يتم التحميل...

الإلزام الخلقي بين الإلزام والالتزام

فلسفة الأخلاق

الفرق بين الالزام والالتزام أن الإلزام يكون من سلطة عليا تأمر وتنهى، ولا رادّ لأمرها ونهيها لأنه حق وعدل، وهي أيضاً تمدح وتوبخ، تراقب وتحاسب المنحرفين في سلوكهم عن الصراع القويم، أما الالتزام فهو التقيد والتعبد بهذا الواجب والإلزام حتى ولو خالف ميول الملتزم وتقاليد أهله ومجتمعه...

عدد الزوار: 80

الفرق بين الالزام والالتزام أن الإلزام يكون من سلطة عليا تأمر وتنهى، ولا رادّ لأمرها ونهيها لأنه حق وعدل، وهي أيضاً تمدح وتوبخ، تراقب وتحاسب المنحرفين في سلوكهم عن الصراع القويم، أما الالتزام فهو التقيد والتعبد بهذا الواجب والإلزام حتى ولو خالف ميول الملتزم وتقاليد أهله ومجتمعه، وبكلمة أن الالتزام يشبه إلى حد بعيد السير على قضبان من حديد تُعين للملتزم الطريق الذي يسير عليه تماماً كسير القطار، ومن الإلزام والالتزام يتألف مفهوم النظام، ومن تمرد على الإلزام والواجب فقد خرج عن النظام العادل.

ولا غنى عن مبدأ الإلزام والالتزام لأية أسرة أو جماعة تعيش حياة مشتركة، فهو العهد والميثاق الذي يضمن بقاءها، ويصونها من الفوضى والانحلال، بل هو الأساس الاول للأديان والشرائع والقوانين والمذاهب الأخلاقية وغير الأخلاقية. وقرأت في الصحف من جملة ما قرأت، كلمة تغني عن كتاب في هذا الباب، وهي: "الشر كل الشر ينبع من اللامبالاة والسلبية، والتخلي عن التبعة، والشعور بالمسؤولية. ان جحود الإلزام والالتزام قضاء على وجود الإنسان، بل هو بمثابة الجحود لأصل الوجود".

والسر الأول والأخير لذلك أن الحياة المشتركة لن تستقيم بحال إلا إذا عاش جميع أفرادها على مستوى واحد في الحقوق والواجبات وإلا اختفى النظام، وشاعت الفوضى والاضطراب والانحلال، وسادت شريعة الغاب والفساد والضلال.

وايضاً قرأت في بعض الصحف أن لصوصاً سطوا واغتنموا، وعند القسمة أجحف رئيسهم واستأثر، فثاروا عليه وطالبوه بالالتزام بالحق والعدل في قسمة الحرام!.. وان دل هذا التناقض على شيء فانه يدل أن واجب الحق والالتزام به يحمل طابع فطرة الله التي فطر الناس عليها، كل الناس، حتى المعتدين على ما هو الحق والعدل وإلا فبأي شيء نفسر مطالبة اللصوص بقسمة الحرام بالعدل؟. ثم هل من أحد يقبل عن رضا وطيب نفس أن يوصم باللصوصية والخيانة؟ اللهم إلا أن يكون وحشاً ضارياً في جسم إنسان.

بين العقل والوجدان
الدين ـ من حيث هو ـ انقياد والتزام باشياء مفروضة من سلطة عليا، والعقل النظري انتقالٌ من معلوم إلى مجهول، ومن شاهد إلى غائب، أما الضمير الحيّ فهو أن تحب الخير والفضيلة من حيث هما أي حتى من عدوك، وأن تكره الشر والرذيلة حتى من نفسك، وأن تشارك الناس في مشاعرهم وآلامهم، فيخفق قلبك لكل مظلوم وبائس في شرق الأرض وغربها على أن ينبغ هذا الشعور من اعماقك لا من خطبة حماسية أو في غمرة جماهيرية. وبكلمة أن الضمير الخالص

نور فطري يريك الحقيقة مباشرة بلا أقيسة ومقدمات. وكثيراً ما تطلق على الضمير والوجدان كلمة الذات الخلقية والأخلاق الإنسانية أو الأدبية، وقانون القلب وما أشبه.

