المحاضرة
الرمضانية الثانية للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله 05-06-2017
إقرآوا القرآن بتدبر: لا تنشغلوا بأحكام التجويد والجوانب الجمالية للقراءة
المحاور الرئيسية
• القرآن كتاب هداية
• القرآن خطاب الله لكلٍ منا
• تلاوة القرآن عبادة عظيمة الثواب
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا خاتم النبيين أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى
آله الطيبين الطاهرين وصحبه الأخيار المنتجبين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.
وأسأل الله تعالى أن يوقفكم وأن يوفقنا جميعاً في هذه الأيام والليالي لقيامه
وصيامه وعبادته وتلاوة كتابه ولتزوّد من كل خيرٍ وتقوى إن شاء الله.
شهر رمضان ربيع القرآن
من جملة ما ورد في خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله أو في الخطبة المروية عن رسول
الله صلى الله عليه وآله والتي قرأتها عليكم في الحديث السابق " ومن تلا فيه آية من
القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور". من المعروف أن العلاقة
بين القرآن وشهر رمضان هي علاقة مميزة جداً. وورد أيضاً أن "شهر رمضان هو ربيع
القرآن". وهذا تأكيد كبير على إستحباب تلاوة القرآن في شهر رمضان المبارك. وهذا
الأجر الذي تحدّث عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إنّما هو لمزيد من التشويق
والترغيب في التلاوة، وإعطاء التلاوة أولوية من الأولويات بين الأعمال العبادية
المستحبّة في هذا الشهر المبارك.
مسؤوليتنا إزاء القرآن
أنا أودّ في حديث الليلة أن أتحدّث عن هذا الموضوع" "تلاوة القرآن
ومسؤوليتنا في هذا الصدد". وطبعاً؛ إذا أردنا التكلّم عن القرآن نحتاج إلى وقت طويل
وجلسات كثيرة، لكن أنا في هذه الليلة أريد التحدّث بالقسمين اللذان يوصلان إلى
موضوع التلاوة. القسم الأول في المعرفة والقسم الثاني في العمل.
أولا، معرفة القرآن
لأن العمل يجب أن يكون دائماً مسبوقاً بالمعرفة، يعني معرفة القرآن الذي نريد أن
تلوه وأن نقرأه وهذا مجال واسع في المعرفة. ولكن أنا أريد أن أتحدّث فقط عن عدد من
النقاط التي يتّسع لها الوقت.
أ ــ القرآن بألفاظه كلام الله
النقطة الأولى: الشاب أو الشابة أو الرجل والمرأة أو الإنسان الذي يريد
أن يمسك هذا الكتاب ( المصحف الشريف) ليقرأ فيه ويتلو آيات الله عزوجلّ، يجب أن
يعلم أولاً ـ وهي أو نقطة في العلم والمعرفة ـ بأن هذا القرآن وهذا الكتاب وكل ما
فيه من الآيات والكلمات هي من الله سبحانه وتعالى. يعني هذا كلام الله وهذه كلمات
الله عزوجلّ وهذه النصوص وهذه الجمل وهذه الكلمات هي من الله سبحانه وتعالى، أنزلها
كما هي، نزلت من السماء على قلب رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ورسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم تلاها ونقلها إلى الناس كما هي دون أي تصرّف في الجمل
والكلمات والآيات.
ب ــ بقاء القرآن إلى اليوم دون تحريف إحدى معجزاته
طبعاً القرآن هو المعجزة الإلهية الخالدة وعندما نتحدّث عن المعجزة
القرآنية هناك إعجاز في أبعاد كثيرة ومنتوعة وعلى أكثر من صعيد ولكن إسمحوا لي في
هذه الليلة أن أتحدّث عن بعد واحد أو مثلٍ واحد من الإعجاز القرآني الذي يمكن أن
نشرحه بسهولة وأن نفهمه بسهولة أيضاً؛ لنتأكّد أن ما بين أيدينا هو من الله سبحانه
وتعالى. القرآن الكريم والآيات القرآنية بدأت بالنزول في بداية بعثة النبي صلى الله
عليه وآله وسلم وإستمرّ هذا الأمر خلال ثلاثة وعشرين عاماً إلى وفاة رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم. عندها إنقطع الوحي. وبالتالي القرآن من بداية البعثة إلى آخر
آية نزلت على رسول الله جُمعت وتكوّن منها هذا المصحف الشريف. يعني نتحدّث عن قرآن
عمره ما يقارب 1450 سنة، .1450وهذا النص القرآني ـ ونحن لا نتحدّث عن صفحتين
أوثلاثة أو مئة بل أكثر ـ هذا النص القرآني بقي محفوظاً وهذه هي المعجزة التي أريد
التحدّث عنها؛ بقي محفوظاً كما هو دون تحريف أو تزوير أو تبديل أو تغيير أو زيادة
أو نقصان. وهذا القرآن الذي بين أيدينا هو الذي يُجمع المسلمون؛ يعني اليوم في
العصر الحديث مثلاً مليار وأربعمئة مليون مسلم، يجمعون أن هذا هوكتاب الله عز وجل.
