كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء الطلّاب الجامعيّين، بتاريخ 2025/03/12م.
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا، أبي القاسم المصطفى محمد، وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين، [ولا] سيما بقية الله في الأرضين.
لقد كانت جلسة جيدة جداً. كلمات شبابنا الأعزاء يقودني إلى نتيجة مفادها أن مستوى التفكير والتحليل والإدراك لدى مجتمع الطلّاب الجامعيّين آخذ في النمو؛ بمعنى أنه هذا العام سمعت مواضيع تتفوق في مستواها على تلك التي كنت أسمعها في السنوات السابقة، على العام الماضي مثلاً[1]. هذه بحد ذاتها مسألة تبعث على الأمل والتفاؤل؛ أي إن مجتمع شباب البلاد وطلّابها الجامعيّين يسير ويمضي قدماً. أحياناً نكون في حالة حركة، ولكننا لا نكون منتبهين إلى حركتنا، ومع ذلك إن الحركة مستمرة؛ والآن هكذا هو الحال. لحسن الحظ، إن الفكر السائد في البيئة الطالبية هو الفكر الذي يتجه نحو النضوج وامتلاك رؤية شاملة.
طبعاً، هذا لا يعني أنني أؤيّد ما قيل هنا كله؛ فقد لا أؤيّد بعض الأمور. على سبيل المثال، قال أحد الإخوة إن أولئك الذين يمتلكون وسائل القوة، مثلاً العناصر الأمنية والعسكرية وما شابه، لا يؤدّون واجبهم ضد النظام الصهيوني في الأوقات الحساسة، بل يتحولون إلى مُصدري بيانات! هذا غير صحيح، كلّا، إنّ أولئك الذين كان من المفترض أن يؤدّوا عملاً معيّناً، لقد أدّوه في وقته. إذا كان العمل الذي تتوقعونه ولم يُنجز، فتابعوا الأمر وابحثوا -طبعاً، في بعض الأماكن لا يمكن البحث، لأن كثيراً من هذه المسائل سرّيّة- وسوف تكتشفون أنه لا، الأمر مبرر؛ بمعنى أن العمل الذي أُنجز أو العمل الذي لم يُنجز لهما مبرراتهما حقّاً.
بشأن الشباب أيضاً، قالوا إنني تراجعت عن الاعتماد على الشباب، كلّا، إنّ أملي معقودٌ عليكم أنتم الشباب فقط. أنا أؤمن بالاعتماد على الشباب، ولكنْ هناك شروط كثيرة يجب الالتفات إليها، وربما سأشير إليها اليوم في حديثي، وذاك الشرط الأساسي هو أن تتمسّكوا بمواقفكم وتستقيموا عليها.
لا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو، بأن تخلصوا إلى تحليل معيّن، وتتخذوا موقفاً ثورياً وصحيحاً ومقبولاً، ثمّ تتراجعوا عن ذاك المبدأ وتتحوّلوا إلى شخص غير مبالٍ، لمجرد مواجهة عقبة بسيطة أو الشعور بشيء من الشك. احرصوا على الحفاظ على هذه الروحية وهذا الشعور وهذا النشاط وهذا التحليل.
أرجو أيضاً من المسؤولين المحترمين في وزارتي التعليم العالي والصحة أن يولوا اهتماماً جاداً لهذه الأقوال؛ وأن يأخذوا كتابات هؤلاء الإخوة وكذلك أختنا، التي كانت تحتوي على بعض الشكاوى، ويقرؤوها بدقة وحسم أمرها؛ فبعض النقاط فيها صحيحة تماماً. طبعاً، ونحن أيضاً، في حدود مسؤوليتنا، سنحرص بالتأكيد على اتخاذ الإجراءات اللازمة.
لقد قسّمت كلمتي لهذا اليوم إلى ثلاثة أجزاء وسأعرضها؛ كلمة موجزة بشأن شهر رمضان والصوم، وموضوعٌ عن قضية الطلّاب الجامعيّين، أي قضيّتكم، وموضوع آخر عن القضايا السياسية الجارية التي تشغل الألسن هناك بضع نقاط موجزة أيضاً.
طبعاً، يجدر القول إنه منذ العام المنصرم، حين انعقد هذا اللقاء وحتى هذا العام، وقعت أحداث متنوّعة. كان وضعنا مختلفاً العام الفائت. أيها الطلّاب الجامعيّون، في مثل هذا اليوم من العام الماضي، عندما عقدنا لقاء معكم، كان الشهيد السيّد رئيسي حيّاً، وكان الشهيد السيّد حسن نصر الله (رضوان الله تعالى عليه) إلى جانبنا، وكان الشهيد هنيّة والشهيد السيّد صفي الدين والشهيد السنوار والشهيد الضيف وشخصيّات ثوريّة بارزة وعظيمة بيننا أو إلى جانبنا، ولكنهم ليسوا معنا هذا العام. إنّ نظرة أعداء الجمهوريّة الإسلاميّة ومعارضيها وخصومها الناقصة والسطحيّة وغير المرتكزة إلى الواقع تؤدي إلى فهم خطأ بشأن هذه الحادثة. أودّ أن أقول لكم بثقة تامّة، على عكس ما يقولونه: نعم، كان هؤلاء الإخوة قيّمين جدّاً، وفقدهم خسارةٌ لنا حقّاً، لا شكّ في هذا الأمر. لكننا هذا العام رغم غيابهم، فإننا في بعض القضايا أقوى مما كنا عليه في مثل هذا اليوم من العام الماضي، ولسنا أضعف في غيرها، بل قد نكون أقوى. نحن في هذا العام نتمتّع -بحمد الله- بأنواع القوّة والقدرات في شتّى الجوانب ومختلف النواحي. لم نكن نملك هذه الأمور في العام الماضي. لذلك، نعم، إنّ فقد هؤلاء الأعزّاء خسارة، والأحداث التي شهدها غربيّ آسيا مريرة ومؤلمة، ولكن الجمهوريّة الإسلاميّة لا تزال -بحمد الله- تحافظ على نموّها وتقدّمها وتعزيز قدراتها.
في العام الثالث للهجرة، فقدَ النبي الأكرم (صلّى الله عليه وآله) شخصاً مثل حمزة. في غزوة أُحد، لم يعد حمزة إلى جانب النبي (صلّى الله عليه وآله). لم يقتصر الأمر على حمزة، بل كان أبرزهم، وإلا فقد رحل كثير من الشجعان والأصحاب الآخرين، هذا في العام الثالث للهجرة. في العام الرابع والخامس للهجرة، كان النبي (صلّى الله عليه وآله) أقوى بكثير من العام الثالث للهجرة. أي إنّ فقدان الشخصيّات البارزة لا يعني أبداً التراجع أو التأخّر أو الضعف. متى ما حضر عاملان في أمّة ما، أحدهما هو الهدف السامي، والآخر هو السعي؛ إذا ما توافر هذان العاملان لدى أيّ شعب، فإنّ فقد الشخصيّات وغيابها يمثّل خسارة، ولكنه لا يوجّه ضربة إلى الحركة العامّة.