ولا يعيش الضمير في عزلة عن العقل، بل هناك تشابك عضوي بينهما ولونٌ من الوحدة والاتساق، وبهما معاً تكمل وتتم شخصية الإنسان ويمتاز عن الحيوان وسائر المخلوقات. أجل قد يخفق قلب الحيوان بالعاطفة كالأنثى تحافظ على وليدها، ولكن الحيوان يقف عند هذا الحد، ولا يتجاوزه إلى التراحم والتعاون والمحبة والتسامح، وما إلى ذلك من المثالية والمشاركة الوجدانية.. وإذا كان الإنسان اجتماعياً بالطبع فهو مضطر لأن يكون غيرياً بالطبع لأن المفهوم الاجتماعي لا ينفصل عن الغيرية بحال.

ومما لا شك فيه أن الناس على مستويات مختلفة في العقل ودرجات متفاوتة، ومثله تماماً الوجدان، ويتفاوت بين إنسان وإنسان: هذا يرى الحب والأخوة والعدل والمساواة خيراً وأفضل ما في الوجود، وذاك لا يعرف من الحب والعدل إلا بمقدار ما يتصل بنفسه وذويه، وثالث يحقد على الإنسانية جمعاء، وينبح على كل فاضل وكامل!. وينشأ هذا الحقد والعواء ـ في الغالب ـ عند العاجز عن مواجهة الحياة. وإلى هذه الحقيقة أومأ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "العجز آفة.. الغيبة جهد العاجز".

مصدر الإلزام
وبعد التمهيد بما تقدم نشير أن العنصر الأول والأساس من العناصر الخمسة للخير والفضيلة هو الواجب والإلزام بالمعنى الذي أوضحناه في فقرة بين الالزام والالتزام، أما المصدر الذي يشتق منه هذا الإلزام فهو عبارة عن منظومة من نداءات ثلاثة: نداء العقل الخالص الكلي الذي لا يُنسب إلى أي فرد كان أو أية جماعة تكون لأن هذا العقل يتلون ويتأثر بما يحيط به والمراد العقل الكلي كما خلقه الله، وخاطبه بقوله: ما خلقت خلقاً أشرف منك، نداء الفطرة النقية، نداء الوحي الإلهي، فالعقل المتحرر من كل ضغط وقيد يميز بين الخير والشر، ويوجه إلى الإنسان أوامره بأن يفعل أو لا يفعل، والفطرة الإنسانية بما هي وكما خلقها الله سبحانه تحب الخير وتأمر به، وتكره الشر وتنهى عنه، وكثيراً ما يعبر عنها بالضمير الوازع الذي يردع الإنسان عن ممارسة السوء، وبأسلوب آخر أن الفطرة هي التي تصدر عنها ميول إنسانية محض منزهة عن كل شائبة ومنفعة ومجردة عن كل تأثير وتقليد بحيث لا يمكن تعليل هذه الميول إلا بالوجدان الخالص والفطرة الصافية، ومثاله أن يسمع الإنسان كلاماً فيتجاوب معه بقلبه ونفسه وعقله.

أما دين الله القيم فأحكامه وبيانه لطف ورفق بعباده، وتأييد وتسديد لمنطق العقل ومحكمة الضمير، ومعنى هذا أنه بحكم العقل والضمير يُستدل على حكم الوحي، وبحكم الوحي يستدل على حكم العقل والضمير.

وكل هذه القوى الهادية الكامنة في داخل الإنسان من العقل والضمير والإيمان تزيد من احساسه بالخير والعدل وشتى انواع الفضيلة، وتنمي فيه روح الاستقامة على النهج القويم، وتدفع به إلى العمل لدُنياً أفضل حتى كأنه يعيش أبداً ولآخرة أكمل كأنه يموت غداً.

وبعد، فان تركيز الواجب الإلهي الإنساني والإلزام الأدبي الخلقي على هذه الأثافي الثلاث نداء الله والعقل والضمير1 هو تمكين وتأصيل لحياة وادعة عادلة ومعيشة راضية عالية دنيا وآخرة.. ولا أدري هل عرفت الإنسانية ديناً أو شرعاً أو نظاماً ـ غير الإسلام ـ جمع بين هذه الدعائم الثلاث كأصل وأساس لكل قاعدة أخلاقية وحكمة واعظة نافعة؟. ومن المؤلم والمؤسف أن يجهل الكثير منا هذا الجانب من عظمة الإسلام في منهجه وشريعته وشتى تعاليمه.

