ظن الأمويون أنهم استطاعوا النيل من النبي الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم)، بمقتل
سبطه الحسين(عليه السلام) وأصحابه وذريته، وحسبوا أن يدهم قد بسطت على هذه الأمة،
وأنهم بقتل الحسين(عليه السلام) أصبحوا قادرين على فعل ما يشاؤون، دون أن يردعهم
رادع، أو يمنعهم مانع، فرفعوا من مستوى نكايتهم بذرية رسول الله(صلى الله عليه وآله
وسلم) وسبوا نساءهم، كما تسبى نساء الأعداء وتملك.
ولكنهم لم يدركوا أن في ذلك بداية فضحهم أمام الملأ، وأن هذا السبي، وإن كان إذلالا
لبنات الرسالة بحسب الظاهر، ولكنه في حقيقة الأمر ثمرة مباركة من ثمرات الحركة
الحسينية، وشرط أساسي لإعمال مفاعيلها، وإنجاحها على المستوى الإعلامي العام، وبيان
أكذوبة الأمويين في انتمائهم إلى الإسلام، من خلال مواقف الإمام زين العابدين(عليه
السلام)، والحوراء زينب وأم كلثوم، وغيرهم من أهل بيت النبوة، وكان هذا السبي مضافا
إلى قتل الحسين(عليه السلام) أثرا بالغا في تثبيت الحق، وإعادة الرونق والأصالة إلى
دين الإسلام، بعدما كادت دعائمه أن تنهار في عالم النسيان والإهمال.
السبايا في أزقة الكوفة:
ما إن وصل موكب السبايا إلى الكوفة، وانتشر الخبر بين الناس، حتى ازدحمت الشوارع
والطرقات، وتراكض الناس ليروا قافلة السبايا، معلنين عن بهجتهم وفرحهم بنصر
المسلمين على أعدائهم، وهم يظنون أنهم من سبايا الروم، لأن خبر مقتل الحسين(عليه
السلام) لم يكن قد انتشر في الكوفة بعد، وأشرفت امرأة من سطح بيتها، فرأت نساء
حاسرات الرؤوس وهن كالعاريات لولا أسمال تقنعن بها، وأرادت المرأة أن تستوثق الخبر،
فهي لم تر مثل هذه القافلة من قبل وما يلفها من الحزن واللوعة، كما لم تر أسرى من
الصبيان يشدون بالحبال على أقتاب الجمال، فأدنت المرأة رأسها من إحدى السبايا
وسألتها: من أي الأسارى أنتن؟ فقالت لها: نحن أسارى أهل البيت من آل محمد[1].
وهنا كانت الصدمة، إذ تراجعت المرأة باكية وأعلنت للملأ أنهن سبايا أهل البيت، فعلا
الصراخ والنحيب، وتراكضت النساء إلى الموكب يقذفن عليه الأزر والمقانع ليسترن بها
بنات الرسالة، وارتجت الكوفة كلها بالندب والبكاء.
وعندما رأت العقيلة أهل الكوفة في هذه الحال أشارت إليهم بالسكوت، ولما هدأت
الأصوات توجهت إليهم بكلمة، تذكر بمنطق أبيها (عليه السلام) وتكشف حقيقة ما انطوت
عليه قلوب أهل الكوفة من الغدر والخيانة، وتبشرهم بسوء العاقبة والمصير، وكان مما
قالته لهم: «أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون، فلا رقأت الدمعة،
ولا هدأت الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، ألا وهل فيكم
إلا الصلف وملق الإماء وغمز الأعداء، ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم
وفي العذاب أنتم خالدون...»
وهي خطبة مملوءة بالمعاني المعبرة، والدلالات الواضحة على ما تمتلكه السيدة الحوراء
من عمق معروفة بالمجتمع، وسعة اطلاع ودقة إدراك في المسائل الدينية، وسمو في النفس،
وتعال على الجراح والمأساة، حتى كادت تلحق بالمعصومين (عليه السلام).
في مجلس ابن زياد:
ووصل موكب آل البيت إلى قصر الإمارة، حيث كان عبيد الله بن زياد لعنه الله ينتظر،
وأذن للناس اذنا عاما، فوضع رأس الحسين(عليه السلام) بين يديه وأخذ ينظر إليه
ويبتسم وينكت بقضيب بين ثنييه، فقال له زيد بن أرقم، وكان شيخا كبيرا، ارفع قضيبك
عن هاتيم الشفتين، فوالله الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول الله(صلى الله عليه
وآله وسلم) ما لا أحصيه يرتشفهما ثم انفجر بالبكاء، فقال له ابن زياد: أبكى الله
عينيك، أتبكي لقدرة الله، ولولا أنك شيخ كبير وقد خرفت وذهب عقلك، فنهض زيد بن أرقم
وصار إلى منزله[2].