إذا أضفنا إليهم مئات الملايين ومئات الملايين منذ بداية البعثة النبوية إلى العصر
الحالي يعني لدينا مليارات من المسلمين من علمائهم ونخبهم وفقرائهم وكبارهم
ومفسريهم وعوامهم وخواصهم يُجمعون على أن هذا النص هو النص القرآني الذي نزل على
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ج ــ التحريف طال السنة النبوية حتى في حياة الرسول (ص)
لكن العجيب كيف بقي هذا النص 1450 سنة بدون تحريف بدون تزوير بدون زيادة
بدون نقصان بدون تغيير بدون تعديل مع العلم أن كل الأسباب والدواعي البشرية
والطبيعية موجودة. يعني لو أخذنا مثلاُ، لنقرّب الفكرة أكثر: ما هو إلى جانب القرآن،
هو السنّة، سنّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. النبي وهو في مكّة وبعد ذلك في
المدينة وأثناء حياته في المدية ـ لأسباب سوف نتكلم عنها بعد قليل ـ خرج ناس يكذبون
عن رسول الله صلى الله عليه وآله. يعني، يأتي إلى شخص أو إلى مجموعة أشخاص ويقول
لهم: قال رسول الله أو سمعتُ رسول الله ..، والنبي لم يقل ذلك ولا هو سمِع منه.
والكذب عن رسول الله بدأ في حياة رسول الله. حتّى أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم خاطب المسلمين في المسجد: شكى إليهم وندّد بهؤلاء الوضّاعين الكذابين في زمن
النبي صلى الله عليه وآله.
د ــ المحرفون ودوافعهم:
1 ــ المنافقون
طبعاً في ذاك الوقت كان هناك مشكلة كبيرة: منها المنافقين الذين دخلوا في الإسلام
وأظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر وعملوا على تخريب الإسلام وتشويه صورة الإسلام
وتشويه صورة النبي صلى الله عليه وآله. وهم كانوا موجودين في المدينة لذلك كانوا
يكذبون عن رسول الله ويخترعون أحاديث وروايات ليس لها أساس. وعندما يخرجون من
المدينة إلى الصحراء والقبائل والعشائر أو المدن الأخرى يتظاهرون بالإسلام وينقلون
أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. والناس آنذاك لم يكن لديها وسيلة مثل
هذا الزمن للتثبّت: أن يتّصلوا ويتأكّدوا أو حتى إذا أرادوا أن يُرسلوا أحدا ليسأل
النبي كان ذلك يحتاج من الوقت أشهرا ومخاطر وما شاكل. إذن المنافقون لعبوا دور كبير
بهذا الموضوع.
2 ــ اليهود
ثانياً اليهود الذين كانوا في المدينة وحول المدينة وفي خيبر وغيرها الذين أيضاً
أدخلوا في الإسلام؛ الكثير مما ليس من الإسلام وما هو معروف عند الإسلام بالأحاديث
الإسرائيليةأو بالإسرائليات ونسبوها إلى النبي صلى الله عليه وآله والنبي لم يقل
ذلك.
3 ــ المتأولون على "خلافة" الرسول (ص)
أيضاً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله فالإختلافات التي حصلت بين المسلمين
عدا عن الذين يُحاربون الإسلام من خارج الإسلام، فمن داخل المسلمين والأمة
الإسلامية والجماعة الإسلامية حصلت خلافات عديدة، خلافات ذات طابع سياسي، خلافات
ذات طابع عقائدي، خلافات ذات طابع فقهي وما شاكل، خصوصاُ في الصراع السياسي كان
يُستخدم أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتم وضعها ليستقوي طرفٌ على
آخر. وهذا حصل كثيراً في زمن بني أميّة وزمن بني العبّاس: وضعوا أحاديث في الفضائل
وفي المثالب وفي الملاحم والفتن وفي الأحداث السياسية وفي مدح هؤلاء القوم وذم
أولئك القوم. يعني مثلاً، في زمن بني أمية كان التركيز على مدح أهل الشام، في زمن
بين العباس كان التركيز على مدح أهل خراسان فكل واحد يركّب أحاديث في مدح جماعته
وما شاكل. إذن توفّرت الأسباب وكان هناك الدواعي وأيضاً التمويل وأيضاً الحماية
السياسية والحماية الأمنية ووضعت أحاديث إلى ما شاء الله. بحيث أن علماء الحديث من
السنّة والشيعة يتكلّمون عن مئات آلاف الأحاديث التي تم وضعها. لكن تاريخياً هناك
شيء فعلوه العلماء من مختلف المذاهب الإسلامية أنهم وضعوا قواعد علمية متقنة ورصينة
لتمييز الأحاديث الصحيحة والمعتبرة عن الأحاديث غير الصحيحة أو الأحاديث الوضوعة.
وهذا طبعاً فتح علوم وتخصصات في علم الحديث، في علم الرجال، في علوم أخرى، في علم
التفسير وما شاكل، ساعد على أن نصل إلى مكان تم إلقاء كم هائل من الأحاديث المكذوبة
والموضوعة جانباً. ولذلك كثير من هذه الأحاديث الموضوعة لم تصل إلينا وإنّما ذهبت
في تلك الأزمنة القديمة.
