يتم التحميل...

المُتَّقُونَ في الدُّنْيا

شوال

«تَمَنَّ الحياةَ لتُطيعَ لا لتَعصي، فَلَئِن تعيشُ فتطيعُ خيرٌ لكَ مِن أن تموتَ فلا تعصيَ ولا تطيع».

عدد الزوار: 244



جاء رجلٌ إلى الإمامِ الصادقِ (عليه السلام) فقال: قد سئمتُ الدنيا، فأتمنّى على اللهِ الموت، فقال عليه السلام: «تَمَنَّ الحياةَ لتُطيعَ لا لتَعصي، فَلَئِن تعيشُ فتطيعُ خيرٌ لكَ مِن أن تموتَ فلا تعصيَ ولا تطيع».

تؤكّدُ الرواياتُ الواردةُ عن أهلِ البيتِ (عليه السلام) على تصحيحِ نظرةِ الإنسانِ إلى هذه الدنيا، فالتعلُّقُ بها معَ نسيانِ الآخرةِ خطأٌ يقعُ فيه الناس، وبهذا ينحرفون عن سلوكِ طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ منهجاً في حياتهم، كما أنَّ التخلّيَ التامَّ عنها وعدمَ السعيِ فيما أحلَّ اللهُ عزَّ وجلَّ منها خطأٌ آخرُ يقعُ فيه بعضُ الناس.

وفي حديثِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام) بيانٌ واضحٌ أنَّ طُولَ العمرِ ممّا يُطلَبُ إذا كان فيه ازديادٌ في التزوُّدِ للآخرةِ عبرَ الالتزامِ بطاعةِ اللهِ عزّ وجلّ، ولا يعني التعلّقُ بالآخرةِ أو محبةُ لقاءِ اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يتمنّى الإنسانُ الموت.

فالنظرةُ الصحيحة إلى هذه الدنيا هي أنها فرصةٌ للتزوّدِ للآخرة، إمّا عبر العملِ الصالحِ الذي يُدوَّنُ في صحيفةِ عملِ الخيرِ للمسلم، أو في التوبةِ التي تمحو السيّئات، وفي روايةٍ أنه دخلَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) على رجلٍ مريضٍ يعودُهُ، والرجلُ يشكو المرضَ الذي حلّ به، فتمنّى الموت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «لا تتمنَّ الموت، فإنك إن تكُ مُحسِناً تزدَدْ إحساناً إلى إحسانِك، وإن كنتُ مسيئاً فتؤَخَّرَ لِتَستعتِبَ، فلا تَمَنَّوُا الموتَ».

وقد تجتمعُ للإنسانِ الدنيا والآخرةُ إذا أَحْسَنَ الاستفادة، يقولُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام): «وكَذَلِكَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ الْبَرِيءُ مِنَ الْخِيَانَةِ، يَنْتَظِرُ مِنَ اللَّه إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا دَاعِيَ اللَّه فَمَا عِنْدَ اللَّه خَيْرٌ لَه، وإِمَّا رِزْقَ اللَّه فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ ومَالٍ، ومَعَه دِينُه وحَسَبُه، وإِنَّ الْمَالَ والْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا، والْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الآخِرَةِ، وقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّه تَعَالَى لأَقْوَامٍ».

إنّ حالةَ التمنّي للموتِ تكونُ بسببِ أحدِ أمرين:

1- كثرةُ المصائبِ والابتلاءات: وفي هذا غفلةٌ عن حقيقةِ هذه الدنيا؛ لأنّ القاعدةَ فيها "الأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ" كما وصفها أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام)، ويقولُ (عليه السلام) : «دَارٌ بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ، وبِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ، لَا تَدُومُ أَحْوَالُهَا، ولَا يَسْلَمُ نُزَّالُهَا». فالدنيا لا يدومُ فيها الهناءُ والسعادة؛ لأنها ليست دارَ مستقَرٍّ لهذا الإنسان، يقولُ الإمامُ عليٌّ (عليه السلام): «لَا يَدُومُ رَخَاؤُهَا، ولَا يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا، ولَا يَرْكُدُ بَلَاؤُهَا».

2- دعوى الشوق للآخرة: وهذا أمرٌ ممدوحٌ تماماً، ولكن دونَ أن يعنيَ ذلكَ العزوفَ عن العيش فيها والاستفادةِ منها، ولذا القاعدةُ فيها ما ورد عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «بِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الآخِرَةُ»، فهي وسيلةُ الوصولِ إلى مقامِ القربِ منَ اللهِ عزَّ وجلّ.

ويصفُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) المتّقينَ الذين نالوا الدنيا والآخرة، فيقولُ (عليه السلام): «واعْلَمُوا عِبَادَ اللَّه، أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وآجِلِ الآخِرَةِ، فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، ولَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ، سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ، وأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ، فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِه الْمُتْرَفُونَ، وأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَه الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ، ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ والْمَتْجَرِ الرَّابِحِ، أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ، وتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّه غَداً فِي آخِرَتِهِمْ، لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ ولَا يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ».

وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين

 
2020-06-08