أما الموضوع المتعلق بشهر رمضان، فيقول الله المتعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[2]؛ أي إنّ هدف الصيام وفقاً لهذه الآية هو التقوى. ما هي التقوى؟ التقوى هي من «وقاية»، والوقاية تعني الحفظ. التقوى تعني وسيلة الحفظ، وسيلة المصونية، العنصر الذي يضفي مصونيةً؛ هذه هي التقوى. التقوى تصون الإنسان؛ من ماذا؟ من أنواع الشر ومن الوساوس ومن النوايا السيّئة ومن الأحقاد ومن الخيانات ومن الفسق ومن اتباع الشهوات ومن إهمال المسؤولية ومن ترك الفعل الواجب؛ هذه هي التقوى، وهي في غاية الأهمية. الصيام يمنحكم أنموذجاً وعيّنة صغيرة لهذه الحالة؛ أي إنّكم جائعون والطعام موجود، عُطاشى والماء موجود، ولكنكم لا تأكلون ولا تشربون، أي إنكم تمتنعون؛ وهذه هي التقوى، ولكن لبضع ساعات من اليوم وعن بضعة أمور محدودة. يجب أن تصبح هذه الحالة حالة عامة في حياتنا، وأن نتحلى بالتقوى.
آثار التقوى كثيرة في القرآن كلّه، ولكن الآن سأشير إلى موردين من هذه الآثار. الأول: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾[3]. إذا تحققت التقوى، فإنها تصنع الفرَج؛ «الفرَج الدنيوي». التقوى تصنع الفرَج الدنيوي؛ أي إنها تؤثر في المجال الاقتصادي وفي مجال الأمن؛ هكذا هي التقوى. المجتمع الذي يتحلى بالتقوى، ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجً﴾؛ هذه التقوى تصنع له الفرج. الثاني: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾[4]، القرآن هداية لأصحاب التقوى؛ «الهداية الإلهية». الهداية الإلهية ليست أمراً هيّناً، فهذا هو الأمر الأهم. ألسنا نريد أن نصل إلى النجاة والفلاح والسعادة؟ إذن هناك هدف ونريد الوصول إليه؛ لا بدّ أن يوجّهنا أحدٌ ويساعدنا؛ إنّه الله. متى يُساعدنا الله؟ عندما نلتزم التقوى. لذا اجعلوا الصيام وسيلة لتعزيز التقوى في أنفسكم؛ فهذا هو أساس العمل. اليوم، كِلا هاتين النتيجتين، أي الفرج والهداية، لهما جانب عمليّ بالنسبة إلينا. نحن بحاجة إلى الفرج، وكذلك إلى الهداية الإلهية.
حسناً، كيف نحقق التقوى؟ لقد تحدّثوا في هذا الصدد وقدّموا الحلول، ولكن ما أود أن أقوله في عبارة واحدة هو أن التقوى في أيدينا نحن؛ يلزمها عزم وإرادتنا. لا بدّ أن نفعّل الإرداة. الإمام [الخميني] (رضوان الله عليه) في أحد كتبه الأخلاقية -ربما «الأربعون حديثاً» أو «أسرار الصلاة»- يخاطب القارئ الذي يريد أن يسير في طريق التوحيد ويسلك هذا الطريق، ويكرر في مواضع عدة قائلاً: «اتخذوا قراراً حازماً، اتخذوا قراراً حاسماً»[5]؛ التقوى تتحقق بقراركم ومراعاتكم وبمراقبتكم. عندما يصون الشاب نفسه في حادثة مغرية له ولكنها حرام، فإنّ هذا الفعل يعزز فيه قوة التقوى ويزيد من حالة المصونية تلك ويزيد فيه الورع. كان هذا في ما يتعلق بشهر رمضان.
أما بشأن الطلّاب الجامعيّين، فالكلام الذي ذكرتموه عن قضايا الطلّاب الجامعيّين والأمل الذي تبثه الحركة الطالبية في قلوب الأشخاص الذين يؤمنون بالجامعة، هو كلام صحيح تماماً، وأنا أيضاً أُؤيّد هذه الأمور كلّها. لديّ نقطة مختصرة -طبعاً إذا استطعت اليوم سأذكرها باختصار، إن شاء الله- وقد دوّنتها هنا لأذكرها لكم، وهي قضيّة «الهويّة الطالبيّة». انظروا، على مدار القرنين الماضيين، ومنذ أن دخلت الحضارة الغربيّة إلى بلادنا وبدأت علاقتها معنا، وأصبحت هناك تفاعلات بيننا وبين الغرب وحضارته، مرّ الشاب الإيراني بتجربتين مختلفتين في مواجهته مع الحضارة الغربيّة: إحداهما، هي تجربته الأولى التي كانت نتيجتها الانبهار وانهزام الذات. أمّا التجربة الثانية، فهي تجربته اللاحقة التي أدّت إلى المعرفة والتعاطي المدروس والشعور بالاستقلال، وفي بعض الحالات، الشعور التامّ بالانفصال والابتعاد. سوف أشرح هذين النوعين من التعاطي بإيجاز.
في التعاطي الأوّل، عندما تعاطينا مع الغربيّين ومع العناصر الغربيّة ومع بعض رموز الغرب، كان الشاب الإيراني -النقاش هنا عن الشاب، وأنا أتحدث هنا عن الشباب، إذْ إن مشاعر الفئات الأخرى من الناس تكاد تكون مشابهة لمشاعر الشباب، ولكنني أريد أن أتحدث الآن عن الشباب- في ذلك التعاطي الأوّل عندما التقى بالغرب، قد نشأت لديه فرضيّة مسبقة وتصوّرٌ قاطع، وكان هذا التصوّر يتلخص في ثنائية «الغرب المتقدم، وإيران المتخلفة والضعيفة»، «الغرب الناجح، وإيران الخائبة»، وصار هذا [التصور] محسوماً لديه. عندما كان الشاب الإيرانيّ يرى نفسه أمام تقدّم الغرب والعلم الغربيّ والتكنولوجيا الغربيّة وما إلى ذلك، يشعر بأنه متخلف وخائب وعاجز. كان يرى أن الغرب متقدّم ويجب اتّباعه والسير خلفه.
