يتم التحميل...

الزواج من مقاصد الطبيعة

العلاقات الزوجية

وأمر الإيلاد والإفراخ الذي هو بغية الطبيعة وغرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد والعامل الأصلي في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج وإخراجه من مطلق الإختلاط للسفاد والمقاربة إلى شكل النكاح والملازمة ولهذا ترى أن الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معاً كالطيور في حضانة بيضها...

عدد الزوار: 104

أصل التواصل بين الرجل والمرأة مما تبينه الطبيعة الإنسانية بل الحيوانية بأبلغ بيانها، والإسلام دين الفطرة فهو مجوزه لا محالة.

وأمر الإيلاد والإفراخ الذي هو بغية الطبيعة وغرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد والعامل الأصلي في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج وإخراجه من مطلق الإختلاط للسفاد والمقاربة إلى شكل النكاح والملازمة ولهذا ترى أن الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معاً كالطيور في حضانة بيضها وتغذية أفراخها وتربيتها وكالحيوان الذي يحتاج في الولادة والتربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه وحفظه إلى معاونة الذكور ويختار لهذا الشأن الازدواج وهو نوع من الملازمة والاختصاص بين الزوجين الذكور والإناث منه فيتواصلان عندئذ ويتشاركان في حفظ بيض الإناث وتدبيرها وإخراج الأفراخ منها وهكذا إلى أخر مدة تربية الأولاد ثم ينفصلان إن انفصلا ثم يتجدد الازدواج وهكذا فعامل النكاح والإزدواج هو الإيلاد وتربية الأولاد، وأما إطفاء نائرة الشهوة أو الإشتراك في الأعمال الحيوية كالكسب وجمع المال وتدبير الأكل والشرب والأثاث وإدارة البيت فأمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة والخلقة وإنما هي أمور مقدمية أو فوائد مترتبة.

ومن هنا يظهر أن الحرية والاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كل من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد ومهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنة الجارية بين الملل المتمدنة اليوم، وكذا الزنا، وخاصة زنا المحصنة منها.

وكذا تثبيت الازدواج الواقع وتحريم الطلاق والانفصال بين الزوجين، وترك الزوج واتخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما.

وكذا إلغاء التوالد وتربية الأولاد وبناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزلية على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية ونظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامة المعدة للرضاع والتربية، كل ذلك على خلاف سنة الطبيعة، وقد جهز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة.

نعم الحيوان الذي لا حاجة في ولادته وتربيته إلى أزيد من حمل الاُم إياه وارضاعها له وتربيته بمصاحبتها، فلا حاجة طبيعية فيه إلى الازدواج والمصاحبة والإختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرية السفاد بمقدار ما لا يضر بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل.

وإياك أن تتوهم أن الخروج عن سنة الخلقة وما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر والروية مع ما فيه من لذائذ الحياة والتنعم، فإن ذلك من أعظم الخبط، فإن هذه البينات الطبيعية التي منها البنية الإنسانية مركبات مؤلفة من أجزاء كثيرة تستوجب وقوع كل في موقعه الخاص على شرائطه المخصوصة به وضعاً هو الملائم لغرض الطبيعة والخلقة وهو المناسب لكمال النوع كالمعاجين والمركبات من الأدوية التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف، ومقادير، وأوزان وشرائط خاصة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصة أدنى خروج وانحراف سقط الأثر.

فالإنسان مثلاً موجود طبيعي تكويني ذو أجزاء مركبة تركيباً خاصاً يستتبع أوصافه داخلية وخواص روحية تستعقب أفعالاً وأعمالاً فإذا حول بعض أفعاله وأعماله من مكانته الطبيعية إلى غيرها يستتبع ذلك انحرافاً وتغيراً في صفاته وخواصه الروحية وانحرف بذلك جميع الخواص والصفات عن مستوى الطبيعة، وصراط الخلقة، وبطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعي، والغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة.
وإذا بحثنا في المصائب العامة التي تستوعب اليوم الإنسانية وتحبط أعمال الناس ومساعيهم لنيل الراحة والحياة السعيدة وتهدد الإنسانية بالسقوط والانهدام، وجدنا أن أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى وتمكن الخرق والقسوة والشدة والشره من نفوس المجتمعات البشرية، وأعظم أسبابه وعلله الحرية والاسترسال والإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجية وتربية الأولاد، فإن سنة المجتمع المنزلي (الأسرة) وتربية الأولاد اليوم تحيي قرائح الرأفة والرحمة والعفة والحياء والتواضع من الإنسان من أول ما يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش.

