دور العقل والعلم في المجتمع
المجتمع الإسلامي
أن الإسلام يمجد العقل لا باعتباره أداةً لاستيعاب المعلومات وخزنها ثم استرجاعها وتحليلها فحسب، بل يعتبره أهم أداة لمعرفة الخالق عز وجل، ولولاه لأصبح الإنسان حيواناً بهيمياً آخر لا يعي من واقعه الاجتماعي شيئاً ولا يهتم بأمر مثل اهتمامه بغرائزه الحيوانية...
عدد الزوار: 130
أن الإسلام يمجد العقل لا باعتباره أداةً لاستيعاب المعلومات وخزنها ثم استرجاعها وتحليلها فحسب، بل يعتبره أهم أداة لمعرفة الخالق عز وجل، ولولاه لأصبح الإنسان حيواناً بهيمياً آخر لا يعي من واقعه الاجتماعي شيئاً ولا يهتم بأمر مثل اهتمامه بغرائزه الحيوانية.
ولكن العقل البشري بدّل المعادلة الحيوانية وقلبها لصالح الإنسان، فأصبح هذا الكائن الكريم بحكم عقله مكلفاً بالمسؤوليات الشرعية ومحاسباً عليها. ولعل اشد الآيات القرآنية وقعاً وأوجعها على الجهلاء من الناس، قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُون﴾1. فأصبح العقل الحجة التي يحتج بها الله على المكلف يوم القيامة ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾2.
ولما كان العقل هو البنية التحتية للتفكير الإنساني، أصبح العلم البناء الفوقي الذي يساهم بشكل فعال في تقوية سلطات العقل وقوته المنطقية والتحليلية. فالحقيقة العلمية اليقينية، يعتبرها الفقهاء شيئاً قطعياً، والتنكر لها تنكر للعقل نفسه. وأعظم دليل على ذلك أن أكثر الناس خشية لله سبحانه العلماء العارفون بأسرار الكون والحياة والخلق، لأن الجاهل بأسرار الكون والخلق جاهل بعظمة الخالق. والسر في ذلك إن العلم بطبيعة المخلوقات يستوجب علماً بطبيعة الخالق، وقد جاء في النص المجيد ما يشير إلى ذلك: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء﴾3.
ولكي يدرك العقل ويستوعب المعارف والمعلومات التي ينتفع بها، فلابد للفرد من الاجتهاد في تنمية قوة إدراك ذلك الجهاز العظيم لمفاهيم الخير والشر، والتمييز بينهما عن طريق علوم الطبيعة والدين والأخلاق وما يتعلق بهما من معارف وغايات. فحينما يحاول العقل إنشاء العلوم النافعة للإنسان في حياته العملية، فانه يستخدم طاقته الجبارة لإنشاء نظرية معاشية تدله على تعلم العلوم التطبيقية كي تدر عليه شتى أنواع المنافع، وتيسر له سبل العيش الإنساني الكريم، كعلوم الزراعة والصناعة والطب والهندسة والفضاء. ولاشك أن ترجمة الأفكار التي ينشئها العقل ويحاول تطويرها وتنميتها لابد أن تتم عن طريق خاص يشترك في فهمه وممارسته جميع الأفراد في النظام الاجتماعي، إلا وهو النطق.
فيتميز تحصيل العقل وترجمة الأفكار التي يحملها بالنطق، فالإنسان كيان ناطق، وهذا النطق الذي يمثل رمز التفاهم بين الناس يميز هذا الكائن المفكر عن غيره من العجماوات. وبطبيعة الحال، فان علوم اللغة وما يتفرع عنها من معارف وحقول، تمثل قابلية العقل على ترجمة الأفكار الخافية إلى رموز مسموعة تستفيد منها الإنسانية في تعاملها الاجتماعي جيلاً بعد جيل.
ولاشك أن استعداد النفس لتحصيل النظريات والفرضيات، يساهم في تطوير العلوم التي تخدم مصلحة الانسان. فلو أراد العالم التجريبي وضع نظرية تتناول حركة الالكترونات في الذرة مثلاً، فما عليه الا ان يفترض افتراضاً نظرياً يتناول فيه حركة تلك الشحنات، ويفصلها تفصيلاً نظرياً، ثم يقوم بعد ذلك بتجارب خاصة لإثبات صحة فرضيته، فاذا تم له ذلك بالتجربة والخطأ تطورت فرضيته القائمة على مجرد الظن إلى نظرية قائمة على أساس ثبوت الحقائق. وهذا الاستعداد النفسي في انشاء الافتراض وتحصيل النظرية يرفع العلم التجريبي من المستوى النظري الى مستوىً عالٍ من الدقة التجريبية والمهارة والإتقان.
