يتم التحميل...

لا أخلاق بلا حرية

فلسفة الأخلاق

ان مصادر الإلزام الأخلاقي هي الوحي والعقل والضمير، وكل هذه المصادر والبصائر تقرر حرية الإنسان وتؤكدها، لأن أفعاله لن تكون أخلاقية إلا إذا انبثقت من أعماقه، وكانت ثمرة يانعة لنيته وإرادته بلا تكلف والتواء وتصنع ورياء، ولولا الحرية لم يكن للإنسانية عين ولا أثر...

عدد الزوار: 205

... ان مصادر الإلزام الأخلاقي هي الوحي والعقل والضمير، وكل هذه المصادر والبصائر تقرر حرية الإنسان وتؤكدها، لأن أفعاله لن تكون أخلاقية إلا إذا انبثقت من أعماقه، وكانت ثمرة يانعة لنيته وإرادته بلا تكلف والتواء وتصنع ورياء، ولولا الحرية لم يكن للإنسانية عين ولا أثر.

ثم إن الحرية ليست ملكة موروثة عن الآباء والأجداد، ولا صفة مكتسبة من التربية والبيئة، ولا هي ثمرة من ثمرات التطور التاريخي كما يقول الماركسيون، وإنما هي صفة ذاتية للإنسان لا يمكنه التحرر منها، وان حاول واجتهد، وبالقدرة والحرية يسوغ الإلزام والتكليف، قال سبحانه: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا1.

ويرى بعض الباحثين أن أية عقيدة يدين بها الإنسان أو أية سيئة يقترفها متأثراً بالوسط الذي يعيش فيه وتبعاً لتقاليد المجتمع وعاداته ـ فهي مقدرّة عليه وغير مقدورة له لأنها من صنع المجتمع وهو الذي فرضها عليه لأن الفرد جزء من مجتمعه وبيئته التي نشأ فيها، وهذه السيئة الاجتماعية صارت بمرور الزمن نظاماً عاماً وطبيعة ثانية ثابتة لأفراد المجتمع.

والحق التفصيل بين فرد وفرد: فإن كان من الذين يملكون الوعي والاستعداد، وقد التفت وشكّ فيما عليه أهله ومجتمعه ـ فعليه أن يبحث بحثاً جاداً عن الحق والحقيقة، ويسأل من يثق به من أهل الفكر والعلم، ويعمل بعد اليأس وافراغ الوسع بما انتهى إليه من بحثه وسؤاله، فإن أهمل ومضى على سنة الآخرين: إما تعصباً وإما لأنه لا يريد أن يكتشف خطاً آمن بصحته عشرات السنين وإما لأنه إباحي متهرطق فالحق والباطل عنده بمنزلة سواء، إن كان شيء من ذلك استحق التوبيخ والعقاب إن جانب الواقع والصواب في عقيدة أو عمل.. وفقهاء الإسلام يسمون هذا مقصراً لأنه أهمل البحث والفحص ومسيئاً إلى نفسه لأنه ألقاها بالتهلكة عن قصد وعمد.

وان كان عاجزاً لا يملك الاستعداد والوعي، أو لم يلتفت ويشك في صحة ما يتجه إليه ويعتقد به لأنه منذ البداية آمن به إيمان العجائز ـ فهو معذور وغير مسئول تماماً كالحيوان من حيث العجز والقصور، ولذا يسميه الفقهاء بالقاصر والعاجز.

والذي رأيناه بالحس والعيان أن أكثر الذين يملكون الاستعداد يرفضون في مكابرة وعناد الأدلة المعارضة لأفكارهم حتى ولو كانت من المسلمات الأولية التي تثبت نفسها بنفسها.. ومنهم من يعارض الفكرة قبل أن يطلع على مدركها ويستمع إلى دليلها من علمائها والمؤمنين بها! ولا عذر لهؤلاء وشفيع.

لا شيء فوق الإنسان إلى خالق الإنسان:

وبعد، فمن الصعب العسير أن نحدد هوية الإنسان بعقائد مجتمعه، ونسجن مواهبه في زنزانة بيئته، كيف؟ ولا معنى لهذا إلا الإلغاء لوجوده وشخصيته، وجعله ريشة في مهب الريح أو كرة تتقاذفها الأقدام، وإلا النفي والجحود بالعبقريات والعباقرة الذين سبقوا زمانهم ومجتمعهم مئات السنين، وأضاءوا الطريق للحضارة، ومهدوا لحياة مثلى، ومن هنا قيل في الإنسان: "ليس فوقه إلا خالقه.. وهو يضاهي السبع الشداد.. وفيه انطوى العالم الأكبر".

حتى الأفراد العاديين يستطيعون الرفض والمعارضة والثورة والمعاكسة. فمنذ سنوات قليلة ثار الشباب في الغرب، وتمردوا على المجتمع والسلطة مطالبين بتغيير الأوضاع التي تسحق المستضعفين، ورفعوا شعار الرفض بكلمة (ممنوع المنع) وكان لثورتهم أبلغ الأثر في كل الأوساط.. أليس معنى هذا أن لكل إنسان حرية وكرامة تفعل فعلها وتؤثر أثرها، وأنه لا أحد يستطيع أن يسلبه اياها إلا أن يتنازل هو عنها بإرادته وسوء اختياره؟.

وقال، عز من قائل: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ2... ـ ﴿وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ3.. ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ4. والمفهوم من هذه الآية الكريمة أن على العاقل أن يناقش عقائد الأسرة والمجتمع، ولا يخضع لما يعتقدون ويفعلون إلا بهدي من العقل، وإن أذعن واستسلم بلا بحث وفحص فقد تخلى عن عقله وأساء إلى نفسه.

وقال سبحانه حكاية عن أهل الجحيم: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ5 . وهذه الآية من أوضح الأدلة على أنه يجب على الإنسان أن يستعمل عقله فيما يمر به، ويحتكم اليه فيما يعرض له، ومن أهمل وتكاسل فهو في الدرك الأسفل من النار.

والخلاصة أن أثر المجتمع والأسرة والبيئة مهما بلغ من القوة فانه لا يبلغ حد القهر والإلجاء، ولا يزيد عن أثر الجنس وغريزته وحب المال وشهوته، وقد رأينا العديد من الناس يتغلبون على هذين إذا كان في المال والجنس ضرر أو إثم، وكذلك أيضاً يمكن التغلب على ضغط المجتمع وتقاليده إن كانت ضلالاً وفساداً.

*فلسفة الأخلاق في الإسلام،الشيخ محمد جواد مغنية،دار التيار الجديد،بيروت لبنان،ط5ـ1412هـ ـ1992م،ص75ـ78.


1- البقرة:286
2- الأعراف :176
3-ص: 26
4-البقرة: 170
5-الملك: 10
2010-03-09