طبعاً، كذلك كانت حقيقة الأمر؛ أي إنّ إيران قبل مئة عام كانت فعلاً متخلفة عن الغرب في ذلك الوقت. طبعاً، الأسباب والعوامل المتعلّقة بذلك كثيرة ومفصّلة، وليست موضع نقاشنا اليوم، ولكن نعم هذه حقيقة. غير أنه ثمّة نقطة مهمّة هنا: إذا نظرتم إلى الطرف الآخر -مثلاً إلى الغرب- ورأيتم نقاط قوته، وإذا جعلتكم هذه النقاط تلاحظون نقاط ضعفكم وتدفعكم إلى الغوص في التفكير، فهذا أمر جيد. ينبغي للإنسان أن ينظر ليكتشف ماذا فعلوا هم، وماذا علينا أن نفعل نحن؟ مثلاً لقد حقّقوا التقدّم العلميّ، ونحن أيضاً يجب أن نحقّق التقدّم العلميّ؛ إذا كان الأمر كذلك، فهذا جيد، ولكن هذا لم يحدث. لقد نُظر إلى الغرب بوصفه كائناً ناجحاً، [أي إنّ] نقاط قوّته جعلتنا ننسى نقاط قوّتنا! نحن لدينا نقاط قوة أيضاً، فقد كانت لدى الشعب الإيراني نقاط قوة [مثل]: الإيمان والنقاء والأخوّة والأسرة والوفاء والحياء؛ هذه هي نقاط قوّتنا. لقد غفلنا عن هذه النقاط وغفل الشاب في ذلك اليوم عنها؛ فقد غفل هو نفسه، وكان هناك بعض الأشخاص في داخل البلاد -إما ظهروا أو كانوا موجودين- عملوا على تشديد هذه الغفلة، أي بدلاً من أن يصلوا إلى اكتشاف الذات، وصلوا إلى انهزام الذات، ونشروا بين الناس فهماً مفاده أنه إذا أردتم أن تصلوا إلى مكانة ما وإذا أردتم أن تصل معيشتكم وعلمكم وقدراتكم إلى المستويات التي ترونها في الغرب، عليكم أن تصبحوا مثلهم في الأمور كافة، يجب أن تصبحوا غربيّين، فلا يمكنكم الوصول إلى أي مكان بالاعتماد على أصالتكم! الكلام الشهير نفسه لتقي زاده[6] الذي قال: «يجب أن نصبح غربيّين من الرأس حتى أخمص القدمين؛ يجب أن يكون لباسنا غربيّاً ويجب أن تصبح أخلاقنا غربيّة وسلوكيات حياتنا يجب أن تصبح غربيّة، وكل شيء يجب أن يصبح غربيّاً، لكي نتمكّن من اللحاق بهم».
المهم حينها أن التقليد للغرب حدث في السلوكيات والقضايا الأخلاقية والفكرية، ولكن لم يحدث أيّ شيء في القضايا الأساسيّة التي كان الغرب يرتكز عليها. نعم، تأسّست صورة جامعة، ولكن لم يخرج من هذه الجامعات أيّ إنسان بارز ولا أيّ اختراع ولا أيّ ابتكار ولا أيّ تقدّم علميّ في عهد رضا خان. الغربيّون عملوا على تعزيز ذلك أيضاً؛ لقد عزز الغربيّون هذا الشعور والاعتقاد بأنه يجب أن نقتدي بالغرب ونتّبعه. يومذاك، كان ممثلو الحكومات الغربيّة في داخل البلاد، في الحقيقة، هم البريطانيّون الذين كانوا يسيطرون هنا على كلّ شيء، وعلى الجميع ومَن جلبوا دكتاتوراً إلى السلطة. جاء رضا خان إلى السلطة وفرض سيطرته على كلّ شيء بروحيّة الاستبداد والدكتاتوريّة والبلطجة، وظهرت مجموعة أشخاص حوله، وكانوا من الناحية الفكريّة -لأنّ عقله لم يكن ليصل إلى هذه الأفكار- يروّجون بين الناس لنزعة الميل إلى الغرب نفسها تلك، وفي الواقع، التبعيّة للغرب والانصهار في الحضارة المادّيّة الغربيّة والذوبان فيها، وعملوا على ترسيخ هذا المفهوم وتنفيذه، وطبّقوه في اقتصادنا وفي مختلف قضايا مجتمعنا وفي القضايا الاجتماعيّة. في الحقيقة، هؤلاء حملوا راية تأييد الغرب.
كان رضا خان تجسيداً لنزعة الميل إلى الغرب المدمّرة والهدّامة، أي في الواقع، لقد جعلوا كلّ شيء في تصرّف الغرب، وكانت النتيجة أن البلاد أصبحت خاوية في الباطن والداخل والجوهر. لذلك، عندما عملت بريطانيا بعد عشرين عاماً على إزاحة رضا خان من السلطة، وجدنا أن بلادنا لم يكن لديها جيش وطنيّ ولا اقتصاد وطنيّ ولا أمن وطنّي ولا سياسة داخلّية وطنيّة ولا سياسة خارجيّة وطنيّة، بل لم يكن لدينا حتى لباس وطنيّ! أي إنّهم اختصروا تقدّم البلاد في تغيير الزيّ وفي ارتداء القبّعة الفلانيّة وفي هذه الأشياء. هكذا كانت مواجهتهم مع الغرب. يُنقل عن أحد هؤلاء المسؤولين، رجال السياسة في العهد القاجاريّ والعهد البهلويّ، «مخبر السلطنة هدایت»، أنه قال: «كان يُنظر إلى الشوارع الواسعة في المدن الغربيّة، وليس إلى المختبرات ولا إلى المكتبات»؛ هكذا كان نوع التعاطي.
طبعاً، الشخصيّات الفكريّة أمثال تقي زاده وأمثال فروغي وأمثال حکمت، هم من أكبر المذنبين في تلك الفترة، وهؤلاء هم مَن أبقوا بلادنا متأخّرة لعشرات السنين. التفتوا، بالتأكيد لو كان هناك مجموعة حريصة ومهتمة بدلاً من هؤلاء، لاستطاعت أن تمضي بالبلاد قُدماً. هؤلاء أبقوا البلاد متأخّرة. هذا هو ذلك التعاطي وذلك الانطباع الأوّل تجاه الغرب.