هـ ــ الإكتفاء بالقرآن دون السُنّة دعوة غير مقبولة
على هذا الأساس لا يصحّ اليوم؛ يوجد بعض النخب في بعض البلدان العربية
يقول لك: لأن الأحاديث فيها كذا وفيها كذا وفيها موضوع ومكذوب وصحيح ومعلوم وغير
معلوم فإذاً فلنضع الأحاديث كلها جانباً ولنكتفي بكتاب الله سبحانه وتعالى. طبعاً
هذه ليست دعوة حديثة. بعض الناس يعتبرون أنفسهم نخب ومتنوّرين ومثقفين ويأتون بشيء
جديد. لكن هذا كان موجودا حتى في القرون الماضية. وهذا غير مقبول لأنه نحن لدينا
القدرة ـ أي علماء المسلمين من مختلف المذاهب ـ لديهم القدرة والقواعد العلمية
والمناهج الصحيحة للتمييز الأحاديث الصحيحة والمقبولة والمعتبرة من غيرها. والأهم
من ذلك أنه حتى عندما تقول نكتفي بالقرآن فإن القرآن أمرنا أن نأخذ بكل ما آتانا به
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن نتّخذ رسول الله أسوة وقدوة في سلوكه
وأقواله وأعماله. ولا طريق لنا إلى ما جائنا به رسول الله وسيرة رسول الله وأعمال
رسول الله سوى هذه الأحاديث وهذه الروايات التي علينا أن نتثبّت، كما يفعل العلماء
في كل جيل، يمحّصون ويدققون ويدرسون الأسانيد ويدرسون المتون ويقومون بمقابلتها
بالقرآن الكريم وما شاكل.
وــ الله حفظ القرآن من التحريف بالرغم من المتربصين
أنا هنا أردت أن آخذ الملاحظة لأقول إذا في السنّة النبوية حصل ذلك،
مئات آلاف الأحاديث المكذوبة والموضوعة، وبعض الأحاديث يُدفع من أجلها مال ويحصل
مساومة أن هذا الحديث بمئة ألف درهم؛ فيقول: لا؛ لا يكفي، نريد مئتي ألف درهم أو
ثلاثمئة ألف درهم. وهذا موجود في الكتب. لكن لماذا هذا لم يحصل في القرآن الكريم.
فالأسباب موجودة والدواعي موجودة بل بالعكس في القرآن أشدّ وآكد. تصوروا أن يحصل
تزوير أو تحريف بآية قرآنية تؤدي إلى مدح قوم على حساب قوم في وقت أن القرآن واضح:
"إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم". فإذا أدخلو آية وإمتدحوا قوم على حساب آخرين ستذهب
أبدية. فسلاح القرآن أقوى في السياسة وفي النزاعات العقائدية، وأقوى حجّة في
الإستدلال الفقهي. مع ذلك لا أحد أقدم على هذا الموضوع. لكن ما هو السبب؟؟ إذا
الدواعي وموجودة والأسباب موجودة أو ممكن أحد أن يتصوّر أن هؤلاء لم يكن يجرأونعلى
أن يزيدوا في القرآن أو يُنقصوا من القرآن أو يُحرّفوا كلمات القرآن وآياته لكن من
ليم يكن لديه الجرأة هل المنافقين أم اليهمد الذين حاربوا رسول الله وهم كانوا
يحرّفون الكلم عن مواضعه، حتى المسلمين الذين كذبوا على رسول الله فهذه الجرأة على
رسول الله هي جرأة على الله سبحانه وتعالى، عندما ينسبوا حكماً فهو ينسبه إلى الله،
وعندما ينسب موقفاُ عقائدياً إلى رسول الله فهو ينسبه إلى الله. إذاً الجرأة أيضاً
كانت موجودة؛ الجرأة على التزوير وعلى التحريف وعلى البدعة. كل هذا إذا تكلّمنا فقط
داخل المسلمين. وكذلك الحال في الصراعات التي كانت بين المسلمين وأمم أخرى ويدخل
جزء منها الصراع الفكري وسعي كل طرف لتشويه صورة الطرف الآخر وتشويه فكره وعقائده
وأن ينسبه إلى شء مستهجن أو غريب أو مدان، لكن هذا كله لم يحصل إلى اليوم. في
العصور الحالية مع هذه التكنلوجيا وهذا التطور في وسائل الإتصالات والإمكانات
العلمية الهائلة كل الأسباب موجودة.الآن مثلاً الإسرائليين عندما يريدون أن يعقدوا
إتفاقا مع أي دولة عربية يشترطون عليهم أن لا تعلموا أولاد المدارس الآيات التي
تتحدّث عن بني إسرائيل أو تدين أداء بني إسرائيل مع أنبياء الله سبحانه وتعالى، وما
فعلوه بموسى وعيسى ومريم ورسول الله محمد صلى الله عليه وآله وعليهم أجمعين. إذاً
بطريق أولى يجب أن يعملوا على تحريف قرآننا وتزويره وتبديل ما فيه، لكن لم يفعلوا
لماذا؟ لا يريدون أو لا يجرأون؟؟هذه الفكرة التي أريد أن أصل إليها أن: طوال
التاريخ كان قائماً هذا الخطر وهذا التهديد والجواب الوحيد العلمي والمنطقي والصحيح
والمستدلّ هو أن الله سبحانه وتعالى (وهنا جانب المعجزة)وعلى مدى أكثر من 1450 سنة
وإلى قيام الساعة منع أن يمسّ هذا القرآن وهذا الكتاب بأي تحريف أو تزوير أو زيادة
أو نقصان. وما ورد بين هلالين من روايات هنا وهناك عن تحريف أو تزوير أو زيادة أو
نقصان كلها روايات مكذوبة والموضوعة ولا يمكن قبولها والإعتماد عليها بشكل أو بآخر.