وأما تدارك هذه النواقص بالكفر والروية فهيهات ذلك فإنما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينية اتخذتها الطبيعة وسيلة لرد ما خرج وانحرف عن صراط الطبيعة والتكوين اليه لا لإبطال سعي الطبيعة والخلقة وقتلها بنفس السيف الذي أعطته للإنسان لدفع الشر عنها، ولو استعمل الفكر الذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شؤون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضاً فاسدة منحرفة كسائر الوسائل، ولذلك ترى أن الإنسان اليوم كلما أصلح بقوة فكره واحداً من المفاسد العامة التي تهدد مجتمعه أنتج ذلك ما هو أمر وأدهى وزاد البلاء والمصيبة شيوعاً وشمولاً.

نعم ربما قال القائل من هؤلاء: إن الصفات الروحية التي تسمى الفضائل النفسانية هي بقايا من عهد الأساطير والتوحش لا تلائم حياة الإنسان الراقي اليوم كالعفة والسخاء والحياء والرأفة والصدق فإن العفة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه، والسخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال وما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنه تعويد للمسكين على البطالة في الاكتساب وبسط يده لذل السؤال، والحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه وإظهار ما في ضميره، والرأفة تضعف القلب، والصدق لا يلائم الحياة اليومية، وهذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الذي ذكرناه.

ولم يدر هذا القائل أن هذه الفضائل في المجتمع الإنساني من الواجبات الضرورية التي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع ولا ساعة.

فلو ارتفعت هذه الخصال وتعدى كل فرد إلى ما لكل فرد من مختصات الحقوق والأموال والأعراض، ولم يسخ أحد ببذل ما مست إليه حاجة المجتمع، ولم ينفعل أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين، ولم يرأف أحد بالعجزة الذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال ومن في تلوهم، وكذب كل أحد لكل أحد في جميع ما يخبر به ويعده وهكذا تلاشى المجتمع الإنساني من حينه.

فينبغي لهذا القائل أن يعلم أن هذه الخصال لا ترتحل ولن ترتحل عن الدنيا وأن الطبيعة الإنسانية مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع، وإنما الشأن كل الشأن في تنظيم هذه الصفات وتعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة والخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة، ولو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقي اليوم فضائل للإنسانية معدلة بما هو الحري من التعديل لما أوردت المجتمع مورد الفساد والهلكة ولأقر الناس في مستقر أمن وراحة وسعادة.

ولنعد إلى ما كنا فيه من البحث فنقول: الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعي، فأحل النكاح وحرم الزنا والسفاح، ووضع علقة الزوجية على أساس جواز المفارقة وهو الطلاق، ووضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة، ووضع عقد هذا المجتمع على أساس التوالد والتربية، ومن الأحاديث النبوية المشهورة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: تناكحوا تناسوا تكثروا ( الحديث).


استيلاء الذكور على الإناث

ثم إن التأمل في سفاد الحيوانات يعطي أن للذكور منها شائبة الاستيلاد على الإناث في هذا الباب، فإنا نرى أن الذكر منها كأنه يرى نفسه مالكاً للبضع مسلطاً على الأنثى، ولذلك ما ترى أن الفحولة منها تتنازع وتتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الأنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس، وكذا ما يجري بينها مجرى الخطبة في الإنسان إنما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث، وليس إلا أنها ترى بالغريزة بأن الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي والإناث كالقابل الخاضع، وهذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها ويستلذه طبعها فإن ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق والشهوة واستزادة اللذة، وأما نحو الاستيلاء والاستعلاء المذكور فإنه عائد إلى قوة الفحولة وإجراء ما تأمر به الطبيعة.

وهذا المعنى أعني لزوم الشدة والبأس لقبيل الذكور واللين والانفعال لقبيل الإناث مما يوجب الاعتقاد به قليلاً أو كثيراً عند جميع الأمم حتى سرى إلى مختلف اللغات فسمى كل ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر، وكل لين سهل الانفعال بالانثى يقال: حديد ذكر وسيف ذكر ونبت ذكر ومكان ذكر وهكذا.

وهذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة والأمم المتنوعة في الجملة وإن كان ربما لم يخل من الإختلاف زيادة ونقيصة.

وقد اعتبره الإسلام في تشريعه قال تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ1.

فشرع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.

*قضايا المجتمع والأسرة والزواج على ضوء القرآن الكريم، العلامة السيد محمد حسين الطبطبائي، دار الصفوة، ص139-144.


 

 1- النساء:34.

2009-11-04