امتاز الإعلام اليزيدي بغوغائية الإدعاء والبرغماتية (النفعية) من خلال إتباعه للوسائل الإعلامية التالية:
1 ـ التّرهيب والترغيب:
اعتمد الخطاب الإعلامي اليزيدي من حيث الأولوية على منطق القوة وأدوات القهر، فقد ضرب يزيد بعرض الحائط وصية أبيه الذي أوصاه بأن لا يمس الحسين (عليه السلام) بسوء إذا أبى البيعة، فلما مات معاوية تواترت الأوامر من يزيد إلى ابن عمه الوليد ـ والي المدينة ـ بأخذ البيعة له من الناس عامة ومن الحسين بن علي (عليهما السلام) وابن الزبير بصورة خاصة.
وكان مروان بن الحكم من زعماء الأمويين في المدينة ورجل الظل في إمارة المدينة، متحمسا لتنفيذ تعليمات يزيد بحذافيرها وإجبار الحسين (عليه السلام) على البيعة ولو باستخدام القوة!.. فطلب من الوليد بأن يحبس الحسين (عليه السلام) حتى يبايع أو تُضرب عنقه. وهذا نص عبارته للوليد كمصداق جليّ لهذا النهج الإعلامي: «واللّه لئن فارقك الحسين الساعة ولم يُبايعْ لا قَدرت منه على مثلها أبدا حتى يكثرَ القتلى بينكم وبينه، احبس الرّجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه. فوثب عند ذلك الحسين (عليه السلام) وقال: أنت ـ يا ابن الزّرقاء ـ تقتلني أو هو؟! كذبتَ وأثِمْت»([1]).
وكان الوليد ومروان يبغيان إخضاع الحسين (عليه السلام) ليزيد، ولكن ذاك بالسياسة، وهذا بالتهديد.
ولم يتعرض الإمام (عليه السلام) وحده لحملة الترهيب اليزيدية، بل تعرض لها قبل ذلك ـ ولكن بصورة أخرى ـ رسوله وابن عمه مسلم بن عقيل رضى الله عنه ومن ناصره وبايعه في الكوفة، لمّا بلغ خبر مقتل هانئ بن عروة خرج مسلم (عليه السلام) بمن بايعه إلى مواجهة ابن زياد الذي تحصن بالقصر الأميري في الكوفة، وتمكن من إحكام الحصار عليه، ففكر ابن زياد في وسيلة يتمكن من خلالها من إلقاء الرعب في قلوب الكوفيين، فأمر بعض زعماء الكوفة، وكانوا يتملقون له ويكسبون رضاه من أجل الجاه والنفوذ، بالإشراف على الجماهير الغاضبة المحتشدة حول القصر، ومحاولة بث روح التخاذل بين صفوفها من خلال ترهيبهم بعسكر الشام القادم، فلم يزالوا يخاطبون الناس بأساليب الترغيب والترهيب حتى جاء الليل، فجعل أصحاب مسلم (عليه السلام) يتفرقون عنه، ويقول بعضهم لبعض ما نصنع بتعجيل الفتنة، أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتى يُصلح اللّه ذات بينهم!([2])، فلم يبق مع مسلم (عليه السلام) سوى عشرة أنفس.
وهكذا كان أثر الدعاية وأساليب الحرب النفسية التي استخدمها اليزيديون من أجل تبريد الهمم واحباط العزائم وبث روح التخاذل.
2 ـ التكذيب:
استخدمت هذه الوسيلة منذ أقدم العصور، فقد كانت الأقوام والأمم السالفة تتهم أنبياءها ومصلحيها بالكذب من أجل إلقاء ظلال من الشك على دعواتهم الخيّرة. وعلى هذا المنوال نسجت الدعاية اليزيدية عندما أوحت للسذّج من الناس بأن الحسين (عليه السلام) (وحاشاه ثم حاشاه) كذّاب ومفترٍ وغير مؤهل للخلافة! كما حاولت السلطة أن تسخّر بعض أنصار الحسين (عليه السلام)، الذين وقعوا أسارى في قبضتها من أجل اقناع الناس بمصداقية إعلامها، ولكن محاولتها هذه قد باءت بالفشل، عندما تقطعت حبال كذبها بفعل وعي وصلابة أنصار الحسين (عليه السلام) وإيمانهم بقائدهم وقضيتهم.