إذاً نحن أمام هذا القرآن الموجود بين أيدينا، نحن أمام تحقق الوعد الإلهي في
الحقيقة "بأنا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون". هذا تحقق للوعد الإلهي. إذاً
المسألةالأولى في المعرفة هي أن تعرف أن هذا الكتاب وهذا القرآن هو من عند الله
سبحانه وتعالى لتعرف نفسك ماذا تقرأ، هذا الكتاب لمن؟.
ز ــ القرآن هو خطاب الله لكل واحدمنا
النقطة الثانية أن تعرف أن القرآن وأن آيات القرآن هي خطاب الله لك. وهي
حديث الله معك، يعني أن الله يتكلّم معك ويتحدّث إليك، الله يخاطبك، الله ينصحك،
يأمرك، ينهاك، يخبرك،يقصّ عليك، يعظك، يذكّرك.. عندما تقرأ القرآن، خصوصاً هذه
الليالي والأيام عليك أن تعتبر أن الله يتكلّم معك، وهذا وخطاب الله إليك خصوصاً
بالآيات عندما يقول "يا أيها الذين آمنوا.." أنتَ مفترض من الذين آمنوا أو " يا
أيها الناس.." " ياأيها الإنسان.." "يا عبادي.." هذا خطاب لكل واحد منا. في رواية
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا أراد أحدكم أن يحدّث ربه فليقرأ القرآن".
وهذا حديث، لكن أي حديث؟ حديث الله معك. أنتَ يمكنك أن تتحدّث إلى الله وطريقك
مفتوح دائماً لكن حديث الله معك هي هذه الآيات والكلمات.
ح ــ للإقبال على القرآن بما هو هو: كتاب هداية ليس إلا
ثالثاً، أحب أن أقول لهذا الجيل ــ خصوصاً للشابات والشباب ــ أن هذا
الكتاب كتاب الله الذي نريد أن نقرأ فيه ونتلوه في هذه الليالي والأيام يجب أن نعلم
أنه كتاب هداية بالدجة الأولى وهي مهمته الأساسية {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ
رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} الله سبحانه وتعالى أعطى هذه الصفة للقرآن وهي
الهدى والنور والهداية وبالتالي علينا أن نتعاطى معه كذلك. يعني هو ليس كتاب تاريخ
ولا كتاب قصص نعم هناك قصص وهناك تاريخ فيه، لكن هو ليس كذلك. مثلاً: هناك البعض
كان يسأل في الأيام القديمة عندما كنا نلتقي بالحسينيات والقاعات أن القرآن حكى قصص
مثل قصة يوسف عليه السلام وتنتهي القصة في القرآن أنه جاء أبواه وإخوته وتحقق
المنام الذي رآه في البداية؛ أن شمسا وقمرا و الكواكب ساجدون له، لكن بعد ذلك ماذا
حصل مع يوسف؟ وماذا حصل مع يعقوب؟ وماذا حصل معهم سوى أنهم عاشوا في مصر؟ هذا ليس
عمل القرآن أن يقول لك بعد ذلك ماذا حصل. لأن هذه القصة فيها عظة وعبرة وهداية ووو..
والله أتى بهذه القصة كي يحقق هذا الإرشاد أو التوجيه أو التربية أو الهداية التي
يريدها. مثلاً عندما يحكي لنا قصة آدم وإبليس وبداية الخلق واذا حصل في الجنّة
والخلاف الذي حصل بينهم ونزلوا إلى الأرض.. لكن بعد ذلك ماذا حصل؟؟ هناك الكثير من
التفاصيل لا يحكيها أو قبلها ماذا كان؟ لم يقل لنا لأن الكتاب ليس كتاب تاريخ أو
قصّة. القصة عندما نقرأها في القرآن مثل " آدم وإبليس" أو " إبراهيم ونمرود" "موسى
وفرعون" قصة بني إسرائيل قصص الأقوام الذين عاندوا أنبيائهم وعاندوا الله سبحانه
وتعالى وما جرى عليهم، هذه كلها لأخذ العظة والإنتباه، وفيها كثير من الدروس التي
لها علاقة بفهم السنن التاريخية وفهم الله سبحانه وتعالى: كيف يعمل وكيف يقرر وكيف
يحاسب. ولها علاقة بالكثير من الأشياء لكن هو ليس كتاب قصة كذلك أيضاً هو ليس كتاب
علوم طبيعية وعلوم إنسانية وفلك وما شاكل. يحكي عن الشمس وعن القمر وعن الليل وعن
النهار وعن الطبيعة وعن المخلوقات، وعندما يتكلّم في بعض الأهداف لإظهار عظمة
المخلوق الذي يكشف عن عظمة الخالق قد يكون الهدف لإلفاتنا كي نتفكّر ونتدبّر وقد
يكون الهدف إرشادنا ّللإستفادة من إمكانات الطبيعة وما شاكل، أوقد يكون الهدف هو
الإشارة إلى الإعجاز العلمي لأنه هناك أشياء تكلّم عنها القرآن الكريم قبل 1450 سنة
الآن العلماء بدأوا يكتشفوها أو بدأوا يكتشفوا بعض جوانبها لكن ليس الهدف أن يقدّم
لنا علم الفلك أو الفيزياء أو الكيمياء أو الطبيعيات أو الطب أو أو.. وهكذا إذا
أردنا أن نذهب إلى عناوين أخرى إذا أردنا أن نقول هو ليس كتاب كذا وليس كتاب كذا..
