يتم التحميل...

أهمّية الوقوف على عيوب النفس

وصايا الأولياء

يتّصف الإنسان - بشكل طبيعيّ - بحبّ الذات ولا يرغب في أن يرى في نفسه نقصاً، أو عيباً، أو ذنباً. وحتّى عندما يرتكب المعصية في العلن، فهو يختلق لنفسه المبرّرات ويحاول إقناعها بأنّه يمتلك الحقّ في هذا التصرّف، أو عندما يكون غير مطّلع على أمر وقد سُئل عنه فهو يحاول الإجابة بشكل لا يَشعر معه المقابلُ بجهله، كي لا يقول صراحة: لا أعلم!

عدد الزوار: 31

"يتّصف الإنسان - بشكل طبيعيّ - بحبّ الذات ولا يرغب في أن يرى في نفسه نقصاً، أو عيباً، أو ذنباً. وحتّى عندما يرتكب المعصية في العلن، فهو يختلق لنفسه المبرّرات ويحاول إقناعها بأنّه يمتلك الحقّ في هذا التصرّف، أو عندما يكون غير مطّلع على أمر وقد سُئل عنه فهو يحاول الإجابة بشكل لا يَشعر معه المقابلُ بجهله، كي لا يقول صراحة: لا أعلم!
 
"وهذا السلوك يدلّ على أنّ الإنسان بطبيعته شديد الحبّ لنفسه، ولا يودّ أن يقف على عيوبه. ولذا فعندما يعيبه أحدٌ مّا فإنّ أوّل ما يتبادر إلى ذهنه هو أنّ هذا الشخص يكذب وأنّني بريء من هذا العيب. فكثيراً ما توجد في المرء عيوب تكون غائبة عن باله, لأنّ من جملة حيل النفس - التي تُعدّ موجوداً عجيباً إلى أبعد الحدود - هي سترها لعيوب الإنسان ونقائصه حتّى عن نفسه، فهي أحياناً تجعل الأمر مشتبهاً على الإنسان نفسه فتُظهر نفسه له بشكل لا يُصدّق معه أنّه إنسان سيّئ.
 
ومن هنا يقول أبو جعفر الإمام الباقر (عليه السلام): "فَكِّرْ فِيمَا قِيلَ فِيكَ"[1]، أي: إنّ وجود هذا العيب فيك أو عدمه مبهم بعض الشيء حتّى بالنسبة لك، وقد لا تُصدّق بوجوده من دون تفكير وتأمّل، فإنّ الكثير من الرذائل كالحسد، والتكبّر، والأنانية موجودة، وإن كانت بمراتب ضعيفة، عند كثير من الناس لكنّهم غير مصدّقين بذلك"[2].
 
إن ضرورة التفكّر للوقوف على عيوب النفس، يحتّم علينا ويوجّهنا للسير برحلة البحث في كتاب الله تعالى ويوصلنا إلى قوله سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾[3]، قال الراغب الأصفهاني: "أصل الزكاة النمو الحاصل من بركة الله تعالى - إلى أن قال -: وتزكية الإنسان نفسه ضربان: أحدهما: بالفعل وهو محمود، وإليه قصد بقوله: قد أفلح من تزكى، والثاني بالقول كتزكيته لعدل غيره، وذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، وقد نهى الله تعالى عنه فقال: لا تزكوا أنفسكم، نهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلاً وشرعاً، ولهذا قيل لحكيم: ما الذي لا يحسن وإن كان حقّاً؟ فقال: مدح الرجل نفسه"[4].
 
وفي هذا الموضع يطيب لنا أن ننقل كلاماً نفيساً لصاحب تفسير الميزان العلامة الطباطبائي (أعلى الله مقامه) حيث يقول: "قوله تعالى: ﴿بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ إضراب عن تزكيتهم لأنفسهم، وردّ لهم فيما زكوه، وبيان أنّ ذلك من شؤون الربوبية يختص به تعالى، فإن الإنسان وإن أمكن أن يتصف بفضائل، ويتلبّس بأنواع الشرف والسؤدد المعنوي غير أن اعتناءه بذلك واعتماده عليه لا يتم إلا بإعطائه لنفسه استغناء واستقلالاً، وهو في معنى دعوى الألوهية والشركة مع رب العالمين، وأين الإنسان الفقير الذي لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة والاستغناء عن الله سبحانه في خير أو فضيلة؟ والإنسان في نفسه وفي جميع شؤون نفسه، والخير الذي يزعم أنه يملكه، وجميع أسباب ذلك الخير، مملوك لله سبحانه محضاً من غير استثناء، فماذا يبقى للإنسان؟ وهذا الغرور والإعجاب الذي يبعث الإنسان إلى تزكية نفسه هو العجب الذي هو من أمهات الرذائل، ثم لا يلبث هذا الإنسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمس غيره، فيتولّد من رذيلته هذه رذيلة أخرى، وهي رذيلة التكبّر، ويتمّ تكبّره في صورة الاستعلاء على غيره من عباد الله، فيستعبد به عباد الله سبحانه، ويجري به كل ظلم وبغي بغير حق وهتك محارم الله وبسط السلطة على دماء الناس وأعراضهم وأموالهم، وهذا كله إذا كان الوصف وصفاً فردياً، وأما إذا تعدّى الفرد وصار خلقاً اجتماعياً وسيرة قومية، فهو الخطر الذي فيه هلاك النوع وفساد الأرض، وهو الذي يحكيه تعالى عن اليهود إذ قالوا: ﴿لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾[5].
 
فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقاً فيما يقول أو كاذباً لأنّه لا يملك ذلك لنفسه لكن الله سبحانه لمّا كان هو المالك لما ملّكه، والمعطي الفضل لمن يشاء وكيف يشاء كان له أن يزكّي من شاء تزكية عملية بإعطاء الفضل وإفاضة النعمة، وأن يُزكّي من يشاء تزكية قولية يذكره بما يمتدح به، ويشرفه بصفات الكمال كقوله في آدم ونوح..."[6].
 
* المبصرون، من وصايا الإمام محمد الباقر (عليه السلام)  لتلميذه جابر - جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


[1] بحار الأنوار- العلامة المجلسي- ج75- ص 162.
[2] من محاضرة لسماحة آية الشيخ مصباح اليزدي (رضوان الله عليه) ألقاها بتاريخ 6 آب 2011م.
[3] القرآن الكريم، سورة النساء، الآية: 49.
[4] الحسين بن محمد بن المفضل، مفردات ألفاظ القرآن، ج 1، ص 436 ــ 437، ط: دار القلم، دمشق.
[5] القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية: 75.
[6] العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، تفسير سورة النساء، الآية 49، ج 4، ص 373.

2025-04-29