|
بسم الله الرحمن الرحيم
زينب(عليها السلام): جبل الصبر
في عاشوراء الحسين (عليه السلام)، بعد أن قتل شباب بني هاشم وقطّعت أجسادهم إرباً إرباً، وبعد أن تحمّلت زينب كلّ تلك الآلام والحرقات في عين الله، وفي اللحظات الأخيرة تقدّمت إلى المقتل، وجدت جسد الحسين المجروح والمدمّى والمقطّع، وضعت يديها تحت جسده الشريف وقالت: «اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان».
زينب(عليها السلام): استقامة قلّ نظيرها
إنّ مقارنة سريعة بين زينب الكبرى(عليها السلام) وبين زوجة فرعون تُظهر لنا عظمة مقام السيّدة زينب الكبرى(عليها السلام). تحدّث القرآن الكريم عن زوجة فرعون بوصفها نموذج الإيمان للرجال والنساء علی مرّ الزمان وإلى آخر الدنيا. ثمّ لكم أن تقارنوا زوجة فرعون التي آمنت بموسى وانجذبت إلی تلك الهداية التي جاء بها موسى؛ وحينما كانت تحت ضغوط التعذيب الفرعونيّ- والذي توفيّت بسببه حسب ما تنقل التواريخ والروايات- فقد جعلها التعذيب الجسمانيّ تصرخ: {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} (التحريم: 11)، طلبت من الله تعالی أن يبني لها بيتاً عنده في الجنّة.. وفي الواقع هي طلبت الموت وأرادت أن تفارق الحياة {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ}.
في حين كانت مشكلة السيّدة آسية زوجة فرعون من قبيل الألم والعذاب الجسمانيّ ولم تكن كالسيّدة زينب، التي فقدت عدّةً من إخوتها واثنين من أبنائها وعدداً كبيراً من أقاربها وأبناء إخوتها ساروا أمام عينيها إلی مصارعهم.
هذه الآلام الروحيّة التي تحمّلتها زينب الكبرى لم تتعرّض لها السيّدة آسية زوجة فرعون. رأت السيّدة زينب بعينيها يوم عاشوراء كلّ أحبّتها يسيرون إلی القتل ويستشهدون: الحسين بن عليّ (عليهما السلام) سيّد الشهداء والعبّاس وعليّ الأكبر والقاسم وأبناءها هي، وباقي إخوتها رأتهم كلّهم. وبعد استشهادهم شهدت تلك المحن كلّها: هجوم الأعداء وهتك الحرمات، وحملت مسؤوليّة رعاية الأطفال والنساء.
فهل يمكن مقارنة عظمة هذه المصائب وشدّتها بالمصائب الجسمانيّة؟ ولكن مقابل هذه المصائب كلّها لم تقلّ السيّدة زينب لله تعالی: «ربِّ نجِّني»، بل قالت حينما رأت الجسد المبضّع لأخيها أمامها فتوجّهت بقلبها إلی خالق العالم وقالت: «اللهمّ تقبّل منّا هذا القربان». وحينما تُسأل كيف رأيتِ [صنع الله]؟ تقول: «ما رأيت إلّا جميلاً». هذه المصائب كلّها جميلة في عين زينب الكبرى؛ لأنّها من الله ولأجله وفي سبيل الله وفي سبيل إعلاء كلمته. فيا لهذا المقام المتقدّم في الصبر وهذا العشق للحقّ والحقيقة!
إنّ بقاء دين الإسلام، وبقاء الطريق إلى الله، ومتابعة السير على هذا الطريق من قبل عباد الله، يستند إلى العمل الذي قام به الحسين بن عليّ (عليهما السلام) وما قامت به السيّدة زينب الكبرى(عليها السلام).
زينب(عليها السلام) وامتلاك البصيرة
إنّ قيمة زينب الكبرى(عليها السلام) وعظمتها ناتجتان من موقفها وحركتها الإنسانيّة والإسلاميّة العظيمة انطلاقاً من التكليف الإلهيّ.