هو كتاب هداية، كتاب إرشاد، كتاب تربية، كتاب تزكية، كتاب يريد أ يأخذ بأيدينا
ويمشي بنا في طريق صلاحنا وسعادتنا كأفراد وكبشر في الدنيا وفي الآخرة. ونحن عندما
نقرأ القرآن يجب أن نقرأه بهذا الفهم حتى نستَهدِيهُ، حتى نتعلّم منه، حتى نصل إلى
الغاية التي ينشدها القرآن وهي الهداية، هدايتنا إلى طريق الله سبحانه وتعالى وإلى
ما فيه خير ديننا ودنيانا وآخرتنا.
ط ــ القرآن حياة للعقول والنفوس
والنقطة الأخيرة في قسم المعرفة قبل أن ننقل إلى قسم العمل، هو أن
القرآن حياة، حياة للعقول وللأرواح وللأنفس وهو غذاء لأرواحنا ونفوسنا وعقولنا
وقلوبنا ومشاعرنا، هو شفاء لما في الصدور، فمثلما الجسد بسبب تكوينته المادية هو
بحاجة إلى غذاء من سنخه. يعني يحقق التغذية. البدن لا تغذيه لا بالنصيحة ولا
بالكلام الطيب ولا بالشعر ولا باللوحات الجميلة. البدن يغذّى بالشراب والطعام
والدواء ووو...الرياضة وما شاكل.الروح أيضاً، عقل الإنسان، روح الإنسان، عواطف
الإنسان، نفس الإنسان،قلب الإنسان، هي بحاجة إلى غذاء من هذا السنخ، إلى شفاء، وإلى
ما يقوّيها وينمّيها ويغذّيها ويسعدها ويمكّنها ويثبّتها ويريحها ويطمأنها ويأنسها.
ولذلك يجب أن يكون من سنخية أخرى. القرآن الكريم في الحقيقة هو أيضاً في هذا المقام
لأن الله سبحانه وتعالى يقول: { أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
مثلا عندما نتحدّث عن الطمأنينة النفسية والسكينة النفسية وعن الهدوء النفسي، وأعظم
الذكر هو القرآن الكريم. إذاً القرآن الكريم خصوصاً في هذه الأزمنة التي فيها
إضطرابات وتهديدات وصعوبات وتحدّيات ومخاطر ومشاكل وأزمات نفسية وأخرى شخصية
وإجتماعية، وتحدّيات، حتى النبي صلى الله عليه وآله الله سبحانه وتعالى يقول له
الله أننا ننزّل هذا القرآن وننزّله تدريجياً لنثبّت به فؤادك. إذن لتثبيت فؤاد
النبي وفؤاد المؤمنين، القرآن يقوم بهذا الدور وبهذه المهمّة. لذا نحن أمام كتاب هو
شفاءٌ لما في الصدور وغذاء للروح، ومبعث الطمأنينة والأنس والسكينة في قلوبنا وفي
أرواحنا وفي أنفسنا وهو غذاء لعقولنا لأنه ينير أمامنا الطريق ويكشف أمامنا الكثير
من الحقائق: حقائق الكون والحياة والإنسان والوجود، ويعرّفنا على الله سبحانه
وتعالى. أنا أكتفي بهذه النقاط الأربعة لأقول للإخوة والأخوات أنه عندما نصل إلى
هذه الأيام والليالي وعلى مدى السنة، لكن هذا الشهر له خصوصيته، عندما نريد أن نقرأ
فهذه النقاط بالحدّ الأدنى يجب أن نستحضرها، أننا نقرأ كتاب الله عز وجل، وليس كتاب
أحد آخر. وأن هذا الخطاب هو لي وأن الله يتكلّم معي أنا العبد الفقير المسكين
البائس الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً. رب
الأرباب ملك الملوك خالق السماوات والأرض ورب السماوات والأرض مالك السماوات والأرض
جبار السماوات والأرض، يتكلّم معي ومعك. وأن هذا القرآن هو قرآن الهداية فيجب أن
نستهديه وهو شفاءٌ وغذاء وأنس وطمأنينة وسكينة لقلوبنا وأنفسنا وعقولنا وأرواحنا
وباب للمعرفة ليس له حدود، ويجب أن نقاربه بهذا الفهم وبهذه المعرفة.
ثانيا،آداب في تلاوة القرآن
القسم الثاني:عندما نأتي إلى التلاوة. طبعاً التعاطي مع القرآن بشكل عام
هناك مجموعة عناوين؛ مثلاً: إحترام القرآن وإحترام المصحف يعني هذه الأوراق وهذا
الحبر وهذا الغلاف عندما يصبح قرآناً ومصحفاً يصبح له إحترامه وقداسته التي يجب أن
تُرعى وبالتالي كل ما يسيء إليه أو يؤدي إلى هتك حرمته يصبح حراماً وغير جائز
ويُحاسب عليه الإنسان يوم القيامة.
