نظرية التعليم في القرآن
المجتمع الإسلامي
تتلخص هذه النظرية بفكرتين، وهما: (القراءة)، و(التسخير). فقد اختصر الإسلام نظريته في التعليم بأول كلمة وحي من الباري عز وجل نزلت على قلب الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي كلمة: (اقرأ...). ومع أن هذه الجملة في الآية الكريمة تفيد خصوص القراءة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم...
عدد الزوار: 106
تتلخص هذه النظرية بفكرتين، وهما: (القراءة)، و(التسخير). فقد اختصر الإسلام نظريته في التعليم بأول كلمة وحي من الباري عز وجل نزلت على قلب الرسول العظيم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي كلمة: (اقرأ...). ومع أن هذه الجملة في الآية الكريمة تفيد خصوص القراءة للرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن مقتضاها أوسع من ذلك. فتوجيه صيغة الأمر بالقراءة سيساعد المكلفين حتماً على فهم الأحكام الشرعية وتطبيقها، ويساعدهم أيضاً على قراءة القرآن والتفكر في آياته العظيمة، وعلى تنشيط عقولهم لتطوير الحياة الإنسانية في مختلف مجالاتها الاقتصادية والاجتماعية. وفي المشهور: "اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد"، وقوله عليه السلام: "أيها الناس اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به، وان طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال"1، دلالة على أن طلب العلم والتفقه يشمل المسلمين عموماً ولا يختص بفئة دون أخرى. فكمال الدين إذن ـ حسب الرواية ـ والسمو في فهم الأحكام الشرعية وعللها، لا يتم إلا عن طريق طلب العلم والاجتهاد في تحصيله. وبذلك، فإن الإسلام وضع العلم على سلم الحاجات البشرية التي ينبغي إشباعها.
وليس هناك أدنى شك من أن الأعمال التي يقوم بها الفرد في حياته العملية تحتاج إلى كمية من العلوم، تقدرها المصلحة الاجتماعية. فالطب وتخطيط المدن وجمع الحطب مثلاً تحتاج إلى علوم تتناول تلك الاختصاصات. فعلم التشريح والعقاقير والكيمياء يطور علم الطب، ودراسة القياسات ومعرفة علم المساحة وتربة الأرض ومواد البناء تساعد في علم تخطيط المدن، ودراسة الأشجار وأخشابها وطريقة قطعها وأسلوب نقلها يساعد الأفراد المهتمين بعملية جمع الحطب واستخدامه في عملية توليد الطاقة. وفي كل تلك الأمثلة يكون العلم الاختصاصي هو المحور والمدار في تطوير المهنة التي يقوم بها العامل المختص. وبطبيعة الحال، فان الاختصاص ليس القطب الوحيد الذي عرضه الإسلام ضمن اهتمامه بالعلوم التطبيقية، بل طرح فكرة التسخير أيضاً، باعتبارها منهجاً عملياً للتفاعل الاجتماعي: ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾2. وهي إشارة ـ كما ذكرنا سابقاً ـ إلى أن النظام الاجتماعي لا يحيا إلا عن طريق تسخير جهود الأفراد الشخصية لخدمة بعضهم البعض في شتى المجالات الحياتية الضرورية للبقاء البشري على الأرض، حيث تقوم العلوم التخصصية في عملية التسخير بدور العامل المساعد في تطوير تلك العملية وتسهيلها خدمة للنظام الاجتماعي العام وأفراده. ولم تتوقف فكرة التسخير على الأعمال اليدوية والأعمال القائمة على الجهد الإنساني العضلي، بل تعدت إلى الجهد العلمي والفكري الذي يقوم به الإنسان. ومن ذلك، الجهد العلمي الذي يؤدي إلى الاجتهاد في علوم الدين، وبالخصوص الفقه والأصول. وعملية الاجتهاد هذه، تعتبر جزءاً من نظرية التسخير، فاجتهاد المجتهد وعلمه ينبغي أن يسخر كلياً لخدمة الأمة، بالتوافق مع حاجتها، وبالتناسب مع طموحاتها في إنشاء نظام اجتماعي سياسي ديني متكامل.