ومن الشواهد على هذا المنحى أن ابن زياد لما ألقى القبض على سفير الحسين (عليه السلام) إلى أهل الكوفة، وهو قيس بن مسهر الصيداوي، أمره أن يشرف على الناس من شرفة قصره، ويلعن الحسين (عليه السلام) ويُعلن للملأ أنه ـ حاشاه ـ كذّاب وابن كذّاب!.. فصعد الصيداوي إلى حيث أراد ابن زياد، ثم ألقى على الجموع التي جمعوها وحشدوها نظرة وابتسامة ثم صاح: «أيّها الناس، إنّ هذا الحسين بن علي خير خلق اللّه ابن فاطمة بنت رسول اللّه، وأنا رسوله إليكم فأجيبوه، ثمّ لعن عبيداللّه بن زياد وأباه، واستغفر لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وصلى عليه، فأمر به عبيداللّه أن يرمى به من فوق القصر، فرموا به فتقطّع»([3]) رحمة اللّه عليه.
ومن الشواهد الأخرى على هذا النهج المذموم أنّه «خرج يزيد بن معقل من معسكر عمر بن سعد، فقال: يا بُرير بن حُضير كيف ترى اللّه صنع بك؟! قال برير: صنع اللّه ـ واللّه ـ بي خيرا، وصنع اللّه بك شّرا! قال يزيد بن معقل: كذبت وقبل اليوم ما كنت كذّابا»([4]).
فهو ينسب الكذب لأحد أقطاب جبهة الحسين (عليه السلام) مع اعترافه الصريح بأنّه معروف بالصدق وما كان كذّابا! والأغرب من ذلك أنّ علي ابن قرظة كان في جبهة عمر بن سعد، وقد استشهد شقيقه عمرو بن قرظة الأنصاري في جبهة الحسين (عليه السلام)، فساءه ذلك، «فنادي، يا حسين! يا كذّاب ابن الكذّاب! أضللت أخي وغررته حتى قتلته؟! قال الحسين (عليه السلام): إنّ اللّه لم يضلّ أخاك، ولكنّه هدى أخاك وأضلّك! قال: قتلني اللّه إن لم أقتلك أو أموت دونك! فاعترضه نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه»([5]). فهو ينسب الكذب للحسين (عليه السلام) ريحانة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).
زد على ذلك أنّ ابن زياد لما أُدخل عليه عيال الحسين (عليه السلام) خاطب زينب (عليها السلام) بالقول: «الحمد للّه الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أُحدوثتكم. فقالت زينب: الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمد (صلى الله عليه وآله) وطهّرنا من الرجس تطهيرا، وإنّما يفتضح الفاسق ويكذبُ الفاجر، وهو غيرنا»([6]). وبذلك ألقمته حجرا.
3 ـ اللّعن والسّباب وكيل الاتهامات:
وهي سياسة أموية عريقة سنَّها معاوية في خلافه مع الإمام علي (عليه السلام) عندما اتهم عليا (عليه السلام) بتفريق كلمة المسلمين، وأمر عمّاله بسبّ أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر حتى وصل الأمر بمعاوية أنه قتل أُناسا لم يطيعوه في لعنه واتهامه لعلي (عليه السلام)، ولم يكتفِ بذلك، بل أخذ ينتحل الأحاديث القادحة في علي (عليه السلام) وصحبه الأبرار. وتوجد شواهد كثيرة على هذا الأسلوب الإعلامي غير الأخلاقي منها: لما ألقى ابن زياد القبض على مسلم بن عقيل (عليه السلام) أخذ يكيل له الاتهامات، ويُمطره بوابل من الشتائم وبكل ما يُشين.. قال له: «أخبرني يا مسلم، بماذا أتيت هذا البلد وأمرهم ملتئم، فشتت أمرهم بينهم، وفرقت كلمتهم؟ فقال مسلم (عليه السلام): ما لهذا أتيت، ولكنكم أظهرتم المنكر، ودفنتم المعروف، وتأمرتم على الناس بغير رضى منهم، وحملتموهم على غير ما أمركم اللّه به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنّة، وكنّا أهل ذلك»([7]). وبذلك أبطل جميع مزاعمه، وردّ الحق إلى نصابه، بأسطر قليلة لخّص فيها دواعي ثورة الحسين العظيمة.
أبعاد النهضة الحسينية، عباس الذهبي
([1]) الإرشاد، الشيخ المفيد 2: 33.
([2]) اللهوف: 34.
([3]) الإرشاد 2: 71، ومناقب آل أبي طالب 3: 245 مع اختلاف يسير.
([4]) مقتل أبو مخنف: 221، مؤسّسة النشر الإسلامي ـ قم.
([5]) المصدر السابق: 223.
([6]) الإرشاد 2: 115.
([7]) اللهوف: 36.