التجربة الثانية -التي في رأيي مهمّة، وهي التي أوصلتنا إلى هنا حتى الآن- ظهرت للنّاس تدريجيّاً من بين الأحداث المريرة. الأداء الظالم وغير المنصف للغربيّين في بلدنا، واحتلال بريطانيا وروسيا القيصريّة، التي كانت ضمن الغرب أيضاً في تلك الأيّام، لبعض المناطق في البلاد ثمّ بادروا طبعاً لاحقاً إلى احتلال أجزاء من إيران بواسطة الاتّحاد السوفيتيّ، وآثار هذه الهيمنات، هيمنوا على شمالي البلاد وجنوبها وشرقها، وسيطروا على بعض المناطق ومارسوا القمع وأوجدوا القحط. آلاف الأشخاص -طبعاً ليس بحوزتنا العدد القطعي، ولكن بعض الأشخاص يقولون إنّ العدد بلغ ملايين عدّة- ماتوا بسبب القحط الذي أوجده الغربيّون في البلاد؛ بسبب القحط الذي أوجده هؤلاء. قمعوا النهضات المحلّيّة في تبريز على نحو، وفي مشهد على نحو، وفي كيلان على نحو، وارتُكبت خيانات عدّة: اتفاقيّة وثوق الدولة[7]، تمديد رضا شاه لاتفاقيّة دارسي[8] وأمثال هذه الأمور. هذه الأعمال جعلت ذوي الفطنة وأفراد الناس والشباب على نحو خاصّ يلتفتون إلى باطن الغربيّين، أي اتّضح أنّه يوجد باطنٌ خبيثٌ خلف هذا الظاهر المنمّق والمشرق والمبتسم أحياناً، باطنٌ خائن، وقد لمسوا هذا الأمر. تراجعت تدريجيّاً تلك الحماسة والانبهار تجاه الحضارة الغربيّة بين كثير من أفراد الناس والشباب.
نهضة تأميم النفط في عامَي 1950 و1951م كانت حتماً مرحلة مهمّة ومرحلة صانعة للتاريخ. كانت منعطفاً استطاع كشف جوهر الغربيّين لنا، كشفت هذه النهضة بمقدّماتها ونتائجها وتبعاتها، الغرب على نحو عام، وجوهر الغرب على نحو عام، للشعب الإيرانيّ. كان اعتماد مصدّق وأمله في نضاله ضدّ البريطانيّين في قضيّة النفط معقوداً على أميركا. كان يأمل علناً وبصراحة أن تدعمه أميركا في وجه بريطانيا، [ولكن] أميركا هي من وجهت الضربة إلى مصدق؛ أي نفس أميركا التي كان مصدق يأمل في مساعدتها، هي التي قامت بالانقلاب. «كيم روزفلت»، العنصر المثير للانقلابات والمعروف والشهير الذي جاء ونفّذ انقلاب الثامن والعشرين من مرداد [19 آب/ أغسطس 1953م]، كان أميركيّاً، وهم جاؤوا وأطلقوا هذا الانقلاب بأموال أميركا وإمكاناتها، وجعلوا البلاد رهينة لعقود عدّة أخرى.
حسناً، إذاً آلت هذه الأحداث إلى نتيجة واحدة، وتلك النتيجة كانت أن في سبيل التقدّم، ليس الاعتماد على الغرب غير مساعد فحسب، بل يشكّل عائقاً. أي إنّ الاعتماد على الغرب لا يقتصر على كونه ليس عاملاً مساعداً لبلوغنا التقدّم فحسب، بل يمنع التقدّم. اتضح أنّهم يتصدّون بلا رحمة لأيّ ظاهرة في إيران تتعارض مع جشع الغرب ومصالحه، وهم إمّا يتصدّون مباشرة، كما إنّهم تصدّوا في الثامن والعشرين من شهر مرداد، وأطلقوا انقلاباً، أو يتصدّون على نحو غير مباشر، أي بواسطة حكومة عميلة لديهم، مثل ما حدث في الخامس عشر من خرداد عام 1342ه.ش. [5 حزيران/ يونيو 1963م]، فهم تصدّوا هناك وارتكبوا المجازر وأبادوا أيضاً، ولكن على يد [الشاه] محمّد رضا [البهلوي].
حسناً، هذه الحالة، أي في الواقع، انكشاف جوهر الحضارة المادّيّة للغرب أمام الشعب الإيرانيّ والشاب الإيرانيّ، أدّى إلى بدء بروز ردود الأفعال، إذ تصدّى بعض الأشخاص. حدث الانقلاب في شهر مرداد [آب/ أغسطس]، وفي شهر آذر [كانون الأوّل/ ديسمبر] من العام نفسه[9]، إذ اعترض عددٌ من الطلّاب الجامعيّين الشباب على قدوم نيكسون الذي كان حينها مستشاراً للرئيس الأميركيّ آنذاك، وصمدوا، وقُتل ثلاثة من الطلّاب الجامعيّين على أيدي عناصر الحكومة، أي فقدوا أرواحهم. بدأ الأمر منذ ذلك اليوم. طبعاً، كان للجامعة دخلٌ في أحداث عظيمة جدّاً، التفتوا إلى هذا الأمر. نعم، تختلف الجامعة اليوم في أمور كثيرة عما كانت عليه قبل انتصار الثورة الإسلاميّة، بل حتّى عن الجامعة بعد انتصار الثورة الإسلاميّة، أي قبل عشرين عاماً. الجامعة اليوم متقدمة أكثر وتطوّرها أكبر وفهمها لمختلف القضايا أكثر عمقاً وتعقيداً وثباتها جيّدٌ أيضاً. خلافاً لما يُروّج له، إذ يُقال أحياناً إنّ الجيل الجامعيّ الجديد والشباب الإيرانيين ليسوا مستعدّين كما كان جيل الثمانينات؛ وهذا غير صحيح. هذا الاستعداد موجودٌ اليوم أيضاً. لقد رأيناه في مختلف القضايا، كما نرى اليوم أيضاً أمام أعيننا استعداد الشباب الإيرانيين للحضور في الخطوط الأماميّة؛ إنّهم مستعدّون وجاهزون للتصدّي للعدوّ، وإنّ فهمهم للقضايا هو على نحو أفضل، وكذلك استعدادهم جيّدٌ جدّاً، بحمد الله.
طبعاً، ذاك المسار المنحرف لم يتوقّف مع الإقدام على تلك الخطوة، فقد استمرّ حتى بداية الثورة الإسلاميّة، وكان يؤثّر بشكل واضح في مختلف جوانب حياة الناس. أي حقّاً، لو أنّ الثورة الإسلاميّة لم تنتصر في عام 1979م، فإنّ حركة البلاد وحركة المسؤولين الحكوميّين والمسؤولين الثقافيّين في ذلك اليوم كانت على نحو يسلب البلاد ميزاتها الروحانيّة والأخلاقيّة وثرواتها المعنويّة كلّها، أي [كانت تؤدّي] إلى التبعيّة -التبعيّة المادّيّة والمعنويّة أيضاً- إلى الخارج، إلى أميركا، والتبعيّة المتزايدة يومياً إلى مختلف الدول الأخرى، وكانت أياديهم ستُبسط أكثر في قضيّة النهب، ولكن الثورة الإسلاميّة هبّت لنجدة شعب إيران وأنقذت البلاد واستطاعت منع هذا الهجوم. على أيّ حال، هم استمرّوا حتى انتصار الثورة الإسلاميّة.
