لا تكن كهذا
صفر
قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام) لرجلٍ سأله أن يعظَه: «لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، وَيُرَجِّي التَّوْبَةَ بِطُولِ الْأَمَلِ؛ يَقُولُ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِ الزَّاهِدِينَ، وَيَعْمَلُ فِيهَا بِعَمَلِ الرَّاغِبِينَ، إِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا لَمْ يَشْبَعْ، وَإِنْ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ، يَعْجِزُ عَنْ شُكْرِ مَا أُوتِيَ، وَيَبْتَغِي الزِّيَادَةَ فِيمَا بَقِيَ»
عدد الزوار: 209قال أميرُ المؤمنين (عليه السلام) لرجلٍ سأله أن يعظَه: «لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الْآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، وَيُرَجِّي التَّوْبَةَ بِطُولِ الْأَمَلِ؛ يَقُولُ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِ الزَّاهِدِينَ، وَيَعْمَلُ فِيهَا بِعَمَلِ الرَّاغِبِينَ، إِنْ أُعْطِيَ مِنْهَا لَمْ يَشْبَعْ، وَإِنْ مُنِعَ مِنْهَا لَمْ يَقْنَعْ، يَعْجِزُ عَنْ شُكْرِ مَا أُوتِيَ، وَيَبْتَغِي الزِّيَادَةَ فِيمَا بَقِيَ»[1].
لقد تكرّرت في وصايا أميرِ المؤمنين (عليه السلام) ومواعِظِهِ ما فيه الحرصُ على بناءِ الشخصيةِ المتوازنة، وذَكر الشريفُ الرضيُّ -جامعُ نهجِ البلاغةِ- التالي: «ولو لم يكن في هذا الكتاب إلّا هذا الكلامُ، لكفى به موعظةً ناجعةً، وحكمةً بالغةً، وبصيرةً لمبصِرِ، وعِبرةً لناظرٍ مفكّرٍ»[2].
وفي هذا النصِّ يحذّرُ الإمامُ من الشخصية التي لا يوافقُ ظاهرُها باطنَها، ولا يتوافقُ فِعلُها مع قولِها، وما تقوم به مع ما تدّعيه، مبيِّناً أموراً، هي:
1. لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَرْجُو الآخِرَةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ: فالذي يرجو ويرغبُ في الوصولِ إلى أمرٍ، عليه أن يسعى للوصول إليهِ من خلالِ العملِ بالمقدّماتِ والأسبابِ الموصِلة، ومَن كان يرجو ويأملُ أن يكونَ مِن أهلِ الفوزِ في الآخرة، فإنّ عليه أن يعملَ، ولذا يحذّرُهُ الإمامُ مِن أن يكونَ مِن أهلِ الأملِ بالآخرةِ ولم يعملْ شيئاً.
2. ويُرَجِّي التَّوْبَةَ بِطُولِ الأَمَلِ: ويحذّرُهُ الإمامُ مِن أن يكونَ ممّن يؤخّرُ التوبةَ مِن ذنوبِهِ اتّكالاً على طولِ الأملِ الذي يعيشُه، فلا يبادر إلى التوبة، فيقع في التسويف. وفي كلامٍ آخرَ لأميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «..فَتَدَارَكْ مَا بَقِيَ مِنْ عُمُرِكَ، وَلَا تَقُلْ: غَداً أَوْ بَعْدَ غَدٍ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ بِإِقَامَتِهِمْ عَلَى الْأَمَانِيِّ وَالتَّسْوِيفِ، حَتَّى أَتَاهُمْ أَمْرُ اللَّهِ بَغْتَةً وَهُمْ غَافِلُون»[3].
3. يَقُولُ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِ الزَّاهِدِينَ، ويَعْمَلُ فِيهَا بِعَمَلِ الرَّاغِبِينَ: فلا يطابقُ قولُه عملَه، فكلامُهُ وحديثُهُ عَينُ حديثِ أهلِ الزهد، ولكنَّ عملَهُ وممارستَهُ في الخارجِ كعملِ أهلِ الرغبةِ في الدنيا، فهو يخدعُ نفسَه، وعلامةُ ذلك تتمثّلُ بأمرَين: أوّلُهُما: «شدّةُ الحرصِ على الدنيا»؛ لأنه كلّما أُعطيَ مِنَ الدنيا شيئاً، لا يكتفي منها بذلك، كشاربِ ماءِ البحرِ كلّما ازدادَ شرباً ازدادَ عطَشاً. وثانيهِما: «عدمُ القناعة»، فلا يكتفي، ولا يعيشُ القناعةَ بما وَصَلَ إليه من هذه الدنيا، فتجدُهُ يكرّرُ الطلبَ، ولا يعيشُ حالةَ الرضى عمّا هو عليه من رزق. عن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «مَنْ قَنِعَ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ، فَهُوَ مِنْ أَغْنَى النَّاسِ»[4].
4. يَعْجِزُ عَنْ شُكْرِ مَا أُوتِيَ، وَيَبْتَغِي الزِّيَادَةَ فِيمَا بَقِيَ: لا يَشكرُ، ويطلبُ الزيادة، وهذان متنافيان؛ لأنّ بابَ الزيادة هو الشكرُ، قال تعالى: ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾[5]، فهو مِن جهةٍ يعجزُ عن شُكرِ الله على ما ناله من النعم، ومن جهة يَطلبُ من اللهِ أن يزيدَه، فهو لا يعطي كلَّ عملٍ حقَّه، فحقُّ النعمةِ أن تُشكَرَ، وبابُ الزيادةِ شُكرُ النعمة.
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص497، الحكمة 150.
[2] المصدر نفسه، ص499.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص136.
[4] المصدر نفسه، ج2، ص139.
[5] سورة إبراهيم، الآية 7.