ولكن الحركة الاجتهادية في الفقه والأصول قاست في العصور الإسلامية الأولى انعزالاً سياسياً أدى إلى تحديد الهدف الاجتماعي من التعليم. فبدلاً من تعميم مفهوم التعليم وجعله حقاً لكل فرد، سعت السلطات السياسية الحاكمة إلى الحفاظ على مستوى من الجهل والتخلف الفكري السائد بين الأفراد آنذاك، لأن السلطات كانت تشعر أن نشر العلم بين أفراد الأمة سيؤدي إلى هز الكيان السياسي الظالم وتقويض أركانه. وكان من نتائج هذا الانعزال تقلص النظرة الاجتماعية للفقه الإسلامي، وظهور الاتجاه الفقهي الذي يهتم بشؤون الفرد أكثر من اهتمامه بشؤون الأمة. وانصب اهتمام الفقهاء بالحث على تحصيل العلوم الدينية المتمثلة بالفقه والأصول وعلوم الحديث واللغة والمنطق بالقلة المختارة من الأفراد، بينما أهمل تعليم الأفراد عموماً، بل أن الأمة الإسلامية باتت على قسمين، القسم الأول والأكبر سماهم الفقهاء بـ (العوام من الناس) وهم الذين لا يجيدون القراءة، والثاني: وهم الطلبة والعلماء. وهذه التسمية في حد ذاتها تعطي انطباعاً ظاهرياً بان العلم في الإسلام إنما وجد للخاصة فحسب، وبقية الناس ينطبق عليهم اصطلاح العوام. وكأن التكليف الشرعي لا يحث المكلف على طلب العلم والتحصيل ! ولا نشك أن اللوم في هذا الفكر المتخلف يقع كلياً على السلطات السياسية المنحرفة التي حكمت الأمة الإسلامية قروناً عديدة، فسلبت من أيدي الفقهاء العدول كل أدوات السلطة التنفيذية، وأرادت للأمة الإسلامية ـ بجميع أفرادها ـ التخلف عن ركب العلم والحضارة، حتى يتم لتلك الفئة المنحرفة السيطرة على مقدرات النظام الاجتماعي بشكل تام. ولا يحمل اصطلاح الفقهاء هذا غير معنى الاختصاص، فسمي الفقهاء (علماءً) لا ختصاصهم بعلمي الفقه والأصول، وسمي غيرهم (عواماً) لجهلهم علمي الفقه والأصول. ويكفينا، لفهم موقف الإسلام من العلم وضرورة التعليم الجماعي للمسلمين، أن نتذكر ما حصل في معركة بدر المظفرة من أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بإطلاق سراح أسرى المشركين، شرط أن يعلم الأسير الواحد منهم عشرة مسلمين القراءة والكتابة.
ولا ريب أن التأكيد على التعليم الجماعي كان قد ورد في أحاديث أهل البيت عليهم السلام في القرن الأول الهجري. فالإمام علي بن الحسين عليه السلام في رسالته الحقوقية يدعو بصراحة إلى منح الأفراد حق التعليم، ويعلق هذا الحق بواجبات السلطة السياسية التي من مسؤوليتها بناء النظام الاجتماعي، ويقول عليه السلام: "وأما حق رعيتك بالعلم، فان تعلم أن الله قد جعلك لهم فيما آتاك من العلم وولاك من خزانة الحكمة... فان أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم ولم تضجر عليهم زادك الله من فضله"3.
ولكن تحديد المسار التعليمي الذي تنتهجه الدولة لابد وان يكون مرتبطاً بخطة عامة، يضعها متخصصون بشؤون التعليم، تستهدف رفع المستوى الثقافي للأمة الإسلامية. وهذا لا يتم إلا بتصميم نظام تعليمي مبني على منهج علمي يساند الدولة الإسلامية في كل توجهاتها الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية. فينبغي أن يكون من نتائج هذا التصميم إنشاء نظام مدرسي عام يتعلم أفراد النظام الاجتماعي من خلاله، كل الفنون المتعلقة بالحياة الاجتماعية، على أن يكون هذا النظام المدرسي قاعدة للانطلاق في شتى المجالات الحياتية المفترض أن يكون للمعلم فيها دور بناء وأرجو أن لا يختلط اصطلاح (المدرسة العامة ونظامها) المستخدم في هذا البحث، بالمدارس الدينية حسب النظام المعمول به في الحوزات العلمية. بل المقصود من المدرسة العامة، المؤسسة العلمية التي نشأت مع ظهور الدولة الحديثة وتولت تعليم الصغار اللغة والعقيدة والفقه والعلوم التجريبية حتى مرحلة البلوغ. والصغار هم كل أفراد النظام الاجتماعي دون سن البلوغ الذين يعيشون في تلك البقعة من الأرض، ويطلق عليهم وعلى من سواهم اسم المجتمع الإنساني.
*النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي،أمير_قم،ص104-108.
2- الزخرف:32.
3- الخصال ج 2 ص 567. 2009-11-09