أنا أولي اهتماماً كبيراً لهذا الأمر: كان الإنجاز العظيم للإمام [الخميني] (رضوان الله عليه) أنّه تحدّث بدايةً إلى «الشعب»، لا إلى فئة خاصّة ولا إلى حزب أو مجموعة محدّدة؛ تحدّث إلى الشعب الإيراني ومنحه هويّة وطالبه وعبّر عن توقّعاته منه وأنزله إلى الميدان وجعله يخوض الميدان؛ هذا هو الإنجاز العظيم للإمام. لم يُسجل أن حدث مثل هذه الحركة الوطنية العظيمة بدعوة من شخص مثل الإمام، الذي بالطبع لم يكن لدينا أحد مثله، في أيٍّ من القضايا الماضية.
هكذا كان الحال، فسماحته منح الشعب الشعور بالهويّة، وتوقّع منه أن يخوض الميدان ووثق به وذكّره بالهويّة الثقافيّة والتاريخيّة للشعب وأخرجنا جميعاً من الغفلة. نحن لم نكن ملتفتين إلى قدراتنا، فجعلنا الإمام نلتفت إليها وإلى قدرتنا على المتابعة، وأدخلنا الميدان، أدخل الشعب الميدان وجاهد في هذا المجال، فبارك الله المتعالي في ذلك. لم يكن الشعب مرعوباً ولم يرتعب، فقد جعله [الإمام] يتجاوز الخوف. حسناً، هذه الحالة العامّة للتصدّي بالأسلوب الثاني حاضرة في أوساط شباب بلادنا على نحو أساسي، وهي تستهدف حضور الغرب والحضارة الماديّة للغرب في البلاد، وطبعاً نحن تحدّثنا كثيراً في هذه المجالات.
لكن المتغطرسين حول العالم لا يكفّون، وهذا هو المهمّ. المتغطرسون حول العالم، هم أولئك الذين فعلوا ما يحلو لهم على مرّ سنين طويلة في إيران، وجاؤوا بخمسين ألف مستشار عسكري وغير عسكري إلى هنا، وأخذوا من موارد البلاد ما أرادوا وفرضوا ما يحلو لهم: «لمن يمكنكم أن تبيعوا النفط، ومن الذي لا ينبغي لكم أن تبيعوه، ومع من يمكنكم أن تقيموا العلاقات، ومع من لا تقيموها، ومن يمكنكم أن تجعلوه رئيساً للوزراء، ومن لا يمكنكم تعيينه، وكيف ينبغي أن تتعاملوا مع علماء الحوزات، وكيف يجب أن يكون تعاملكم مع الجامعة؟» -عاشوا هكذا في هذه البلاد لأعوام طويلة- فقُطعت أيدي هؤلاء، وهؤلاء لا يستطيعون التزام الصمت. واجهوا الثورة الإسلاميّة منذ بداياتها وحتى اليوم وتصدّوا وحاكوا المؤامرات، وفعلوا ما استطاعوه كلّه.
طبعاً، طوال هذه المدة، وبفضل الله تعالى، انتصرت الثورة الإسلاميّة عليهم. يقول جبابرة العالم إنه ينبغي للعالم أن يتبعنا! أنتم تلاحظون اليوم، يلاحظ الجميع في العالم أحد النماذج على ذلك[10]. [يقولون] يجب أن يتبعنا الجميع ويجب أن يجعلوا مصالحنا مرجّحة على مصالحهم؛ نحن أوّلاً. هذا ما يثبتونه اليوم للجميع في العالم؛ في الواقع، هم يعرضون جوهر الغرب أمام عيون الجميع. طبعاً، في رأيي -هذا ما أعتقده- إنّ إيران الإسلاميّة هي البلد الوحيد الذي رفض هذا على نحو قاطع، وقد قلنا نحن على نحو قاطع إنّنا لن نقدّم إطلاقاً مصالح الآخرين على مصالحنا. حسناً، لنعد إلى مقولة الشاب الجامعيّ الإيراني. أودّ أن أقول لكم اليوم إنّ سياسة حركة العدوّ هذه هي في سبيل الترويج لروحيّة التبعيّة والارتباك نفسها، وقد نشط العدوّ اليوم على نحوٍ فعّال؛ أي إنّهم يعملون في هذا المجال عبر اتّباع أساليب جديدة، وخاصّة عبر ما تحقّق من تقدّم على المستوى العلميّ، والإنترنت وسائر الأمور الموجودة، وهم يبذلون المساعي. فما هو دور طالبنا الجامعيّ؟ طبعاً، هذه المشاعر التي عُبّر عنها هنا، والمواضيع التي ذُكرت، وهذه الروحيّة التي تجلّت هنا، هي روحيّة مميّزة جدّاً. إنّ علاج التصدّي للعدو الذي يسعى إلى التغلغل والسيطرة واستعادة الهيمنة التي فقدها على بلدنا العزيز، مجدّداً، هو فقط هذه الروحيّة وهذه المشاعر نفسها والحركة الطالبيّة العامّة؛ لا شكّ في هذا الأمر.
في مقابل حركة العدوّ -هذه الحركة التي قلت إنّه يُعمل عليها اليوم بأساليب جديدة- فإنّ الحركة الإسلاميّة تتقدّم أيضاً، ونحن لدينا ابتكارات جيّدة اليوم في مجال القضايا الدينيّة والقضايا الأخلاقيّة وحتّى القضايا العرفانيّة. لحُسن الحظ، نما عناصر مفكّرون جيّدون اليوم في الحوزات العلميّة وفي الجامعات نفسها وفي مختلف قطاعات المجتمع، واستطاعوا اكتساب اللغة المعاصرة المناسبة لإفهام المفاهيم الإسلاميّة، وتمكّنوا من العثور عليها والاستفادة منها. هذه الأمور نفسها التي ذكرتموها هنا -يمكن حتماً تجميع عشرة أضعاف هذا أيضاً في التجمّعات الطالبيّة، وسأشير إلى هذا الأمر لاحقاً- هي الشيء نفسه الذي أوصيت به قبل مدة في واحد من هذه اللقاءات[11]: «إنتاج المحتوى»؛ هذه الأمور هي المحتوى. إنتاج المحتوى من الأعمال الضروريّة للساحة الافتراضيّة. هذه الأمور هي المحتوى. الأعمال التي يمكنكم تأديتها والفكر الذي يمكنكم إنتاجه والتحليل العميق الذي يمكنكم أن تستطيعون تقديمه تجاه القضايا، وتعرضوه هي إنتاج المحتوى الذي نتوقعه نفسه.
