-05