يتم التحميل...

أنشودة الأحرار في كلّ جيل

محطات من محرم الحرام

أنشودة الأحرار في كلّ جيل

عدد الزوار: 128



تمثَّلت يومك يوم الطفوف، وأنت ترفع الضحايا من أهل بيتك وأصحابك قرابين خالصة لوجه الله، إيماناً منك بأنّ الاسلام لا يمكن أن ينتصر في كفاحه ضّد قوى البغي والإلحاد، إلا بالتضحية الفذة التي لا يقوى على أدائها سواك.

لقد استطعت، أيها الفاتح العظيم، أن تملي إرادتك على صفحات هذا الكون، وتعالج المشاكل الرهيبة التي مني بها عصرك بالحلول المطلوبة، لكن ذلك قام بدمك القاني المعطَّر بشذى الرسالة ووحي السماء، فدمّرت أولئك الأقزام من حكام بني أمية، الذين اغتالوا الإصلاح الاجتماعي، ودفعوا الناس إلى السراب السياسي، وتاجروا بمقوّمات الأمّة ومقدّراتها، وقذفوا بها في متاهات سحيقة لا حدّ لها من الانحطاط والجهل والتأخّر، حتى توارت فكرة النور التي أوقد سناها الرسول (صلى الله عليه وآله)، وحلت محلها الوثنية القرشية، فعقد لها في كل جامع ومنتدى من بلاد المسلمين صنم يقذف بشواظ من نار لإذابة هدي العقيدة، وتدمير المثل العليا، وتجريد الأمّة من عناصرها الخلاقة وأفكارها الأصيلة، حتى توارت بوارق النهضة الفكرية والاجتماعية، وكادت تنطوي رسالة الإسلام بقيمها ومثلها ومكوّناتها.

وانبعث صوتك - أيّها الفاتح العظيم - فاستوعب صداه جميع أنحاء العالم الإسلامي، وهو ينادي بفجر جديد ويوم جديد، ليستأنف فيه الإنسان المسلم رسالته، ويبدأ تأريخه، ويبني كرامته، ويعدّل سلوكه، وينفض عنه غبار الذلّ، وعار العبوديّة، وينطلق في ميادين التحرّر، ليساهم في بناء الحضارة، ويدخل موكب التاريخ.

لقد تحدّى أبو الأحرار بثورته الكبرى الطبيعة البشرية التي هي أسيرة الغرائز والعواطف، فقد تحرّر منها، ولم يعد لها أيّ حكم أو سلطان عليه، وقد مكنته قواه الروحية في ذاتية مذهلة أن يشقّ طريقه الخالد ليحقّق المعجز، ويقول كلمة الله بإيمان لا حدّ لأبعاده.
إنه الايمان الذي هيمن على جميع مناحي تفكيره ومقوّمات ذاتياته، فهوّن عليه أهوال تلك الكوارث التي تذوب منها القلوب، ويقف الفكر أمامها هائماً وهو حسير... فقد رأى أصحابه الذين هم من أصدق وأنبل وأوفى من عرفهم التاريخ الإنساني، يتسابقون إلى الموت بين يديه... رأى الكواكب من أهل بيته وأبنائه، وهم في غضارة العمر وريعان الشباب، تتناهب أشلاءهم السيوف والرماح.

رأى حرم الرسالة ومخدّرات النبوّة تعجّ من ألم الرزايا، وتستغيث به من أليم العطش والظمأ القاتل، وهو لا يجد سبيلاً لإنقاذهن، فوقف السبط أمام هذه الخطوب التي تذهل كلّ كائن حيّ، فقال كلمته الخالدة التي نمّت عن عمق الإيمان وروعة التصميم: "هوَّن ما نزل بي أنّه بعين الله".

أجل، بعين الله رزاياك، وفي سبيل الإسلام ما عانيته من أهوال تلك الكوارث والخطوب..

سيدي أبا الأحرار...
لقد عوّضك الله عما قاسيته من ضروب المحن، وصنوف البلاء، أنواع الكرامة، فمنحك في الدار الآخرة الفردوس الأعلى، وأنزلك به منزلاً كريماً تتبوّأ به حيثما شئت، وجعلك سيد شباب أهل الجنّة، والشفيع المطاع.

وأما في هذه الدار الفانية، فقد جعل ذكرك فيها نديّاً خالداً، والدنيا بأسرها خاضعة لك، فأنت حديث الدَّهر، مهما تطاولت لياليه أياماً وصرن ليالي.

وأما خصومك، فقد تمزّقوا كلّ ممزَّق، ودفنهم التاريخ في مجاهل سحيقة من الخزي والعار ولعنة الناس.

لقد بقيت أنت وحدك ملء فم الدّنيا، ورهن الخلود، وأنشودة الأحرار في كلّ جيل، وعلماً يهتدي بك المصلحون في تحقيق ما ينفع الناس.


حياة الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام)، الشّيخ باقر شريف القرشي

2019-09-06