يجب أن يتموضع الطالب الجامعيّ هنا؛ هذا هو مكان الطالب. يستطيع الطالب الجامعيّ أن يعمل كمعلّم كمُنذر كمصباح إرشاديّ، بقدر استطاعته في بيئته المساعدة والمناسبة. يمكنكم أن تعملوا؛ هذا هو في رأيي ذاك الشيء الذي يشكّل هويّة طلّابنا الجامعيّين الأعزّاء، أي حالة القدرة هذه على الشرح والتبيين والتوضيح.
طبعاً لديّ بعض التوصيات أيضاً. في العام المنصرم قدّمتُ بعض التوصيات، وذكرت هنا بعض الأمور[12]. إحدى التوصيات كانت أن تتفرّغ المنظّمات الطالبيّة للعمل داخل الجامعات، وهذا ما أؤكّده. أيّها الشباب، هذا العمل، كما بلغني، لم يُنفّذ بالشكل المطلوب، وهذا ما أتوقّعه منكم. هناك عوائق، والأعمال الكُبرى والحسنة كلّها تبرز لها بعض العوائق. يجب ألّا نتصوّر أنّنا نسير في طريق معبّدة بالأسفلت، لا، هناك تعرّجات وصعود وهبوط ومشكلات؛ تغلّبوا على هذه المشكلات. تغلّبوا على المشكلات! إذا استطعتم استخدام لغة التبيين المناسبة، فسيكون في مقدوركم التأثير في الجامعة. الطرف المقابل لكم ومن تخاطبونه، هو طالبٌ جامعيّ وشاب، وهو ليس عنيداً، وغير معادٍ ومستعدٌّ للاستماع ومستعدٌّ للقبول. التوقّع نفسه الذي عبّر عنه هنا أحد الإخوة إذ قال: «إنّ المراكز التي ينبغي لها أن تُبيّن وتشرح لا تهتمّ بمهمّاتها ولا تُقدم على ذاك العمل»، حسناً، هذا الأمر متوقّعٌ منكم أنتم أنفسكم، فلتُبادروا أنتم المنظّمات [الطالبية] للمطالعة والاستعداد، ولتؤثّروا في بيئة الجامعة بأفكاركم الصائبة؛ هذه توصية أيضاً.
توصية أخرى هي أن تعقدوا جلسات عصف ذهنيّ عميقة؛ أي فكّروا بشأن قضيّة معيّنة على نحوٍ حقيقي، واستفيدوا من المفكّرين الموثوقين الموجودين اليوم -نحن نملك مفكّرين موثوقين- في جلسات العصف الذهنيّ هذه، واطرحوا المواضيع المهمّة المعاصرة. بعض هذه المواضيع التي تُطرح ليست مواضيع من الدرجة الأولى، بل هي مواضيع من الدرجة الثانية والثالثة. اعثروا على القضايا الأساسيّة للبلاد، وتلك القضايا ذات الصلة بحركة الثورة الإسلاميّة والحركة العامّة للمجتمع -القضايا المحليّة والخارجيّة- واجعلوها موضعاً للنقاش. تُطرح تحليلات متنوّعة في مختلف القضايا، في الصحف وأجواء الساحة الافتراضيّة، يجب ألّا تجعلكم هذه [التحليلات] تتردّدون؛ أي يجب ألّا تصابوا بالضياع والترديد في مقابل مختلف التحليلات. احملوا أنتم أنفسكم تحليلاتكم وفهمكم وبحوثاتكم، ولتتغلّبوا على التصريحات الخطأ التي تُطلق. إحدى توصياتي هي: بعض إشكالات الطلّاب الجامعيّين وانتقاداتهم للمسؤولين ناجمة عن انعدام المعرفة. على سبيل المثال، قد يتساءلون لماذا لم تُنفَّذ [عمليّة] «الوعد الصادق 2» في الوقت الفلانيّ، بل نُفِّذت في وقت آخر؟ لو أنّها نُفِّذت آنذاك، لما حدث الحدث الفلانيّ. حسناً، هذا ليس صحيحاً، وهذا ليس صائباً. أولئك الذين يتولّون زمام هذه الأمور ليسوا أقلّ محبّة وتعلّقاً وعشقاً واستعداداً للثورة منّي ومنكم؛ ولا يجوز اتّهامهم، فهم لديهم حسابات وتقديرات، ويعملون وفقاً لحسابات مدروسة. لو كنتم في موقفهم، لكنتم تصرّفتم بالطريقة نفسها. ضعوا هذا الاحتمال في أذهانكم دائماً، ولا تتّهموا الناس؛ أي ثمّة أحداث تشاهدونها، قد تبدو غامضة بالنسبة إليكم، لذا لا بدّ أن تفترضوا وجود حسابات صحيحة، فربّما تكون هناك حسابات صائبة وواقعيّة دفعت إلى اتّخاذ هذا القرار.
في ما يرتبط بالانتقاد، كانت إحدى توصياتي في العام الماضي أن انتقدوا، فلا إشكال في النقد؛ طُرحت أسئلة في هذا المجال أن حسناً، كيف ننتقد؟ كيف ننتقد على سبيل المثال في خضمّ الحرب، وعندما نكون في موضع معارضة الأعداء، على النحو الذي لا يجعل هؤلاء ينزعجون؟ لا مشكلة في الانتقاد، ولكن الانتقاد يختلف عن توجيه التُّهم. احذروا من أن تتّهموا أحداً بينما أنتم تنتقدونه. ليُطرح السؤال، ولا مشكلة في ذلك، ليُطرح السؤال والإبهام، ولتتوافر الفرصة للردّ. أحياناً لا يكون الطرف [المقابل] قادراً على الإجابة عن بعض الأسئلة؛ أي هو لا يملك الفرصة للردّ، أو لا تتوافر الإمكانيّة للردّ على هذه القضيّة؛ في مثل هذه الحالات لا تطرحوا الإبهام أيضاً. لا تعتقدوا بمثل هذه الأساليب أن الفرضيّات المحتملة أمرٌ مسلّم به.