ولو أن جماعة من أهل الفكر والاختصاص قارنوا بين ما عليه المسلمون اليوم وبين جوهر الاسلام وأهدافه ـ لنصحوا وقرروا أن نعتنق الإسلام من جديد.. وكفى دليلاً على هذه الحقيقة قوله تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ2  وقوله: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ3 . ومن المعلوم بالعيان والبديهة أنه لا عز ولا نصر اليوم للمسلمين في أية بقعة من هذا الكوكب، ولو كانوا مؤمنين حقاً وصدقاً لوفى سبحانه بعهده ووعده تماماً كما فعل من قبل مع الذين آمنوا وعملوا الصالحات: ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ4.

الإلزام وسيلة لا غاية
ولا بد من الإشارة إلى أن نظرية الإلزام هي معيار مطلق يعم ويشمل الالزام بكل خير دون استثناء، ويخاطب جميع الناس في كل زمان ومكان، وعليه فمن يفعل الخير لوجه الخير بفطرته دون أن يتنبه إلى هذا الالزام ـ فقد أدى إليه طاعته، لأن الإلزام هنا وسيلة للعمل وليس غاية في نفسه. وتوصلي لا تعبدي على حد قول الفقهاء وعلماء الأصول. وبكلام آخر أن الإلزام قانون، ومن شأن القانون أن يضع القيود، ويرسم الحدود، فإذا التزم الإنسان تلقائياً بكل حد وقيد مع جهله أو غفلته عن القانون، فقد خرج عن العهدة والمسئولية، بل هو الأفضل والأكمل لأنه قد وضع القيود والحدود بنفسه لنفسه.

الإلزام الخلقي قانون طبيعي
.... ونشير هنا أولاً إلى التفرقة بين المراد بكلمة القوانين الطبيعية المادية وبين المراد بكلمة القانون الطبيعي بصورة عامة، ثم نشير إلى التفرقة بين هذا القانون والقانون الوضعي، ونثبت أن الإلزام الخلقي قانون طبيعي لا وضعي، والمراد بقوانين الطبيعة والمادة النظريات التي تُقرر وتُعبر عن شيء مرئي يمكن أن يكال أو يوزن أو يقاس بالشبر والمتر، وتناله يد الخبرة والتحليل في المختبرات، ويد الصناعة والزراعة في الحقول والمصانع.

أما القانون الطبيعي فيعم ويشمل كل ما هو حتمي الوجود ولا غنى عنه بحال مادياً كان كالطعام والشراب أم معنوياً كالحرية والعدالة وغيرهما مما تفرضه جبلة الإنسان وطبيعة العيش والحياة، وعليه فكل قانون ينطق بالعدل ويأمر به فهو قانون طبيعي5 وإلهى وعقلي في آن واحد، هو طبيعي لأن العدل ثابت في ذاته وموجود في عالمه، ولا غنى عنه. قال أرسطو: العدل يشمل الفضائل بكاملها لأنه الخير العام للمجموع، والخير الخاص لكل فرد، وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "العدل يضع الأمور موضعها، وهو سائس عام" أي لا يستقيم شيء من الحياة إلا به، بل لا يستقيم الكون بما فيه ومن فيه إلا بالعدالة الإلهية.

وهو (أي القانون العادل) عقلي لأن العقل الخالص من العواطف والضغوط والمآرب، يأمر بالعدل والإحسان، وهو إلهي لأن الله سبحانه هو الحق والعدل وخالق الطبيعة والوجدان والعقل.

