السفر للحجّ ـ في الحقيقة ـ هو سفر عظيم، إذ أنّه سفر إلهي، وساحة واسعة لبناء النفس والجهاد الأكبر.
مراسم الحجّ توضّح ـ في الواقع ـ عبادة ممزوجة ـ بصورة عميقة ـ بخاطرات جهاد إبراهيم وإبنه إسماعيل وزوجته هاجر، فلو أغفلنا عن هذه النقطة أثناء مطالعتنا الاُمور الخاصّة بأسرار الحجّ، فإنّ الكثير من مراسمه ستبدو لنا كألغاز، نعم إنّ مفتاح حلّ هذه الألغاز هو الأخذ بنظر الإعتبار ذلك الإمتزاج العميق.
فعندما نأتي إلى مكان ذبح الأضاحي في أرض (منى) نتعجّب لأيّ شيء تذبح هذه الأضاحي؟ فهل أنّ ذبح الحيوان يمكن أن يكون حلقة من مجموعة حلقات العبادة؟
إلاّ أنّنا عندما نتذكّر إيثار إبراهيم (عليه السلام) الذي أراد ذبح أعزّ أعزّائه وأطيب ثمار عمره (إسماعيل) في تلك الأرض في سبيل الله، العملية التي غدت سنّة فيما بعد وبعنوان ذبح الأضاحي في منى، ندرك فلسفة هذا العمل.
فالذبح إشارة إلى إجتياز كلّ شيء في سبيل التوجّه إلى الله، وهو مظهر لإخلاء القلب من كلّ شيء عدا ذكر الله، ويمكن إستمداد التربية الكافية من هذه المناسك، إذا تجسّد لنا مشهد ذبح إسماعيل، ومعنويات الأب وإبنه إسماعيل أثناء عملية الذبح، وهذا المشهد يجعل معنويات الإنسان تسطع بأنوارها.
أمّا أثناء توجّهنا إلى رمي الجمرات (وهي ثلاثة أعمدة مبنية من الحجر يرميها الحجّاج أثناء تأديتهم لمراسم الحجّ، وفي كلّ مرّة يرمون سبعة أحجار عليها وفق مراسم خاصّة) فيتبادر إلى أذهاننا السؤال التالي: ماذا يعني رمي هذا المقدار من قطع الحجارة على عمود من الحجر لا روح فيه؟ وأي مشكلة سيحلّ هذا العمل؟
إلاّ أنّنا عندما نتذكّر أنّها تمثّل جهاد الموحّد إبراهيم ضدّ وساوس الشيطان الذي ظهر له ثلاث مرّات في الطريق، وهو مصمّم على أن يثني إبراهيم عن عزمه في ساحة الجهاد الأكبر، وكلّما ظهر له رماه بالحجر، فإنّ محتوى هذه الشعيرة يتوضّح أكثر.
فمعنى هذه الشعيرة هو أنّكم طوال فترة عمركم تعيشون في ساحة الجهاد الأكبر ضدّ وساوس الشيطان، وإن لم ترموا هذا الشيطان وتبعدوه عنكم فلن تنتصروا أبداً.
وإن كنتم تنتظرون أن يشملكم الله بلطفه ورحمته، كما شمل إبراهيم بذلك وبعث إليه بالسلام وأبقى رسالته وذكراه خالدتين في العالمين، عليكم أن تسيروا على خطاه.
وفور ما نصل إلى الصفا والمروة ونشاهد أفواجاً أفواجاً من الناس تنساب من هذا التل الصغير إلى ذلك التل الأصغر، وتعود مرّة اُخرى من هنا إلى هناك، وتكرّر هذا العمل من دون أن تحصل على شيء، وأحياناً تهرول وأحياناً اُخرى تمشي، ومن الطبيعي أن يثير هذا العمل العجب، فماذا يفعل هؤلاء هنا، وما هي المفاهيم التي يحملها هذا العمل؟
إلاّ أنّنا لو رجعنا إلى الوراء، وإستذكرنا الجهود التي بذلتها تلك المرأة المؤمنة (هاجر) لإنقاذ حياة إبنها الرضيع (إسماعيل) في تلك الأرض القاحلة والحارقة، وكيف أنّ الله سبحانه وتعالى أعطاها ما تريد بعد جهدها وسعيها، عندما فجّر عين زمزم من تحت رجلي ولدها الرضيع، فجأة ترجع بنا عجلة الزمن إلى الوراء، ويكشف لنا عن الحجب، ونشاهد أنفسنا في تلك اللحظة واقفين قرب هاجر (عليها السلام)، فنشترك معها في السعي والجهد، لأنّ الذي لا يسعى ولا يبذل الجهد في سبيل الله، لا يصل إلى نتيجة.
وبسهولة نستطيع تلخيص ما قلناه، وهو أنّ الحجّ يجب أن يقترن بتعلّم هذه الرموز، وتتجسّد ذكريات إبراهيم وإبنه وزوجته خطوة خطوة، كي يدرك الحاجّ فلسفة الحجّ وتشعّ أنوار آثاره الأخلاقية العميقة في نفوس الحجيج، فبدون تلك المعاني والدروس يكون الحجّ مجرّد قشر ليس أكثر1.
1- تغسير الأمثل / العلامة اية الله الشيخ مكارم الشيرازي.
2019-07-30