بين الحكومة النّبَويّة والحكومة العَلَويّة
الحياة السياسية للإمام علي (ع)
بين الحكومة النّبَويّة والحكومة العَلَويّة
عدد الزوار: 289
الفارق الأساس بين أمير المؤمنين عليه السلام في عهد حكومته، وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أيّام حياته وعهد حكومته هو أنّ الخنادق في عهد الرسول كانت مشخّصة ومشخّصة تمامًا. خندق الإيمان، وخندق الكفر، أمّا المنافقون فكثيرًا ما كانت الآيات القرآنية تُشير إليهم وتُحذّر منهم وتُقوّي صفوف المؤمنين في مواجهتهم، وتُضعف من شوكتهم، أي إنّ كلّ شيء كان في النّظام الإسلاميّ في عهد الرسول واضحًا تمام الوضوح، وكانت الصفوف مفروزة فرزًا جليًّا، فطائفة كانت على الجاهليّة والكفر والطاغوت، وأخرى كانت على الإيمان والإسلام والتوحيد، ومن الطّبيعيّ أنّ كلّ واحدة من هاتين الطائفتين كانت تضمّ صنوفًا شتّى من النّاس، لكن الصفوف كانت مشخّصة وواضحة كلّ الوضوح. أمّا في عهد أمير المؤمنين عليه السلام، فكانت المشكلة الكبيرة في تداخل الصفوف والخنادق، وهذا هو السّبب الّذي جعل للفئة الثانية ـ أي النّاكثين ـ وضعًا مقبولًا ومبرّرًا. وكان كلّ مسلم يتردّد كثيرًا في محاربة شخصيّات من أمثال طلحة أو الزبير، فالزبير هو ابن عمّة الرّسول، وكان من الشخصيّات البارزة والمقرَّبة إليه، حتّى أنّه كان ممّن اعترضوا على السّقية دفاعًا عن أمير المؤمنين عليه السلام بعد عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الأمور بخواتيمها. نسأل الله أن يجعل عاقبتنا إلى خير، فقد يؤثّر حبّ الدّنيا ومظاهر الحياة في بعض النّاس إلى درجة تجعل المرء يشكّ حتّى في الخواصّ، فما بالك بالعوام. وعلى كلّ الأحوال، كانت الظروف آنذاك عصيبة حقًّا.
ولا بدّ أنّ النّاس الّذين صمدوا مع أمير المؤمنين عليه السلام وحاربوا إلى جانبه، كانوا على قدرٍ كبير من البصيرة. والشاهد على هذا قولُ أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يحمل هذا العلم إلّا أهل البصر والصّبر"[1]. فلا بدّ من توفّر البصيرة بالدّرجة الأولى. ويُستدّل من هذه التّداخلات على طبيعة المشاكل الّتي واجهت أمير المؤمنين عليه السلام، وعلى الأساليب الملتوية الّتي اتّبعها النّاس الّذين حاربوه. ففي صدر الإسلام، كان هناك أفكار خاطئة كثيرة تُطرح في السّاحة، ولكن كانت تنزل آية قرآنية وتفنّدها بصراحة، سواء أعندما كان النبيّ في مكّة أم عندما كان في المدينة، فسورة البقرة - على سبيل المثال - وهي سورة مدنية، عندما ينظر المرء فيها يراها حافلة بصور من التحدّيات والاشتباكات بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين المنافقين واليهود، حتّى أنّها تناولت التفاصيل الجزئيّة واستعرضت الأساليب الّتي كان يتّبعها يهود المدينة في إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نفسيًّا. ومنها ﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا﴾[2] وما شابه ذلك.
وجاءت أيضًا سورة الأعراف، وهي سورة مكّية، زاخرة بمحاربة الخُرافات، وكُرّس فصلٌ منها للحديث عن تحريم وتحليل أنواع اللحوم، في مقابل التّحليل والتّحريم الزائف الّذي اصطنعه النّاس لأنفسهم يومذاك، ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾[3]. هذه هي المحرّمات الحقيقية، وليست تلك الّتي اصطنعتموها أنتم لأنفسكم من أمثال البحيرة والسّائبة وما شاكل ذلك. وكان القرآن يحارب هذه الأفكار صراحةً. أمّا في عهد أمير المؤمنين عليه السلام، فقد كان أعداؤه يستغلّون تلك الآيات القرآنية، وهذا ما صعّب كثيرًا من مهمّة أمير المؤمنين عليه السلام. لقد قضى عليه السلام مدّة خلافته القصيرة في أمثال هذه المصاعب والمعضلات.
وفي مقابل هؤلاء، كانت جبهةُ عليّ نفسِه، وهي جبهة قوية حقًّا، وفيها رجال كعمّار ومالك الأشتر وعبد الله بن عباس ومحمّد بن أبي بكر وميثم التمّار وحُجر بن عديّ، كانوا شخصيّات مؤمنة ذوي بصيرة ووعي، وكان لهم دورٌ مؤثّر في توعية النّاس الآخرين. فكان من جملة المواقف الجميلة في عهد أمير المؤمنين،- ويُعزى جمالها طبعًا إلى الجهود الطيّبة لهؤلاء الأكابر، إلا أنّها في الوقت ذاته كانت مريرة بسبب ما لحقهم من جرّائها من عناءٍ وعذاب - هو مسيرهم نحو الكوفة والبصرة من بعد ما هبّ طلحة والزّبير وغيرهما، واستولوا على البصرة، وأرادوا المسير منها نحو الكوفة، حيث أرسل أمير المؤمنين عليه السلام الإمام الحسن عليه السلام وبعض هؤلاء الأصحاب، وكان لهم مع النّاس في المسجد مداولات وأحاديث ومحاجّات تُعتبر من المواقف المثيرة، وذات مغزًى عميق في تاريخ الإسلام. ولهذا السبب يُلاحَظ أنّ الهجمات الأساس لأعداء أمير المؤمنين عليه السلام وُجّهت صوب هذه الشّخصيّات، ضدّ مالك الأشتر، وضدّ عمّار بن ياسر، وضدّ محمّد بن أبي بكر، وضدّ كلّ من وقف إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام منذ البداية، وأثبتوا صلابة إيمانهم وسلامة بصيرتهم. ولم يتورّع الأعداء عن كيل أنواع التّهم لهم والسّعي لاغتيالهم. ولهذا قضى أكثرهم شهداء، فاستشهد عمّار في الحرب، واستشهد محمّد بن أبي بكر بتحايل أهل الشام، وكذا استشهد مالك الأشتر بحيلةٍ من أهل الشام.
وبقي بعض آخر، ولكنّهم عادوا واستشهدوا على نحوٍ قاسٍ وفجيع.
هذه هي الظروف الّتي عاشها أمير المؤمنين عليه السلام في حياته وفي عهد حكومته. ولو أردنا الخروج بنتيجة مختصرة عنها لقلنا إنّها كانت حكومة قويّة، ولكنّها في الوقت ذاته مظلومة ومنتصرة، بمعنى أنّه استطاع قهر أعدائه في أيّام حياته، واستطاع من بعد استشهاده مظلومًا أن يتحوّل إلى شعلةٍ وهّاجة على مدى تاريخ الإنسانيّة. ولا شكّ في أنّ المرارة الّتي ذاقها أمير المؤمنين عليه السلام خلال هذه الفترة تُعتبر من أشدّ وأصعب المحن في التاريخ.
جمعية المعارف الإسلامية
[1] نهج البلاغة، ص 248.
[2] سورة البقرة، الآية 104.
[3] سورة الأعراف، الآية 33.