أما القانون الوضعي فهو الذي يصدر عن إرادة إنسانية سواء أكانت إرادة فرد واحد أم هيئة عامة أم سلطة دولية أم أهل الأرض كلهم أجمعين، أجل إذا كان الحكم الوضعي مستوحى من العدل وخاضعاً له ساغ أن نسميه عقلياً وشرعياً وإلا فهو بدعة وضلالة لأنه ضد الوحي والعقل والطبيعة والوجدان. ومما تقدم يتبين لنا أن الواجب الإنساني والالزام الخلقي هو قانون تكويني طبيعي يهيب بالإنسان إلى علم الخير، ومبدأ إلهي عقلي يُنذر ويحذر من الأنحراف إلى الشر.. وما أنكر من أنكر هذا الإلزام إلا لكي يتحرر من الخير والفضيلة، ويفلت من القيود والحدود وإلاّ رغبةً في الضياع والفوضى واشباع الغرائز الحيوانية.

ولكن الشيء الذي يُذهل ويحير: هل على وجه الأرض عاقل واحد لا يعير اهتماماً للصدق والأخلاص والعدل والمحبة والجود والأمانة والتعاطف والتراحم؟ وهل من إنسان بمعنى الكلمة لا يخفق قلبه لأنين الملهوفين ودموع المظلومين؟ وإذا كان كل ذلك وما إليه عبثاً وحماقة فبأي شيء نفسر خلجات النفس الإنسانية من أجل المستضعفين. والمشاريع الخيرية، والثورات ضد الظلم طلباً للعدل والحرية؟.

واخيراً هل كل إنسان يميل بفطرته إلى إطلاق العنان لأهوائه وفي سلوكه دون أي اهتمام واكتراث بالآخرين ودون أن يتحمل ما تجنيه يداه؟ وإذن ما الفرق بين الإنسان العاقل ووحش الغاب؟.

أين العقول من وضع الشريعة؟
قلنا ونكرر إن أهم الأسس التي يقوم عليها صرح الأخلاق هو الإلزام، وان مصادر هذا الإلزام الوحي من الله سبحانه: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ6  والعقل القوي الخالص من كل شائبة الذي يؤثّر ولا يتأثر، والضمير الذي يطمئن للخير ويباركه، وينفر من الشر ويشمئز لذكره، وإليه أشار الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "البر ما اطمأن اليه القلب، والإثم ماحاك في القلب وتردد في الصدر". وما من شك أن هذه المصادر الثلاثة تنتهي إلى مبدئ الخلق ومعيده، إلى الاول بلا أول كان قبله، ومعنى هذا أن الوحي هو الأصل الأصيل لكل واجب وإلزام سواء سميته خلقياً أم شرعياً، بل ان المصدر الحق الذي نقر به عن إيمان ونستند إليه عن يقين، ولا نقبل حوله أي نقد واعتراض أو شبهة وتشكك أو فلسفة وتحليل ـ فهو الوحي وحده لا شريك له، ويمكن أن نمنح ثقتنا هذه للعقل الذي قال له سبحانه: ما خلقت خلقاً أحب إليّ منك، ولكن أين هو هذا العقل المحبوب لله؟ ونفس الشيء نقوله في فطرة الله التي فطر الناس عليها.

أما العادة والتقاليد المعروفة عرفاً والمسلم بها عند الجماعة والمجتمع ـ فما هي من مصادر الإلزام في شيء.. وقال الاستاذ مقداد يالجن في كتابه الاتجاه الأخلاقي في الإسلام: "أما الإسلام فيعتبر الله مصدر الإلزام في الدرجة الأولى.. والجماعة في الدرجة الثانية لأن المجتمع مسئولٌ عن انحراف الأفراد".

وهذا اشتباه وغفلة لأن المجتمع ـ في عاداته وتقاليده ـ إن وافق نصاً أو أصلاً من الوحي كان هو المصدر وليس المجتمع، وان خالف الوحي نصاً وأصلاً فهو بدعة وضلالة أما مسؤولية الجماعة فهي من باب النهي عن المنكر، قال سبحانه: ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ7  ومن البديهة أن النهي والتناهي عن المنكرات شيء، ومصدر الأحكام والإلزام شيء آخر.

وقد يقول قائل: لماذا لا يُكتفى بالعقل يمده ويعاضده إلهام الضمير ووحيه كمصدر للإلزام، ويُستغنى به عن الوحي؟ أليس العقل دليل المؤمن على خالقه وحجة الله على عباده، وبه يُثيب ويُعاقب؟.