أيضاُ عنوان حفظ القرآن عن ظهر غيب، عنوان تحفيظ القرآن وتعلّم القرآن وتعليم
القرآن، الإستماع والإنصات إلى القرآن إذا تُلي، العمل بالقرآن ... وهناك عناوين
كثيرة لكن اليوم أنا سأخذ واحد من هذه العناوين لأن الوقت لا يتسع، وهو تلاوة
القرآن الذي أشرت إليه في بداية الكلام " من تلا فيه آية". سنتكلّم عن التلاوة ولكن
ليس كل شيء عن التلاوة بل أمرين مرتبطين بالتلاوة فقط، لأن الكلام عن التلاوة أيضاً
يحتاج إلى وقت طويل.
أ ــ تلاوة القرآن عبادة عظيمة الثواب
في كثير من الآيات إستخدم كلمة تتلو،يتلو، نتلو،إتلو .. وما شاكل. ماذا
تعني التلاوة؟ أي القراءة، قراءة الجمل تسمّى تلاوة بمعزل عما سنتكلّم عنه لاحقاً (ما
هي القراءة المستحبّة، وكيف هي، والملاحظات التي يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار) لكن
معنى التلاوة هو القراءة.التأكيد على مبدأ التلاوة هو من المستحبّات المؤكّدة
والعبادات العظيمة وهي قراءة وتلاوة القرآن، والله سبحانه وتعالى في هذا المجال فتح
لنا الزمان والمكان وفي كل الظروف، في الفرح، بالحزن وليس فقط عند الميتون، وبالبيت
وبالمسجد وقبل النوم وعند الإستيقاظ. وأنت في العمل وأنت تمشي في الطريق وأنت في
السيارة وأنت تخطب وأي شيء، كله مفتوح.طالما موضوع الإحترام محفوظ وليس هناك
ملاحظات فإنه مفتوح في الزمان والمكان. نعم في بعض الأزمنة هناك خصوصية وفي بعض
الأعمال تصبح واجبة قراءة القرآن كما في الصلوات الواجبة. حتى في الصلوات المستحبّة
فلا صلاة بلا فاتحة الكتاب سواء كانت واجبة أو مستحبّة. لكن في بعض الأزمنة لها
خصوصية مثل شهر رمضان المبارك الذي جُعل فيه تلاوة آية ـ يعني ثوابها وأجرها ـ
يعادل ثواب وأجر قراءة كل القرآن في غيره من الشهو. وهذا ما سمّيناه الإستثناء
ومقتضيات الضيافة الإلهية في شهر رمضان المبارك. لكن حتى خارج شهر رمضان عموماً،
ورد في الروايات والأحاديث الكلام عن أجر وثواب كبيرين وعظيمين لتلاوة القرآن
الكريم في كل حال.
عندما نأتي لموضوع التلاوة بشكل مباشر، هناك بحث طويل عن آداب التلاوة لا أريد
الدخول فيه وهو موجود في الروايات وليس العلماء إخترعوه مثل أن تقرأ القرآن وأنت
طاهر (أي الحدث الأصغر والحدث الأكبر) وأن يكون على طهارة، وتنظيف الفم قبل قراءة
القرآن لأنه سيكون هو مخرج الكلمات والآيات. مثلاً: قراءة القرآن وانت متّجه إلى
القبلة، أن تبدأ بالإستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وهكذا هناك مجموعة آداب
موجودة في الكتب ومن المفيد الأخوة الأخوات أن يراجعوها ويهتمّوا فيها، لكن أنا
أريد التحدّث فقط عن أمرين في موضوع التلاوة لأنهم الأكثر أهميّة في الحقيقة.
ب ــ الترتيل هي التلاوة المطلوبة. فكيف هو؟
الأمر الأول: كيفية القراءة والتلاوة، أيضاً الإخوان والأخوات
المتقدّمين بالسّن قد لا يكون هذا جديدا عليهم لكن بالنسبة للشباب والصبايا قد يكون
هناك بعض الإلتباسات. مثلاً: قد يكون في ذهن البعض أنه كي نقرأ القرآن علينا أن
نقرأ مثل الشيخ عبد الباسط عبد الصمد أو الشيخ مصطفى إسماعيل أو القارئ الفلاني.
وهنا أنت بحاجة للقواعد وقواعد التجويد وصوت جميل وحنجرة ونفس طويل وما شاكل. فيقول
الشاب: هذه قصة صعبة ومعقّدة ولذا فلندع القراءة. وهكذا قد يكتفي هؤلاء ـ في أحسن
الأحوال ـ بالإستماع إلى القرآن. وإن كان الإستماع إلى القرآن أمرا جيدا ومستحب،
لكنه لا يغني عن مطلب التلاوة.أنا أريد أن أشرح الموضوع وأبسّطه هناك مجموعة عقد.
حتى نحن خلال نشاطنا الثقافي قد نضعها ونحن غير ملتفتين بالتقسيم بين وضعين او
حالتين.
نرجع لأصل الموضوع. الله سبحانه وتعالى كيف طلب منا أن نقرأ القرآن، هو طلب منا
طريقة معيّنة، في سورة المزّمل يقول الله سبحانه وتعالى لنبيّه { بِسْمِ اللّهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا
قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ
الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} يعني التلاوة والقراءة للقرآن المطلوبة بحسب الخطاب القرآني
هي الترتيل.ماذا يعني الترتيل؟ طبعاً دائماً عندما نقول ترتيل يأتي بذهن الناس على
ما يشاهدوه في التلفاز أو ما يسمعوه في الإذاعة من طريقة قراءة الشائعة والقائمة.