والمحصل استقراءً أن الانسان العاقل المدرك يحتاج في حياته العملية إلى أربعة أصناف من العلوم حتى يستطيع ان يكون عضواً نافعاً فعالاً في النظام الاجتماعي،
الأول: علوم اللغة وما يتعلق بها من معارف، لأنها تعتبر عنصراً أساسياً من عناصر حفظ الاجتماع الإنساني وتنميته، فعن طريقها يتم التفاهم والاتصال بين الأفراد في النظام الاجتماعي.
الثاني: علوم الدين والأخلاق وما يتعلق بهما من معارف، وهذا الصنف أساسي في استقرار النظام الاجتماعي ونشر العدالة الاجتماعية بين الأفراد.
الثالث: العلوم النظرية، وهي النظريات والفرضيات التي يحتاجها الانسان كقاعدة يبني عليها بناءه العلوي في العلوم التجريبية.
الرابع: العلوم التطبيقية، وهي ثمرة العلوم الطبيعية التي يعتصر الفرد بواسطتها كل ما يتمكن اعتصاره من خيرات الأرض، وبشكل يمكنه من توفير وتيسير سبل العيش لكل أفراد المجتمع الإنساني.
وقد أكدت النصوص الشرعية على حاجة الانسان الى تلك العلوم والى ضرورة تعلمها، من أجل المصلحة الاجتماعية. فعلى مستوى الصنف الاول، ورد قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾4. وفي رواية عن الإمام جعفر بن محمد عليه السلام انه قال: "تعلموا العربية فانها كلام الله الذي يكلم به خلقه"5. وعلى مستوى الصنف الثاني، ورد في وصية الامام أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام: "وان أبدأك بتعليم كتاب الله عز وجل وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه لا اجاوز ذلك بك الى غيره"6، ولعله إشارة إلى قوله تعالى: ﴿فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ﴾7. وعلى مستوى الصنف الثالث ورد قول الامام علي عليه السلام أيضاً: "لا علم كالتفكير..."8، الذي هو إشارة واضحة لقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾9. وعلى مستوى الصنف الرابع ورد عن الامام جعفر الصادق عليه السلام ما يدعو الى التعليم المهني: ( فكل ما يتعلم العباد أو يعلمون غيرهم مثل صنوف الصناعات مثل الكتابة والحساب والتجارة... فحلال فعله وتعليمه والعمل به"10. ولعل في الآية الشريفة: ﴿لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾11، تلميح إلى العمل المهني الذي يقره الارتكاز العقلائي. والمستفاد من هذه النصوص الشرعية المساندة والمؤيدة، بأن الأصل في العلوم الاجتماعية والتجريبية والدينية هو بناء النظام الاجتماعي وبناء الفرد بشكل يجعله مرتبطاً بالخالق سبحانه أولاً، وقادراً على تأدية التكاليف الشرعية ثانياً، وقادراً على إشباع حاجاته الإساسية ثالثاً.
وربما يستفاد من مقتضى نص قوله تعالى في خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾12 زيادة على ما قيل بأمر الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم التعجيل بقراءة القرآن وقت نزول الوحي، أن الإسلام لم يقيد العلم بعلوم الدين بل أطلق عبارة العلم لتشمل كل العلوم التي تنفع الانسان في حياته العملية والدينية، ومنها علوم الطب والتمريض والهندسة والفيزياء والكيمياء والفلك والتربة والجغرافية والتربية التي تساهم جميعاً في تيسير حياة الانسان لظهور النص القرآني أولاً، وللنصوص الشرعية الأخرى التي تعضد هذا الرأي، ثانياً.
*النظرية الاجتماعية في القران الكريم،د:زهير الاعرجي،أمير_قم،ص99-103.1- الأنفال: 22.
1- الأنفال:22.
2- الحجر: 92-93.
3- فاطر: 28.
4- يوسف:2.
5- البحار ج 1 ص 212.
6- البحار ج 1 ص 19.
7- التوبة: 122.
8- البحار ج 1 ص 179.
9- آل عمران: 191.10- تحف العقول ص 249.
11- يس: 35.
12- طه: 114.