الجواب

إن العقل لا يحيط بكل شيء علماً، والعقلاء لا يكتشفون كل مجهول بالفراسة والروية وإلا كانوا في غنى عن المدرسة والدراسة والتعلم والتجربة، وحلوا جميع مشكلاتهم بالتأمل العقلي المجرد، وصعدوا إلى المريخ بمجرد التخيل والصور الذهنية والمشاعر النفسية!.

أجل، ان العقل ينتقل من معلوم إلى مجهول كالانتقال من المقدمات إلى نتائجها ومن الأسباب إلى مسبباتها، ما في ذلك ريب، وأيضاً يدرك العقل تلقائياً أو بمشاركة الفطرة النقية أشياء معنوية كقبح الظلم والعدوان والنفاق والبهتان وما إلى ذلك من قسوة ولصوصية. وأيضاً يدرك الإنسان من داخله لا من خارجه حسن العدل والوفاء والنجدة والإباء، ونحو ذلك من ظاهرة إنسانية وفضيلة أخلاقية.

ولكن أين ذلك من شريعة تنظم وتشمل البشرية بكاملها، وتخطط لحياة سليمة وكريمة في شتى الجهات وعلى جميع المستويات في هذه الدار، وفي الآخرة خير وأبقى؟. وأثبت في العديد من مؤلفاتي أن هذه الشريعة العالمية لا تبلغها العقول، وأن خالق الطبيعة هو وحده واضع الشريعة....
البُعد الديني والبُعد الأخلاقي:

الخير منه واجب كالجهاد والعدل والوفاء بالأمانة، ومنه مستحب كالحلم والعفو والبذل في بعض الأحيان، وعليه يسوغ القول: كل واجب هو خير وحسن وفضيلة، وليس كل خير وحسن بواجب.. هذا من وجهة شرعية فقهية لا مرية فيه، ولكن هل الامر أيضاً كذلك من الوجهة الأخلاقية بحيث إذا تر الإنسان ما هو مندوب شرعاً كالصدقة المستحبة ـ مثلاً ـ لا يحط ذلك من قدره وكرامته من الوجهة الخلقية، أو أن كل خير هو واجب أخلاقي حتى ولو كان مستحباً في الفقه والشرع، ومن تركه فقد اقترف جريمة في نظر الأخلاق؟.

اختلفت الإجابة عن هذا السؤال تبعاً لمشاعر المجيب وميوله ونظره من زاوية معارفه وعقيدته. ونحن لا نفرق بين الأحكام الشرعية والأحكام الأخلاقية واجبة كانت أم مندوبة، وبالتعبير الدارج لا فرق عندنا بين البعد الديني والبعد الأخلاقي، فكل واجب او مستحب شرعاً هو كذلك من وجهة إنسانية وأخلاقية، وبالعكس، وآية ذلك:

أولاً أن الأحكام الشرعية والأحكام الأخلاقية تستقي من معين واحد، فمصادر الأولى: الكتاب والسنة والعقل والاجماع الكاشف عن حكم الله تعالى، ومصادر الإلزام الخلقي: الوحي والعقل والفطرة النقية كما سبقت الإشارة إليه، وهذي بالذات مصادر للأحكام الشرعية أيضاً، قال سبحانه: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ8 . وفي الحديث (أصل ديني العقل) ولا دين لمن لا عقل له، وكفى دليلاً على ان كل ما هو خلقي فهو إسلامي قول الرسول الأعظم (بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) فانه يكشف عن الصلة الوثيقة بين الإسلام والأخلاق ثانياً ان نور العقل والفطرة فيض من صانعهما الذي أودع فيهما الاحساس بالخير والشر والإلزام تركاً لهذا وفعلاً لذاك (انظر فقرة إلى الله ترجع الامور من فصل حول الأخلاق).

ونستخلص من كل ذلك وغير ذلك أيضاً أن الأحكام الأخلاقية تماماً كالأحكام الشرعية، فيها الوجوب والندب، والحرمة والكراهة، أجل إن النفوس النبيلة الفاضلة هي وحدها التي لا تفرق بين واجب ومندوب، ولا بين محرم ومكروه، ولسنا بصدد الكلام عن هذه القلة القليلة، وإنما نتحدث عن أخلاق الكثرة الكاثرة أمثال الذين عناهم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "ألا وان إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وانكم لا تقدرون على ذلك ولكن اعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد" فان في ذلك كفاية المكتفي ديناً وأخلاقاً.