الجانب الأساس من عظمتها أنّها أوّلاً: شخّصت الوقت المناسب؛ سواء الوقت الذي سبق توجّه الإمام الحسين (عليه السلام) إلى كربلاء، أو ظرف اللحظات العصيبة في يوم عاشوراء، أو ظرف الحوادث القاصمة للظهر بعد شهادة الإمام (عليه السلام)؛ وثانياً: أنّها اختارت موقفاً مناسباً لكلّ ظرف. هذه المواقف كانت هي من صنعت زينب (عليها السلام).
قبل التوجّه إلى كربلاء، نجد وجهاء، كابن عبّاس وابن جعفر وشخصيّات معروفة في صدر الإسلام، ممّن يدّعون الفقاهة والشهامة والرئاسة، قد تحيّروا ولم يعرفوا ماذا يفعلون، ولكنّ زينب الكبرى لم تُصب بالحيرة، وأدركت الطريق الذي يجب أن تسلكه، ولم تترك إمامها وحيداً وتمضي. لا لأنّها لم تكن مدركة لصعوبة الطريق، بل كانت تدركه أفضل من غيرها. لقد كانت امرأةً حاضرة لأن تنفصل عن زوجها وعائلتها في سبيل أداء المهمّة، ولهذا أحضرت أطفالها وأبناءها معها. كانت تشعر بحجم الواقعة.
في تلك الساعات العصيبة حيث لا يقدر أقوى النّاس على إدراك ما ينبغي أن يفعل، أدركت ذلك ودعمت إمامها وجهّزته للشهادة. بعد شهادة الحسين بن عليّ (عليهما السلام)، وحين أظلمت الدنيا وتكدّرت القلوب والنفوس وآفاق العالم، أضحت هذه السيّدة الكبرى نوراً ساطعاً.
لقد وصلت زينب إلى حيث لا يصل سوى أعظم النّاس في تاريخ البشريّة؛ أي الأنبياء (عليهم السلام).
حكمة زينب(عليها السلام) وصلابتها في ثورة عاشوراء
من أراد أن يفهم أيّ عظمة كانت لزينب(عليها السلام) لا بدّ من أن يتعرّف على تلك الأوضاع والظروف التي عايشتها(عليها السلام)، وأن يلمسها، وأن يدرك العمل الذي قامت به(عليها السلام).
ففي السفر مع أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) توجد شدائد وأخطار، ومصاعب ومتاعب شخصيّة، مضافاً إلى المسؤوليّة.
كانت زينب الكبرى(عليها السلام) تدرك أنّه لو افتقدت أخاها الحسين (عليه السلام)، فقد كان في انتظار هذا الجمع مصيرٌ فيه المرارة والتعقيد؛ ومع ذلك واجهت عباب أمواج البحر وأضحت كرجل بقابليّات علويّة، كأمير المؤمنين (عليه السلام)، كالنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، ومثل أخيها الإمام الحسين نفسه (عليه السلام)، ودخلت هذا الميدان الصعب والشديد التعقيد. ثمّ في المراحل كلّها، أدّت دور حكيمِ شجاع قدير يمتاز بجاذبيّة باهرة. وكأنّها قد خطّطت لبرنامجها من قبل، وتحرّكت بناءً عليه خطوة خطوة، فلم تفاجئها الحوادث؛ وكأنّها قد تنبّأت بجميع هذه الحوادث وتوقّعتها ورأتها. وكان في يدها لكلّ حادثة جوابها وعلاجها المناسب وعملت طبقاً لذلك. على سبيل المثال: ليلة عاشوراء، صباح العاشر، ظُهر العاشر، عصر العاشر، ليلة الحادي عشر، عندما التهمت النيران الخيام، أثناء الخروج من كربلاء مع جمع من النساء والأطفال بدون راع أو كفيل، ومع ابن أخ عليل لا يقوى على الوقوف أو الجلوس؛ كانت هكذا في مثل هذه الظروف وفي تلك الأوضاع كلّها.
