إن أداء الشعائر والعبادات له آثاره الأكيدة وبركاته التي قد نشهد بعضها وقد تخفى
علينا. وبحال كان الإتيان بالعبادة أو الشعيرة عن إخلاص وتقوى وتوجه، فإن الآثار
تتضاعف، ويكون لها درجة راقية من الجمال واللطف، وهذا أمر طبيعي طالما أن الارتباط
في هذه العبادة هو مع خالق المخلوقات وبديع السماوات، وفاطر جميع الممكنات ومخرجها
إلى نور الوجود من كتم العدم وغياهب الظلمات.
فكيف الحال إذا كان الآتي بهذه العبادة هو المعصوم (عليه السلام) الذي هو المرآة
الأكمل التي تعكس جمال الله وجلاله. ولهذا ليس من المستغرب أن تتفاعل جميع
الموجودات مع هذه العبادة، السماء الأرض والطيور وقلوب العباد، بل وقد يستطيع الناس
شهود هذا التفاعل والشعور به، بحيث يكون ذلك من دعائم كونه (عليه السلام) حجةً لله
على عباده.
وعلينا أن لا ننكر الكلام السابق ونستبعده كالذين كانوا لا يستأنسون إلا بالمحسوسات
في زمن الأنبياء (عليهم السلام)، أو كالذين لا يقبلون إلا ما يتوافق مع طريقة
تفكيرهم تحت مسميات الرجوع إلى العقل والاحتكام إليه في كل أمر مستغرب، حيث إن هذا
المنهج لا يصح أن نجريه على كل شيئ، وإلا وقعنا في وادي الانكار حتى على القرآن
الكريم في الكثير من مضامينه الصريحة. فمثلاً: ماذا نفعل في قوله تعالى:
«وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ
أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ»[1]. وقوله
تعالى: «وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا
فَاعِلِينَ»[2]. فمن الواضح من خلال هذه الآيات تفاعل بعض الموجودات مع عبادة
وتسبيح نبي الله داود (عليه السلام).
ومناسبة الكلام السابق هو رواية تبين حجم التأثير المعنوي للمعصوم (عليه السلام)
على قلوب الناس والعباد. فهذا التفاعل مع حركة الإمام (عليه السلام) أثناء مضيه
لأداء صلاة أو عبادة هو من أسمى ما يمكن أن يرشح من وليٍّ، لأن جذب قلوب حشد كبير
من العباد ليس بالأمر المتاح لكل أحد.
ورد في إرشاد المفيد، حيث روى علي بن إبراهيم عن ياسر الخادم والريان بن الصلت
جميعا قال لما حضر العيد وكان قد عقد للرضا (عليه السلام) الأمر بولاية العهد بعث
المأمون إليه في الركوب إلى العيد والصلاة بالناس والخطبة بهم فبعث إليه الرضا
(عليه السلام) قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط في دخول هذا الأمر فاعفني من
الصلاة بالناس فقال له المأمون انما أريد بذلك أن تطمئن قلوب الناس ويعرفوا فضلك،
ولم تزل الرسل تتردد بينهما في ذلك، فلما ألح عليه المأمون أرسل إليه إن أعفيتني
فهو أحب إلي وإن لم تعفني خرجت كما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال له المأمون أخرج كيف شئت وامر القواد
والحجاب والناس أن يبكروا إلى باب الرضا (عليه السلام). قال فقعد الناس لأبي الحسن
(عليه السلام) في الطرقات والسطوح واجتمع النساء والصبيان ينتظرون خروجه وصار جميع
القواد والجند إلى بابه فوقفوا على دوابهم حتى طلعت الشمس فاغتسل أبو الحسن (عليه
السلام) ولبس ثيابه وتعمم بعمامة بيضاء من قطن ألقى طرفاً منها على صدره وطرفاً بين
كتفيه ومس شيئا من الطيب وأخذ بيده عكازاً وقال لمواليه إفعلوا مثل ما فعلت، فخرجوا
بين يديه وهو حاف قد شمر سراويله إلى نصف الساق وعليه ثياب مشمرة فمشى قليلا ورفع
رأسه إلى السماء وكبر وكبر مواليه معه، ثم مشى حتى وقف على الباب فلما رآه القواد
والجند على تلك الصورة سقطوا كلهم عن الدواب إلى الأرض، وكان أحسنهم حالاً من كان
معه سكين فقطع بها شرابة جاجيلته ونزعها وتحفى. وكبر الرضا (عليه السلام) على الباب
الأكبر وكبر الناس معه فخيل إلينا أن السماء والحيطان تجاوبه، وتزعزعت مرو بالبكاء
والضجيج لما رأوا أبا الحسن (عليه السلام) وسمعوا تكبيره، وبلغ المأمون ذلك فقال له
الفضل بن سهل ذو الرياستين يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلى على هذا السبيل
افتتن به الناس وخفنا كلنا على دمائنا فانفذ إليه أن يرجع، فبعث إليه المأمون قد
كلفناك شططا وأتعبناك ولسنا نحب أن تلحقك مشقة، فارجع وليصل بالناس من كان يصلي بهم
على رسمه، فدعا أبو الحسن (عليه السلام) بخفه فلبسه وركب ورجع، واختلف أمر الناس في
ذلك اليوم ولم ينتظم في صلاتهم اه. وحق أن ينشد في ذلك قول البحتري في المتوكل
فالرضا (عليه السلام) أحق به كما أشار إليه ابن شهرآشوب في المناقب: "ذكروا بطلعتك
النبي فهللوا لما طلعت من الصفوف وكبروا حتى انتهيت إلى المصلى لابسا نور الهدى
يبدو عليك فيظهر ومشيت مشية خاشع متواضع لله لا يزهى ولا يتكبر ولو أن مشتاقا تكلف
فوق ما في وسعه لسعى إليك المنبر"[3].
* فرع الانتاج الثقافي في شبكة المعارف الإلكترونية
[1] سورة سبأ، الآية 10.
[2] سورة الأنبياء، الآية 79.
[3] أعيان الشيعة - السيد محسن الأمين - ج 2 - ص 21 – 22.