وربما يُفرق بين الحكم الشرعي والحكم الأخلاقي في عبادة من عبد الله سبحانه لا شكراً لأنعمه، بل رهبة من عذابه او رغبة في ثوابه حيث تُقبل عبادته ويخرج بها عن عهدة التكليف الشرعي لأن الفاصل هنا غير أجنبي ـ على حد تعبير النحاة ـ وإن لم تك هذه العبادة من الأخلاق في الأفق الأعلى.. ولكن لنا أن نقول بلا تحفظ إن الدوافع الأخروية كلها أخلاقية مئة بالمئة لأن الخوف منه تعالى بذاته أيضاً عبادة، أما الطمع في فضله فعزة وكرامة. وسنتكلم عن ذلك مفصلاً في فقرة خاصة بعنوان (عبادة الله خوفاً أو طمعاً) من فصل النية. فإلى هناك.

الخير درجات
الواجبات والإلزامات بالخير منها الأهم كالإلزام بالجهاد وانقاذ الغريق، ومنها المهم كالحج بالنسبة إلى الجهاد، قال سبحانه: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى9. وفي نهج البلاغة: (درجات متفاضلات، ومنازل متفاوتات) ولا يحتاج هذا إلى دليل وبيان لأن الجزاء على قدر العطاء كماً وكيفاً بحكم البديهة.

وكذلك الشأن في المحرمات، منها كبائر كالعدوان على الأنفس والأموال، قال الأمام أمير المؤمنين عليه السلام: بئس الزاد العدوان على العباد. ومنها صغائر، ومن جملة ما قلنا في التفسير الكاشف عند شرح الآية 31 من النساء ج 2 ص 306: "ان الذنوب جميعاً في نفسها كبائر، وإنما تقسم إلى كبائر وصغائر بمقارنة بعضها بعضها إلى بعض ـ مثلا ـ النظر إلى أجنبية بريبة ذنب كبير في نفسه، صغير بالنسبة إلى القبُلة، والقبلة صغيرة بالنسبة إلى الزنا، وكذا الأكل على مائدة الخمر كبير في نفسه صغير بالقياس إلى شرب الخمر، ولكن الصغيرة مع الإصرار عليها تتحول إلى كبيرة كما أن الكبيرة تُمحى من الأساس مع التوبة والاستغفار لحديث (لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار). وقال سبحانه: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى10.

لا أخلاق بلا حرية
قلنا فيما تقدم: ان مصادر الإلزام الأخلاقي هي الوحي والعقل والضمير، وكل هذه المصادر والبصائر تقرر حرية الإنسان وتؤكدها، لأن أفعاله لن تكون أخلاقية إلا إذا انبثقت من أعماقه، وكانت ثمرة يانعة لنيته وإرادته بلا تكلف والتواء وتصنع ورياء، ولولا الحرية لم يكن للإنسانية عين ولا أثر.

ثم إن الحرية ليست ملكة موروثة عن الآباء والأجداد، ولا صفة مكتسبة من التربية والبيئة، ولا هي ثمرة من ثمرات التطور التاريخي كما يقول الماركسيون، وإنما هي صفة ذاتية للإنسان لا يمكنه التحرر منها، وان حاول واجتهد، وبالقدرة والحرية يسوغ الإلزام والتكليف، قال سبحانه: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا11.

ويرى بعض الباحثين أن أية عقيدة يدين بها الإنسان أو أية سيئة يقترفها متأثراً بالوسط الذي يعيش فيه وتبعاً لتقاليد المجتمع وعاداته ـ فهي مقدرّة عليه وغير مقدورة له لأنها من صنع المجتمع وهو الذي فرضها عليه لأن الفرد جزء من مجتمعه وبيئته التي نشأ فيها، وهذه السيئة الاجتماعية صارت بمرور الزمن نظاماً عاماً وطبيعة ثانية ثابتة لأفراد المجتمع.

