يتم التحميل...

فلسفة الطب في النظريات الغربية ونقدها

المجتمع الإسلامي

لاشك أن للنظام الاجتماعي الإنساني مصلحة حقيقية في إنشاء نظام صحي متكامل لعلاج الأمراض وللحفاظ على نظافة المجتمع من الأوبئة والأمراض المعدية، حتى يتم استثمار طاقات العمال الأصحاء بطريقة يكون مردودها الإنتاجي متناسباً مع حجم قابليات ذلك النظام...

عدد الزوار: 91

لاشك أن للنظام الاجتماعي الإنساني مصلحة حقيقية في إنشاء نظام صحي متكامل لعلاج الأمراض وللحفاظ على نظافة المجتمع من الأوبئة  والأمراض المعدية، حتى يتم استثمار طاقات العمال الأصحاء بطريقة يكون مردودها الإنتاجي متناسباً مع حجم قابليات ذلك النظام. وعلى هذا الأساس فان من مصلحة النظام الاجتماعي مثلاً، تحديد: (من هو المريض؟)، ومن مصلحة النظام الاجتماعي أيضاً معرفة من يصطنع المرض كي يجد مخرجاً يهرب فيه من أداء الواجبات الاجتماعية المناطة به.

وهذه الفكرة دعت (تالكوت بارسنز)، وهو احد رواد النظرية التوفيقية، الى القول بان المرض ليس ظاهرة بيولوجية فحسب، بل انه ظاهرة اجتماعية أيضاً1. فالمجتمع الإنساني لا يتطور تطوراً طبيعياً ما لم يقم الأفراد جميعاً بأداء أدوارهم الاجتماعية في كل الأوقات. فإذا تعرض احدهم لمرض من الأمراض أصبح دوره الاجتماعي شاغراً لأنه لا يستطيع القيام بتأدية ذلك الدور المناط به اجتماعياً. والنتيجة، أما أن يحال ذلك الدور إلى فرد سليم من الناحية الصحية، وإما أن يبقى شاغراً دون شاغل يشغله. وهذا التبدل في الأدوار الاجتماعية يسلط ضغطاً ويولد إرباكاً ضد الحركة الطبيعية للنظام الاجتماعي. وبما أن المرض عامل اجتماعي سلبي على الإنسان، فان نزوله بعضو من أعضاء النظام الاجتماعي يضع ذلك المجتمع وجهاً لوجه أمام مسؤولياته في التعامل مع ذلك المريض. ولذلك فان الجهة التي تحدد المرض يجب أن تتمتع بشرعية قانونية يقرها النظام الاجتماعي، حتى تستطيع تعويض الخسارة الاجتماعية التي يجلبها المرض على الفرد والعائلة والنظام الاقتصادي والاجتماعي بشكل عام.

ولكن هذه النظرية لا تخلو من مفارقات وأخطاء، فهي تصب جل اهتمامها على الأمراض غير المزمنة كالأنفلونزا وأمراض الجهاز الهضمي والبولي، وهذه أمراض يتم علاجها في فترة قصيرة نسبياً، ولكنها تهمل أمراضاً مزمنة يصعب علاجها بفترة قصيرة كأمراض تضخم  الأنسجة (السرطان)، وأمراض نقص المناعة الحاد، والأمراض المؤدية إلى فشل القلب في تأدية نشاطه الطبيعي، حيث لا يستطيع المريض في هذه الحالات المزمنة إيجاد شفاء عاجل لمرضه. وازدياد عدد الأمراض المزمنة يؤدي إلى استهلاك موارد النظام الاجتماعي، بشكل لا يرتضيه النظام الرأسمالي لنفسه، لان الفكرة الرأسمالية تستند بالأصل على الربح والخسارة. وأية خسارة تتجاوز الخطوط المرسومة لا يحتملها النظام الاجتماعي.