وروى الطبري أنه عندما خرج من مجلس ابن زياد أخذ يهاجم أهل الكوفة ويندد بهم، ويقول:
أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة فهو يقتل
خياركم ويستعبد أشراركم، فرضيتم بالذل فبعداً لمن رضي بالذل[3].
والجدير بالذكر أن ابن زياد أراد بهذا الفعل أن يزيد من رعب الناس حتى لا يفكر أحد
منهم بالقيام ضده، ولذلك بث كل سمومه أمام الملأ بعدما سمح لهم بالدخول عليه، وأن
يدلس عليهم ويبين أنه فعل ذلك بدافع ديني ليرضوا عما فعله بآل البيت، ولذلك تراه
عندما توجه إلى زينب(عليه السلام) وقد كانت لبست أرزل ثيابها وتنكرت حين أدخلت عليه،
فسأل عنها، فلما عرفها قال لها: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم.
ولا يخفى أنه أراد بهذا الكلام أن يعطي فعله الشنيع بعضا من الشرعية في أعين الناس،
ولذلك كان جوابها صاعقا له، حين أجابته بجواب مليء بالدلالات المعبرة: الحمد لله
أكرمنا بنبيه محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) وطهرنا من الرجس تطهيرا، إنما يفتضح
الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا.
فهي أرادت أن تبين له أنه من نسل غير طاهر، فهو ابن زياد ابن أبيه، الذي ولد من
سفاح، وأنه فاسق وفاجر، نتيجة خبث أصله، فاستشاط غضبا، وأراد أن يقتلها، وهو فعل لم
يسبقه إليه أحد حتى في الجاهلية، إذ من أقبح الفعال قتل النساء في عادات العرب،
فقال له عمرو بن حريث: إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها، فحاول أن يسكن
من روعه وقال لها: الحمد لله الذي شفى نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك. فرقت
زينب وبكت وقالت: «لعمري لقد قتلت كهلي وأبدت أهلي وقطعت فرعي فإن يشفيك هذا فقد
استشفيت».
ثم توجه إلى الإمام زين العابدين(عليه السلام)، وأراد إذلاله هو الآخر، ولما أجابه
الإمام بما يقطع حجته، ويزيف منطقه، ويفضحه أمام الناس، غضب ابن زياد، وقال: لك
جرأة على جوابي، وفيك بقية للرد علي، اذهبوا به واضربوا عنقه، فتعلقت به زينب(عليه
السلام) واعتنقته، وقالت يا ابن زياد حسبك من دمائنا، والله لا أفارقه، فإن قتلته
فاقتلني معه، فنظر ابن زياد إليها ساعة، وقال: عجبا للرحم وددت أني قتلتها معه،
دعوه فإني أراه لما به مشغول ثم قام من مجلسه[4].
وهكذا استطاعت الحوراء(عليه السلام) أن تحمي الإمام زين العابدين(عليه السلام) من
القتل، وأن تفضح الكوفيين والأمويين من ورائهم، وأن تبرز حقانية حركة الإمام
الحسين(عليه السلام)، وتؤسس للحركات التي تلت هذه المأساة، من حركة التوابين وثورة
المختار وغيرها مما أدى إلى زوال حكم بني أمية.
ولما افتضح أمر ابن زياد بين الناس، ولم يستطع مقارنة حجة أهل البيت(عليه السلام)،
وطاش سهمه من أن ينال منهم، عمد إلى نصب رأس الإمام الحسين(عليه السلام)، وأمر أن
يطاف به في أزقة الكوفة، لإخافة الناس وإرعابهم قبل إرسال القافلة إلى يزيد بن
معاوية في دمشق.
ويدل على هذه الحقيقة ما رواه الطبري من أنه بعدما جمع الناس في القصر قام فيهم
خطيبا وقال لهم: الحمد لله الذي أظهر الحق وأهله ونصر أمير المؤمنين يزيد بن معاوية
وحزبه، وقتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي وشيعته، فوثب إليه عبد الله بن عفيف
الأزدي، وكان من شيعة علي(عليه السلام) خسر عينه في حرب الجمل وصفين، وقال له: يا
ابن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك، والذي ولاك وأبوه، أتقتلون أبناء
النبيين وتكلمون بكلام الصديقين. فأمر ابن زياد فضربت عنقه[5].
* سماحة الشيخ حاتم اسماعيل - بتصرّف
[1] الإنتفاضات الشيعية
عبر التاريخ، السيد هاشم معروف الحسني، ص398
[2] إعلام الورى، ص246
[3] تاريخ الطبري، ص230
[4] إعلام الورى، ص247
[5] تاريخ الطبري، ج5، ص231