والحق التفصيل بين فرد وفرد: فإن كان من الذين يملكون الوعي والاستعداد، وقد التفت وشكّ فيما عليه أهله ومجتمعه ـ فعليه أن يبحث بحثاً جاداً عن الحق والحقيقة، ويسأل من يثق به من أهل الفكر والعلم، ويعمل بعد اليأس وافراغ الوسع بما انتهى إليه من بحثه وسؤاله، فإن أهمل ومضى على سنة الآخرين: إما تعصباً وإما لأنه لا يريد أن يكتشف خطاً آمن بصحته عشرات السنين وإما لأنه إباحي متهرطق فالحق والباطل عنده بمنزلة سواء، إن كان شيء من ذلك استحق التوبيخ والعقاب إن جانب الواقع والصواب في عقيدة أو عمل.. وفقهاء الإسلام يسمون هذا مقصراً لأنه أهمل البحث والفحص ومسيئاً إلى نفسه لأنه ألقاها بالتهلكة عن قصد وعمد.

وان كان عاجزاً لا يملك الاستعداد والوعي، أو لم يلتفت ويشك في صحة ما يتجه إليه ويعتقد به لأنه منذ البداية آمن به إيمان العجائز ـ فهو معذور وغير مسئول تماماً كالحيوان من حيث العجز والقصور، ولذا يسميه الفقهاء بالقاصر والعاجز.

والذي رأيناه بالحس والعيان أن أكثر الذين يملكون الاستعداد يرفضون في مكابرة وعناد الأدلة المعارضة لأفكارهم حتى ولو كانت من المسلمات الأولية التي تثبت نفسها بنفسها.. ومنهم من يعارض الفكرة قبل أن يطلع على مدركها ويستمع إلى دليلها من علمائها والمؤمنين بها! ولا عذر لهؤلاء وشفيع.

الظروف الطارئة
تقدم أن الإلزام الأخلاقي تماماً كالإلزام الشرعي في شرط القدرة والحرية كضمان لطاعته وتنفيذه. ونشير هنا إلى تحديد هذه القدرة، وهي كما في كتاب الله وسنة نبيه أن لا يكون معها ضرر ولا حرج، وبيان ذلك أن القادر على تنفيذ الإلزام قد يقدر عليه بيسر وسهولة، وقد تطرأ عليه أحوال وحوادث تجعل تنفيذ الإلزام مضراً به أو مرهقاً له، وان لم يعجز عن فعله بكل طريق.

والقوانين الوضعية تسمي هذه الحال (نظرية الظروف الطارئة) وفقهاء الإسلام يسمونها بقاعدة الضرر إن كان تنفيذ الإلزام مضراً بالمنفذ والفاعل كالضعف في قوته، أو النقص في أمواله، أو المس من كرامته، ويسمونها بقاعدة الحرج إن نفّذ الفاعل الإلزام بشق النفس وارهاقها من غير أذى ومضرة كضراوة الحر أو البرد مع سلامة الجسم، ومع الحرج يسقط الإلزام والحتم لقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجَ12. وبالأولى أن يسقط مع الضرر لأنه أشد من الحرج بالإضافة إلى حديث (لا ضرر ولا ضرار).

لا حرج من قبلُ ومن بعدُ
قال لفيف من الكاتبين: ان الله ـ تعالى علواً كبيراً ـ أحرج الأمم السابقة في أحكامه وشريعته دون أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تكريماً له وتعظيماً، وأسندوا هذا الزعم إلى قوله سبحانه: ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا. وينطوي هذا الرأي على أن الإلزام الأخلاقي يبقى قائماً مع الحرج والمتاعب.

وفي هذا القول جرأة ومغامرة.. الله يتشدد على عبد من عباده، ويُضيق عليه ويُحرجه فيخرجه إلى التمرد والعصيان؟ وهل تسوغ هذه القسوة من مخلوق لا يسنّ القوانين ولا يُشرّع الشرائع؟ فكيف بمن يطمح المذنبون إلى مغفرته، ووسع كل شيء برحمته، ودبّر الكون بحكمته، ولا حلال وحرام إلا ما حلل وحرم؟.

ثانياً: لقد أوضح القرآن الكريم وصرح في الآية 78 من الحج بأن شريعة إبراهيم عليه السلام ما كان فيها من حرج، وأن شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم تماماً كشريعة أبي الأنبياء والمرسلين والحجازيين وغيرهم كثير، قال سبحانه: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ والمراد بالملة هنا الشريعة.