أضف إلى ذلك أن نظرية (تالكوت بارسنز) تركز على الطب العلاجي وتهمل فرضية الوقاية التي أشار إلى بعض مواردها القرآن المجيد، كما تناولنا ذلك في النظام الوقائي في الإسلام. ونضيف ثالثاً، بان المجتمع الرأسمالي لو امتثل للمقولة المأثورة (الوقاية خيرٌ من العلاج) لأنقذ حياة الملايين من الأفراد الذين يموتون بسبب مخالفتهم هذه القاعدة الصحية. ففي العقد الأخير من القرن العشرين يموت في الولايات المتحدة بسبب عادة سيئة واحدة يمكن الوقاية منها ـ وهي التدخين وما يترتب عليها من أمراض، كسرطان الرئة والفم والبلعوم ـ أكثر من 350 ألف فرد سنوياً2. ويكلف هؤلاء النظام الصحي الأمريكي، من أدوية وعناية طبية قبل موتهم مبلغاً يقدر بأكثر من عشرين بليون دولار3. ولكن لو طبق نظام الوقاية لوفر على ذلك المجتمع هذا المبلغ الكبير من المال، وأرجع قسماً من هؤلاء إلى أعمالهم وإنتاجهم.

أما نظرية الصراع الاجتماعي، فإنها اعتبرت المعافاة الصحية مصدراً من مصادر القوة الاجتماعية التي اهتم بها الرأسماليون4. ولما كان المجتمع الرأسمالي مبنياً على المنافسة الاقتصادية، فان المنافسة للسيطرة على النظام الصحي تحمل معها كل معاني المنافسة الاقتصادية، لان النظام الصحي يدر على الطبقة الرأسمالية مقداراً هائلاً من الثروة، ناهيك عن اندماج قادة النظام الصحي في العملية الرأسمالية، وخصوصاً عمليات الاستثمار وما يصحبها من قدرة على تحويل القوة الاقتصادية إلى قوة سياسية. وإذا كان توزيع الثروة في المجتمع الرأسمالي محصوراً في الطبقة الرأسمالية القوية، فان النظام الصحي ـ بكل ما يجلبه من خيرات سيكون حتماً ـ في قبضة اليد الرأسمالية، لان هذا النظام الصحي يمثل الطرف المنتصر في عملية الصراع الاجتماعي.

ولكن النظرية تتجاهل دور المؤسسة الصحية في التعامل مع الأمراض على مستوى جميع الطبقات الاجتماعية. فتلك المؤسسة هي التي تقوم بتلقيح جميع الأفراد باللقاحات الطبية قبل انتشار الأوبئة، وهي التي تقوم بتنظيم قوانين الصحة العامة كتعقيم الحليب ضد الجراثيم، وتنقية مياه الشرب، وفحص الطعام المطبوخ في المطاعم العامة، والسيطرة على الحشرات الناقلة للأمراض كالبعوض والذباب والقمل. وهذه الأنشطة الصحية لا تختص بطبقة دون أخرى بل تشمل كل الطبقات الاجتماعية الفقيرة والغنية.

وفي ختام هذا الفصل لابد أن نؤكد على فشل النظريات الغربية في التعامل مع المرض والنظام الحياتي والاجتماعي للفرد. ولا يبقى لنا لمعالجة هذا الأمر إلا النظرية القرآنية التي تتعامل مع جسم الإنسان عن طريقي الوقاية والغذاء، فنقول: إن التقدم العلمي المعاصر في الطب، لم يقلل عدد الأمراض التي يعاني منها المجتمع الغربي الرأسمالي، حتى أن (النظرية الجرثومية) التي أبهرت العالم في القرن التاسع عشر لم يعد لها رصيد أمام أمراض الحضارة الرأسمالية الحديثة مثل السرطان، وأمراض القلب، وانتفاخ الرئة، والشلل، وأمراض نقص المناعة المكتسبة. بل أصبح النظام الصحي الرأسمالي بكل تقدمه العلمي الجبار عاجزاً عن علاج هذه الأمراض الحديثة لان هذه الأمراض الخطيرة التي يعاني منها الفرد الغربي تقاوم وتتحدى الطب الحديث بكل قواه ومؤسساته وإمكانياته الكبيرة. وعلاج أمراض السرطان والقلب والقرحة تكلف مالاً أوفر، وتتطلب وقتاً أطول. ومن المؤكد أن أمراض الحضارة الحديثة تبقى ما بقيت الحضارة الرأسمالية تستثمر الأرض بشكل جنوني لاعتصار أقصى قدر ممكن من الخيرات. فمصانع الحديد والصلب والكيميائيات ومصانع الذرة تلوث البيئة الإنسانية، مسببة أمراضاً بشرية لم يعرف لها الإنسان القديم اسماً ولا شكلاً. بل إن هذه الحضارة جلبت للإنسانية أمراضاً وأوجاعاً لم تأت بها أية حضارة إنسانية أخرى على مر التاريخ.