في رأيي، التفتوا في الانتقادات إلى تجنّب تصوير الحال بأنّ الأفق مسدود، ولا تنتقدوا على النحو الذي يجعل الناس العاديّين يشعرون ببلوغ طريق مسدود عندما يسمعونكم. لا، أحياناً يكون الإشكال الذي يُطرح على النحو الذي يجعل الإنسان حين يسمعه يشعر أنّه لم يعد هناك أيّ سبيل؛ حسناً، هذا خطأ. أن يُصوّر الأمر بأنّ الطريق مسدودة في القضية الاقتصاديّة الفلانيّة أو القضيّة الثقافيّة أو القضيّة التعليميّة والجامعيّة، فهذا خطأ وهذا يُحبط الناس، وينبغي تجنّبه على نحو جدّي. يجب ألّا تتخلّل الانتقادات إثارة الخلافات وتعزيز الانقسام ونشر الإحباط وزرع التشاؤم تجاه المسؤولين الذين يتّخذون القرارات.
تُطرح عليّ أحياناً بعض الأسئلة، طبعاً لا تُطرح مباشرة، بل على سبيل المثال في الساحة الافتراضيّة أو التصريحات التي تُنقل إلى مكتبنا: افترضوا [أنّه يُقال] لماذا أعرب فلان عن سروره بعد أن اكتسب الوزراء جميعهم الثقة، بينما قد يكون بعض هؤلاء الوزراء غير موافقين لتلك المعايير التي حدّدها؟ هذا أحد الأسئلة، حسناً، هذا سؤال، وجوابه أنّ حصول الوزراء جميعهم على الثقة في مجلس الشورى الإسلامي هو ظاهرة محبّذة، وإذا لم يُحصّلوا الثقة، فإنّ وزارة أيّ وزير لا يحصّل الثقة ستكون بلا مشرف لمُدد طويلة، وبقاءها دون مشرف أسوأ بأضعاف مضاعفة من أن يكون هناك شخصٌ قد لا تتوافر فيه بعض المعايير أيضاً؛ أي سوف تنشأ الفوضى. من الجيّد جدّاً أن تتمكّن حكومة من أن تتشكل في مدة زمنيّة ووقت مناسب وأن تستطيع إدارة البلاد. يجب أن تتمكّن الحكومة من إدارة البلاد، وثقة مجلس الشورى [الإسلامي] تنطوي على هذه النقطة الإيجابيّة العظيمة. حسناً، يفرح الإنسان طبعاً. قد لا يُعجب المرء أيضاً أداء الوزير الفلاني على نحو كامل، أو قد لا يعدّ بعض خصائصه خصائص إيجابيّة، وهذان أمران لا يتعارضان. على أيّ حال، هناك أمور من هذا القبيل. خلاصة الأمر، يجب ألّا تشكّل هذه الأمور الهاجس الأساسي لدى الطالب الجامعيّ، فهذه ليست القضايا الأساسيّة للبلاد، وكما قلت، القضايا الأساسيّة للبلاد هي أمور أخرى.
لأتطرّق ببعض الجُمل إلى القضايا الأخيرة الخاصّة بأميركا وهذه الدعوة إلى التفاوض وأمثال هذه الأمور. أولاً، إنّ قول الرئيس الأميركيّ[13]: «نحن مستعدّون للتفاوض مع إيران»، ودعوته للتفاوض والادّعاء أنّه أرسل رسالة، وهي لم تصلنا طبعاً؛ أي لم تصلني، هذا في رأيي تضليل للرأي العامّ العالميّ. هذا معناه أنّه: «نحن أهل التفاوض، ونرغب في التفاوض وإرساء السلام وتجنّب الصراع؛ ولكن إيران ليست مستعدّة للتفاوض». حسناً، ما الذي يجعل إيران غير مستعدّة للتفاوض؟ اسألوا أنفسكم. لقد جلسنا وتفاوضنا لسنوات عدّة، وهذا الشخص نفسه رمى المفاوضات المبرمة والمكتملة والموقعة من على الطاولة ومزّقها[14]. كيف يمكن التفاوض مع مثل هذا الإنسان؟
في معرض الردّ على كلامي هذا، يقول أحد كتّاب المقالات في صحيفة محلّيّة: «لكن يا سيّد، إنّ الشخصين اللذين يتحاربان، يجلسان ويتفاوضان من أجل السلام. الطرفان لا يثقان ببعضهما، ولكن غياب الثقة لا يمنع التفاوض». هذا خطأ. الشخصان اللذان يتفاوضان من أجل السلام، إذا لم يكونا واثقين بوفاء الطرف المقابل لكل منهما بما يرد في الاتفاق، فإنهما لا يتفاوضان، لأنّهما يعلمان أنّه عملٌ عبثيّ وهباء. يجب أن يكون الإنسان واثقاً في التفاوض من أنّ الطرف المقابل سوف ينفّذ ما التزم به. عندما نعلم أنّه لن يلتزم، فما الداعي إلى التفاوض؟ لذلك، الدعوة إلى التفاوض والتظاهر بالرغبة فيه تضليل للرأي العامّ.
في ما يتعلق بالحظر الأميركيّ، إذْ كان هدفنا منذ بداية مفاوضاتنا في قضية الاتفاق النووي والعقد المنصرم هو رفع الحظر؛ لحسن الحظ، بدأ تأثير الحظر يتضاءل في العالم. عندما يستمر الحظر، فإن تأثيره يتلاشى تدريجيّاً، وهذا ما اعترفوا به بأنفسهم. أي إنهم أنفسهم يعترفون بذلك. يمكن للدولة التي تتعرّض للحظر أن تجد طرقاً لتعطيل مفعوله تدريجيّاً وتحييده. لقد وجدنا العديد من هذه الطرق، وتمكّنا من تحييد الحظر. نعم، الحظر ليس بلا تأثير، ولكن ليس صحيحاً أن الوضع الاقتصادي السيّئ الذي نمرّ به هو نتيجة الحظر فقط. كلّا! تقصيرنا نحن أيضاً له تأثير، بل إنّ معظم مشكلاتنا ناتجة من تقصيرنا نحن. طبعاً، جزء منها مرتبط بالحظر، ولكن الحظر سيصبح بلا تأثير تدريجيّاً، وهذا أمر مسلّم به أيضاً.
ما يُقال بشأن السلاح النووي إنه «لن نسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي»، فإنّنا لو قرّرنا امتلاك السلاح النووي وتصنيعه، ما كانت أميركا لتقدر على منعنا. السبب في أننا لا نمتلك السلاح النوويّ -نحن لا نسعى إلى امتلاكه أيضاً- هو لأنّنا نحن أنفسنا لا نرغب في امتلاكه لأسباب معيّنة، وقد ذكرنا هذه الأسباب سابقاً وناقشناها. نحن أنفسنا لم نرد ذلك، وإلّا لو أردنا، لما كان في إمكانهم منعنا.