ثالثاً: ولماذا هذا التضييق في رحمة الله، والاحتكار لنعمته؟ وهل في ذلك كمال وجلال لذات الله وصفاته، أو أن المسلمين هم شعب الله المختار، كما زعم الإسرائيليون ذلك لأنفسهم في كتابهم وتوراتهم؟.

ومن يدري أن القول بنفي الحرج عن شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم دون الشرائع، ليس من أصابع إسرائيلية خفية كيلا يقال بأن زعم اليهود (شعب الله المختار) وحيد في بابه؟ وكم في كتبنا من إسرائيليات.

أما المراد بالذين من قبلنا في آية الإصر فهم اليهود حيث ملأوا الأرض ضلالاً وفساداً، وقالوا من جملة ما قالوا: يد الله مغلولة.. وانه فقير وهم الأغنياء.. وعبدوا العجل وقتلوا الأنبياء.. وغير ذلك مما لا يتسع له المقام، فاتخذ سبحانه في حقهم بعض الإجراءات العاجلة كما جاء في الآية 146 من الأنعام: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ.

فهذا الإصر والتشدد على الذين هادوا تدبير خاص في حادثة معينة، ومثلها لا ينقض القاعدة العامة، بل يزيدها رسوخاً وثباتاً.

وخلاصة القول ان نفي الحرج أصل عام لا يختص بأمة دون أمة، ولا بمجتمع مقبل أو مدبر، فكل تكليف بفعل صعب مستصعب فهو موضوع عن عباد الله من الأولين والآخرين، وإن كان في حدود طاقتهم ولكن بشق الأنفس.

عام وخاصّ
ثم إن الإلزام بالخير منه عام لاّ يختص بفرد دون فرد ولا بفئة دون فئة أو بزمان دون زمان كالايمان بالله والعمل بالحق والعدل والوفاء بالعهد والأمانة، ومنه خاص كواجبات العلماء والحكام والأغنياء، فأول الواجبات على العالم أن يعمل بعلمه، والواجب الأساسي على الحاكم أن يأمن الضعيف من ظلمه، ويخشى القوي من عدله، أما الغني فيجب عليه كفاية أن يسد جوعة المضطر حتى ولو كان الغني قد أدى ما عليه من أخماس وزكوات، قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "ما جاع فقير إلا بما متع به غني، والله سائلهم عن ذلك".

بل يجب كفاية على كل قادر أن يدفع الأذى عن العاجز أياً كان نوع العجز. أما قول الفقهاء: يجب انقاذ الحريق والغريق فهو لمجرد التمثيل، وكفى بقوله تعالى حجة ودليلاً: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ *  وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ 13. والمراد باليتيم هنا الضعيف صغيراً كان أم كبيراً، وبالمسكين المعوز.

*فلسفة الأخلاق في الإسلام،الشيخ محمد جواد مغنية،دار التيار الجديد،بيروت لبنان،ط5ـ1412هـ ـ1992م،ص57ـ84.


1- قيل: ان الأخلاق تنقسم باعتبار مصدرها إلى ثلاثة أقسام: دينية، ويسميها الفقهاء الآداب الشرعية، وعقلية، ويسميها علماء الكلام بالحسن والقبح، وغائية أي أن أخلاقية الفعل تتبع المصلحة سواء كانت هذه المصلحة لذة أم سعادة أم مجرد دعوة اجتماعية (أي عرفية) ونحن نحصر اخلاقية الفعل بما وافق الوحي والعقل السليم، ولا نقيم أي وزن لغيرهما.
2- 47 : الروم
3- 8 : المنافقون
4- 111 : التوبة
5-  نقلاً عن أرسطو كما جاء في مقال القانون وإلارادة المنشور في مجلة عالم الفكر العدد الثالث من المجلد الرابع بقلم الدكتور تناغو استاذ القانون بكلية الحقوق ـ الاسكندرية
6- 14: الملك
7- 79: المائدة
8- 30 : الروم
9- 10: الحديد
10- 82 : طه
11- 286 :البقرة
12- 78: الحج
13- 3: الماعون
2010-03-09