إذا عدنا لنسأل علماء اللغة وعلماء التفسير وعلماء الأجيال الأولى ماذا يعني
الترتيل؟ فيقولون لنا أن الترتيل هو تبيان الكلمات حتى لا تُدغم الكلمات في بعضها
البعض لأن الإنسان عندما يتكلّم أحياناً قد "يأكل الكلام" كما نقول بالعامية. يعني
يدخل الكلمة بكلمة أو الجملة بجملة وهذا خلاف الترتيل. هذا أولاً؛ تبيان الكلمات
وليس دمجها بكلمة أخرى. ثانياً: إخراج الحروف من مخارجها ونحن نتكلّم اللغة العربية.
يعني كل حرف له مخارجه ونحن العرب هذا الأمر سهل علينا لأنه موجود لدينا بالسليقة
والطبيعة. ربما غير العرب يحتاجون لبذل جهد كبير للتعلّم والتعليم كي يصبح لديهم
القدرة لإخراج الحروف من مخارجها خصوصاً بعض الحروف مثل "ض" أو "ط" والقراءة بتأنّي
وهدوء وبتمهّل. هذا هو الترتيل، وليس فقط ما هو بأذهاننا. ما نسمعه هو شكل من أشكال
الترتيل ومستوى من مستويات الترتيل لكن الترتيل هو هذا: تبيان الكلمات دون دمجها
ببعضها البعض، إخراج الحروف العربية من مخارجها الصحيحة، والتلاوة والقراءة بتمهّل
وتأنّي وهدوء. هذا هو الترتيل. الآن في شهر رمضان عندما نريد أن نختم القرآن نقوم
بسباق وترى الشخص يقرأ بسرعة جداً؛ هذا ليس الترتيل الذي طلبه منا الله سبحانه
وتعالى. هذه قراءة.طبعاً بالقراءة هناك أصل ثابت على كل حال هو أن تقرأ باللغة
العربية الصحيحة وخصوصاً مراعاة قواعد النحو أثناء القراءة، لأنه أثناء القراءة إذا
حولنا الفاعل إلى مفعول والمفعول به إلى فاعل والمرمفوع إلى منصوب والمنصوب
إلىمرفوع ستخرب الدنيا وتصبح المفاهيم معكوسة مئة بالمئة. مثلاً، الآية المعروفة :
{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} يعني العلماء هم الذين
يخشون الله سبحانه وتعالى لكن أتت على سبيل الحصر فيأتي أحد ويقرأها بهذه الطريقة {إنما
يخشى الله من عباده العلماء} بدون تحريك فتصبح تفسير الآية أن الله يخاف من العلماء.
أو مثلاً: { أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} يعني ورسوله
أيضاً بريء من المشركين في سورة البراءة من عبادة الأصنام في مكّة، إذا جاء شخص
وقرأها{ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِه} كأن الله بريء من ـ
والعياذ بالله ـمن رسوله. لذلك ولأننا نتكلّم اللغة العربية يجب على من يقرأ القرآن
أن يكون دقيقا في موضوع النح: الرفع، النصب، والجرّ؛ لأن هذا له علاقة بالمعنى وليس
موضوع شكلي أو فنّي أو تقني أو جمالي.. بل يغيّر في المعنى بشكل كامل وبشكل جوهري .
إذاً، هذا هو الترتيل المطلوب. ورد في الروايات أيضاً إستحباب أو التشجيع على
القراءة بصوت جميل وصوت حسن وأيضاً بصوتٍ حزين، يعني أن يقرأ بحزن وهناك نغمة للحزن
لذا مستحب القراءة بلحن حزين أو نغم حزين.
بعد قليل سأعود إلى هذه النقطة في موضوع الترتيل لنأخذ بعض التنبيهات العملية أو
الإلفاتات العملية.
ج ــ لنقرأ القرآن بتدبر وتفاعل
الأمر الثاني الذي هو على درجة عالية جداً من الأهميّة بكل هذا النقاش
والكلام هو التدبّر في القراءة، التفكّر، التأمّل، الفهم. وهذا هو الأصل والغاية
والمطلب. وليس أن تصبح القراءة فقط قراءة أو لقلقة لسان أو مجرد ختم الكتاب من أوله
لآخره، ولكن ماذا فهت؟ وماذا إستفدت؟ وكم تفاعلت؟ وكم تأثّرت؟ وكم تجاوبت نفسياً؟
ونحن نعلم الفرق بين هذه الأمور. الشباب عادة لا يتفاعلون مادة الجغرافيا كثيراً
لكن إذا جاء الأستاذ وأعطانا رواية وهي حوالي 100 أو 200 صفحة ولكن جذابة وجملية
فنرى أنفسنا متمسّكين بها ونقرأها ولا نصدّق متى يغادر الضيف عندنا كي نكملها
ومهتمّين بأحداثها ونتعاطف ونحزن وننزعج ونترقّب .... كل هذا إسمه تفاعل. كما هو
الحال مع المسلسلات: قد تشاهد مسلسلا فلا يعجبك وقد ننابع آخر فتنتظر الحلقات في
اليوم التالي لتعرف الأحداث وما سيحصل من نتيجة. هذا كله إسمه تفاعل.