الصبر والحكمة في سلوك السيّدة زينب(عليها السلام)
عندما يُبتلى الإنسان بمصيبة ما فإنّه لا يستطيع القيام حتّى بأعماله اليوميّة. عندما يكون مضطرباً، يواجه مشكلة ما تجلس على صدره كجبل؛ فهو يفتقد القوّة والنشاط حتّى للصلاة التي يريد القيام بها.
في ذلك الوقت، كانت هناك امرأة مع كلّ ذلك الحزن، مع جبال الغمّ الثقيلة، مع معاينتها لمقتل أولئك الرجال، وتلك الشدائد، استشهاد أبنائها، إخوتها، تشرذم عائلتها، وقد أحاطت بها تلك الحادثة المرّة، ولم يكن هناك في العالم كلّه آنذاك عين تدمع لها أو تغتمّ لحالها؛ مثل ذلك الغمّ الكبير وتلك الحادثة القاسية والقاصمة للظهر يمكن أن يُحطِّما الكبار والعظماء؛ في ذلك الوقت تدافعت عشرات الحوادث القاسية والمرّة على امرأة، لكنّها مضافاً إلى أنّها لم تضعف ولم تفقد صوابها؛ فهي لم تعجز أيضاً عن التصميم واتّخاذ القرار، بل أدارت الأمور وتدبّرت الأحوال على أفضل وجه، وبقيت بكامل قدرتها ومهارتها توجّه دفّة تلك السفينة التي تقطّعت وتحطّمت بفعل تلاطم أمواج عاتية، وتحافظ عليها وترعاها للوصول إلى المقصد المطلوب؛ هذه هي عظمة زينب.
في ذلك العالم الصعب، بقدر ما كانت شهادة الحسين (عليه السلام) شامخة متألّقة وتختلف عن أيّ شهادة أخرى؛ كان لزينب(عليها السلام) ولحركتها ذلك القدر من العظمة أيضاً.
ليست عظمة زينب(عليها السلام) في صبرها وحسب؛ إنّما في اجتماع كلّ الخصوصيّات المتألّقة لإنسان عظيم وشخصيّات التاريخ العظيمة في هذه المرأة، إذ أوصلت هذا الحمل خلال تلك الأيّام الأخيرة من شهر محرّم حتّى رجوعها إلى المدينة وأودعت الأمانة وأتمّت مسؤوليّتها، حيث أدارت- خلال شهر أو شهرين- أعظم الحوادث على أفضل وجه وبحكمة متعالية؛ هي إنسانة ذات امتياز عظيم.
زينب(عليها السلام) ومواجهة الطاغية
انظروا كيف واجهت زينب الكبرى(عليها السلام)، وهي مسبيّة، أقوى سلاطين عصرها، ذلك السلطان الظالم السفّاك، قائلةً له: «كِدْ كيدك واسعَ سعيك، فوالله لا تمحو ذكرنا»؛ ولو كانت القوّة الماديّة قادرة على هذا لما قصّر ذلك الظالم في فعله، ولما خُذلت القوى الماديّة عنه اليوم.
خلود عاشوراء؛ مقتضيات السنّة الإلهيّة
برأيي، إنّ زينب الكبرى(عليها السلام) هي التي شيّدت بناء حفظ الوقائع بالأدب والفنّ. ولولا حركة وجهود السيّدة زينب، ومن ثمّ بعد تلك السيّدة العظيمة أيضاً لولا أعمال الأئمّة (عليهم السلام): الإمام السجّاد وبقيّة الأئمّة (عليهم السلام)، لم تكن لتبقى حادثة عاشوراء على مرّ التاريخ.