النقطة الأخرى: أميركا تُهدّد بالعمل العسكريّ. في رأيي هذا التهديد غير عقلاني؛ أي إنّ شنّ الحرب وتوجيه الضربات لن يكونا من طرف واحد، فإيران قادرة على الردّ بضربة مضادّة، وسوف تنفّذها حتماً. بل أنا أعتقد أنّه إذا ارتكب الأميركيّون أو عملاؤهم خطوة حمقاء، فهم سيكونون الأكثر تضرّراً. طبعاً، الحرب ليست أمراً محموداً، ونحن لا نسعى إليها، ولكن إذا أقدم أحدهم على خطوة [حمقاء]، فإنّ ردّنا سيكون حاسماً وحتميّاً.
النقطة التالية هي أن أميركا اليوم -هذا واقع- تسير في طريق الضعف وليس في طريق القوة. إنها تسير في طريق الضعف من الناحية الاقتصادية؛ وكذلك من الناحية السياسية ومكانتها في العالم، ومن ناحية سياستها الداخلية ومن ناحية القضايا الاجتماعيّة داخلها. العوامل جميعها تُضعف أميركا. أميركا ليست تلك القوة التي كانت عليها قبل 30 عاماً و20 عاماً، ولن تكون كذلك. لا يمكن أن تكون كذلك.
النقطة التالية هي أن بعض الأشخاص في الداخل يُصرّون على قضية المفاوضات باستمرار: «لماذا لا تردّون؟ لماذا لا تتفاوضون؟ لماذا لا تجلسون مع أميركا؟ اجلسوا [للتفاوض]». أود أن أقول: إذا كان الهدف من المفاوضات هو رفع الحظر، فإنّ المفاوضات مع هذه الإدارة الأميركيّة لن ترفعه؛ أي إنها لن تؤدي إلى رفع الحظر، بل ستزيد من تعقيد عقدته وستزيد من الضغوط؛ إن المفاوضات مع هذه الإدارة ستزيد من الضغط. قبل بضعة أيام، قلت في حديثي مع المسؤولين إنهم يطرحون مطالب جديدة[15] وتوقعات جديدة ومطالبات جشعة جديدة، وستكون المشكلة أكبر مما هي عليه اليوم. لذلك، لن تحل المفاوضات أيّ مشكلة ولن تفكّ أي عقدة. هذا بشأن هذه النقطة.
النقطة الأخيرة؛ خلافاً لتوقّع العدوّ، لا مقاومة فلسطين انهارت ولا مقاومة لبنان، بل ازدادتا قوّة وتعزّزت دوافعهما. هذه الشهادات ألحقت بهما خسائر على المستوى البشري، ولكنّها عزّزت قوّتهما من ناحية الدافع. لاحظتم أنّ شخصاً مثل السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) يحلق إلى العلياء عن هذا الجمع، ويُستشعر فقده، ولكن رغم ذلك يُقدِم «حزب الله» في الأيّام التي تلت استشهاده على خطوة ضدّ الكيان الصهيوني هي أقوى من خطواته السابقة. في المقاومة الفلسطينيّة، يغادرنا أشخاصٌ مثل هنيّة والسّنوار والضيف، ومع ذلك، في المفاوضات التي أصرّ عليها الكيان الصهيوني وداعموه وأميركا، تمكّنوا من فرض شروطهم على الطرف المقابل. هذا يثبت أنّ الدوافع تعزّزت.
هذه جملتي الأخيرة، نود أن نقول أيضاً: إنّنا سندعم المقاومة في لبنان وفلسطين بكلّ ما أوتينا من قوّة. هذا أمرٌ متّفقٌ عليه بين مسؤولي البلاد؛ فالحكومة ورئاسة الجمهوريّة الموقّرة والآخرون، كلهم يُجمعون على هذه القضايا، ولا توجد أيّ مشكلة. سيتمكّن الشعب الإيراني، إن شاء الله، في المستقبل أيضاً، كما في السابق، أن يُقدّم نفسه للعالم بوصفه حاملاً لراية المقاومة في وجه الغطرسة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
[1] في بداية هذا اللقاء، تحدّث عدد من ممثلي الاتحادات الطالبية بكلمات وأبدوا آراءهم بشأن القضايا السياسية والاجتماعيّة والعلميّة والثقافيّة.
[2] سورة البقرة، الآية 183.
[3] سورة الطلاق، الآيتان 3 - 4.
[4] سورة البقرة، الآية 2.
[5] كتاب «شرح الأربعين حديثاً» (النسخة الفارسية)، ص 10.
[6] السيّد حسن تقي زاده (أوّل رئيس لمجلس الشيوخ في عهد بهلوي).
[7] اتّفاقيّة وقّعها في عام 1919م وثوق الدولة (الصدر الأعظم للشاه أحمد القاجاري) مع ممثّلين عن الحكومة البريطانيّة، وبموجبها، جُعلت التشكيلات العسكريّة والماليّة لإيران كلّها تحت إشراف البريطانيّين، ومُنحوا امتيازات السكك الحديد والطرق السريعة أيضاً.
[8] عقد تمّ بين حكومة إيران وويليام نوكس دارسي، انعقد في عام 1901م، وبموجبه مُنح امتياز استخراج النفط في أنحاء إيران -عدا المناطق الشماليّة- والانتفاع به إلى دارسي لمدّة ستّين عاماً، وتعهّد دارسي أيضاً أن يؤسّس شركة أو شركات للانتفاع بهذه الامتيازات، وأن يدفع سنويّاً مبلغ عشرين ألف ليرة نقدياً، وما يعادل هذا المبلغ من سهم الشركة، و16 بالمئة من صافي الأرباح إلى الحكومة الإيرانيّة.
[9] 7 كانون الثاني/ ديسمبر 1953م.
[10] كنموذج على ذلك يمكن الإشارة إلى فرض الرئيس الأميركيّ الرسوم الجمركيّة على البضائع المستوردة من بعض الدول إلى أميركا.
[11] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مع أهالي محافظة أذربيجان الشرقيّة في الذكرى السنويّة لنهضة أهالي مدينة تبريز، بتاريخ 17/02/2025م.
[12] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مع الطلّاب الجامعيّين في شهر رمضان المبارك، بتاريخ 07/04/2024م.
[13] دونالد ترامب.
[14] خرج دونالد ترامب في مدّته الرئاسيّة الأولى، في 8 أيّار/ مايو 2018م، من الاتّفاق المعروف بـ«الاتّفاق النوويّ» الذي أُبرم ووُقّع في حكومة الرئيس الأميركيّ السابق (باراك أوباما) بين إيران والأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة مع ألمانيا والاتّحاد الأوروبّيّ (دول 5+1)، بعد أن وقّع على أمرٍ يخصّ هذا الأمر.
[15] كلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء رمضاني مع مسؤولي البلاد، بتاريخ 08/03/2025م.