إن أمراض القلب ـ مثلاً ـ تعتبر من أمراض الحضارة الحديثة. وسببها:

أولاً
: كثرة تناول اللحوم الحمراء وهي لحوم الغنم والبقر والخنزير الحاوية على نسبة عالية من الشحوم الحيوانية.

وثانياً: إن شره الأفراد في المجتمع الرأسمالي لتناول هذه اللحوم لا يحدها حد طبي أو قانوني، لان اختيار الطعام مسألة متعلقة بالحرية الشخصية، التي هي أساس المبدأ الرأسمالي. فلا يحق لأية جهة طبيةٍ التدخل قانونياً لتنظيم حرية الأفراد الشخصية. ولذلك فان أمراض القلب التي تؤدي إلى الوفاة، تعتبر من أكثر الأمراض انتشاراً في الولايات المتحدة في القرن العشرين5. ولكن آية قرآنية واحدة تستطيع أن تقضي على هذه المشكلة الصحية الخطيرة بكل بساطة. هذه الآية تدعو إلى الاعتدال في الأكل والشرب  ويضمنها الاعتدال في أكل اللحوم، فتقول: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ6. وكل من يشذ عن هذه القاعدة يدخل في متاهات الإدمان والاضطراب الصحي التي تؤدي إلى الموت.

والخلاصة: إن المؤسسة الطبية الرأسمالية تساعد على تخفيف آلام العديد من الأمراض، ولكنها لا تستطيع محو نتائجها المتوقعة التي تؤدي في النهاية إلى الوفاة. ولا نشك أن الطبقة الرأسمالية المتحكمة تعلم أن الوقاية وتحسين نوعية الغذاء أسلم وأرخص الطرق لتكامل المجتمع الإنساني صحياً: إلا أنها لا تريد تغيير نظامها الصحي، لان الوقاية وتحسين نوعية الغذاء لا تدر عليها أرباحاً هائلة كما يدرها النظام الصحي القائم اليوم. أضف إلى ذلك أن أنصار الفكرة الرأسمالية متمسكون بالمبدأ الرأسمالي الذي يترك للفرد حرية تقرير المصير ـ فيما يتعلق بإشباع الشهوات الفردية ـ حتى لو كانت أضرار ممارسة تلك الشهوات ـ طبياً ـ واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار.

*:النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي،أمير_قم،ص165-170.


1- (تالكوت بارسنز). بحوث في النظرية الاجتماعية. نيويورك: المطبعة الحرة، 1954 م.
2- (وليام كوكرهام). علم الاجتماع الطبي. نيوجرسي: برنتس ـ هول، 1986 م.
3- (ديفيد ميكانيك). قراءات في علم الاجتماع الطبي. نيويورك: المطبعة الحرة، 1980 م.
4- (هاورد ويتكن). المرض الثاني: تناقضات العناية الصحية الرأسمالية. شيكاغو: مطبعة جامعة شيكاغو، 1986 م.
5- (ري ايلنك). دراسة قومية حول الأنظمة الصحية. نيوجرسي: الكتب التجارية، 1980 م.
6- الأعراف:31.

2009-11-09