نعم، إنّ السنّة الإلهيّة تقضي أنّ مثل هذه الحوادث والوقائع تخلّد في التاريخ؛ إلّا أنّ السنن الإلهيّة كلّها، تقتضي أن تتحقّق نتيجتها من خلال طرق وآليّات محدّدة. وإنّ آليّة بقاء هذه الحقائق في التاريخ هي في أن يضع أصحاب السرّ وأهل الألم والأمناء عليها، والذين اطلعوا على هذه الدقائق، أن يضعوها بين النّاس.
والبيان الفنّي هو الأصل؛ مثلما كانت خطبة زينب(عليها السلام) في مدينة الكوفة، وفي مدينة الشام هو من ناحية جاذبيّة البيان وجماله آية في البيان الفنّي؛ بالنحو الذي لا يمكن، أساساً، لأي شخص التغاضي عنه. فعندما يسمع أيّ مخالف أو خصم هذا الخطاب سينزل عليه كالطلقة القائلة وكالسكين القاطع، شاء أم أبى، سيفعل هذا العمل فعله. وإنّ تأثير الفنّ لا علاقة له بمشيئة الشخص الذي هو مخاطب بالفنّ. فهو شاء أم أبى سيترك هذا الأثر. فالسيّدة زينب والإمام السجّاد (عليهما السلام)في خطبتيهما البليغتين في مسجد الشام قد فعلا هذا الأمر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
|
زينب وعَظَمة حضور المرأة
زينب الكبرى (عليها السلام) أحد نماذج التاريخ البارزة التي تُظهر عظمة حضور إمرأة في إحدى أهمّ قضايا التاريخ. عندما يُقال إنّ الدم انتصر على السيف في واقعة كربلاء وهو كذلك، فإنّ عامل هذا الانتصار هو زينب (عليها السلام)؛ وإلّا فإنّ الدم في كربلاء قد انتهى. واقعة عسكريّة تنتهي بهزيمة ظاهريّة لقوى الحقّ في ميدان عاشوراء؛ أما ذلك الشيء الذي أدّى إلى تبديل هذه الهزيمة العسكريّة الظاهريّة إلى انتصار قطعيٍّ دائم فهو زينب الكبرى (عليها السلام) بمفردها؛ الدور الذي قامت به زينب (عليها السلام)؛ أمرٌ في غاية الأهمية. وقد دلّت هذه الواقعة على أنّ المرأة ليست موجودة على هامش التاريخ؛ بل هي في صلب الأحداث التاريخيّة الهامّة.
|
الأربعون؛ حركة امتداد عاشوراء
لم يكن مجيء أهل بيت الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أرض كربلاء -أصل مجيئهم هو محلّ اتفاق؛ لكن غير معلوم أنّ ذلك هل كان في السنة الأولى أم الثانية- بهدف بثّ لواعج القلوب وتجديد العهد مثلما يتردّد أحياناً على بعض الألسنة؛ فالمسألة أرفع من ذلك بكثير، فلا يصحّ حمل أعمال شخصيّة كالإمام السجّاد أو كزينب الكبرى (عليهما السلام) على هذه المسائل العاديّة الرائجة في الظاهر؛ إذ ينبغي البحث في أعمال وتوجّهات شخصيّات بهذه العظمة عن أسرار أكبر. ففي الحقيقة كانت مسألة القدوم إلى مزار سيّد الشهداء امتداداً لحركة عاشوراء. فقد أرادوا من خلال هذا العمل أن يفهموا أتباع الحسين بن عليّ (عليهما السلام) وأصحاب عائلة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والمسلمين الذين وقعوا تحت تأثير هذه الحادثة أنّها لم تنتهِ، وأنّ المسألة لا تنتهي بالقتل والدفن والأسر، ومن ثمّ تحرير الأسرى؛ بل هي مستمرّة. تُذكّر الشيعة أنّ هنا محلّ اجتماعكم، وهنا الميعاد الكبير الذي سيعيد التذكير بهدف المجتمع الشيعيّ والهدف الإسلاميّ الكبير لمجتمع المسلمين.
لقد كان مجيء آل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والإمام السجّاد وزينب الكبرى (عليهما السلام) إلى كربلاء لهذا الغرض.