المطلوب بتلاوة القرآن أولاً الفهم، وليس شرطاً أن يكون كفهم الفلاسفة والحكماء
والعرفاء والفقهاء بل الفهم الإجمالي لأنه هناك مستوى في الخطاب لنا جميعاً وكلنا
نستطيع فهمه. هذا الفهم والتأمل والتدبّر والإستفادة والإستهداء وإستنطاق الحق من
هذا القرآن الكريم ـ كما كنا نتحدّث عن القصص ـ عندما نأخذ قصة مريم عليها السلام
ونقرأها ونتفكّر فيها، ما هي العبرة؟ ما هو الدرس؟ لماذا الله يقص لنا هذه القصّة؟
لماذا يُحدّثنا عن آسيا بنت مزاحم زوجة فرعون؟ لماذا يكلّمنا عن طريقة ولادة موسى
عليه السلام؟ لأن كل هذه القصص فيها عبَر ودروس للتأمّل والتفكّر. طبعاً، قد لا تصل
إلى إستنتاجات كلامه تعالى. وهذه واحدة من فوائد التلاوة الدائمة للقرآن على مدار
السنة وعلى مدار الحياة؛ عندما تقرأه مرة وإثنتن ثلاثة وأربعة وخمسة وألف وألفين .
هناك تشبيه جميل عادة لا يتعاطفون في بعض الخطب للروايات: "كمثل البحر" الغني الذي
يحتوي ما شاء الله من مخلوقات الله عزوجل: من حيوانات ونباتات وأحجار ومن ومن ...
وكلما غطست في البحر ونزلت تجلب شيئا جديدا. لا ينفذ ما هو موجود في البحر، والقرآن
كذلك وهذا طبعاً من حكمة التلاوة المتكررة لأنها تثبّت فكرتك وعقيدتك وروحيتك وأنت
تحتاج دائماً إلى هذه القراءة. إذن التدبّر. إذا قرأت مثلاً شيئا له علاقة بصفات
الله سبحانه وتعال: كما في قوله تعالى "ليس كمثله شيء" وهي جملة واحدة وهي كافية
إذا تأملت فيها. فلو جاءتمئة رواية تقول لك أن الله جسم وأن الله له يد وأن الله له
رجل وأن الله نزل على السماء الدنيا والله له عينيين ورأينا الله وسنرى الله...كل
هذا تضعه جانباً. فهذه جملة واحدة { ليس كمثله شيء}. التدبّر التأمّل التفكّر
ستوصلك إلى نتائج ممتازة جداً وأنتَ بحاجة لها على مستوى عقيدتك وعلى مستوى حياتك
وسلوكك.كذلك عندما يحدّثنا القرآن عن واجباتنا وما يأمرنا به وما ينهانا عنه، هذا
يجب أن نفهمه ونستوعبه، عن المسؤلية، عن القيامة، عن الحساب، وكذلك عندما يُحدّثنا
عن الموت والحشر والوقوف بين يديّ الله والميزان وتطاير الكتب والجنّة والنار، كل
هذا يحتاج تدبّر وتأمّل.
الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبة المتقين، يوجد مقطع من
صفات المتّقين ـ وعادةً في هكذا مناسبات نقرأه ـ وهو يصوّر لنا كيف للإنسان أن
يرتّل القرآن؛ يعني الترتيل الحقيقي للقرآن. يقول الأمير عليه السلام عن المتّقين
أنهم كيت وكيت وكيت بالنهار. "أمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أقْدَامَهُمْ ، تَالِينَ
لأجْزَاءِ القُرْآنِ يُرَتِّلُونَهُ تَرْتِيلا . يُحَزِّنُونَ بِهِ أنْفُسَهُمْ" أي
يقرأونه قراءة حزن، " وَيَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ" لديهم أمراض وفي
القرآن يجدون الداء، "فَإذَا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَشْوِيقٌ" يعني آيات تتحدّث عن
الجنة والقصور والحور وأنهر العسل والخمر واللبن والنعيم "رَكَنُوا إلَيْهَا طَمَعاً،
وَتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إلَيْهَا شَوْقاً ، وَظَنُّوا أ نَّهَا نُصْبَ
أعْيُنِهِمْ ." .يعني إطمأنت إليها نفوسهم وكأن الجنّة أمام أعينهم وهم يرون ما
ينتظر المؤمنين والمتقين في الجنة . "وَإذا مَرُّوا بِآيَة فِيهَا تَخْوِيفٌ"؛
تتحدّث عن جهنّم والنار والدركات وغسلين وضريع وشجرة الزقوم والملائكة الغلاظ
والجوع والعطش والإهانة والذّل " أصْغَوْا إلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ ،
وَظَنُّوا أنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَشَهِيقَهَا فِي اُصُولِ آذَانِهِمْ ". جهنّم
عندما تشهق وتزفر ويخرج صوتها العالي وغضبها كأنهم يسمعونه الآن فماذا يترتّب على
ذلك؟ " فَهُمْ حَانُونَ عَلى أوْسَاطِهِمْ ".يعني واقفون بخضوع وخشوع ويمكن
تفسسيرها بالركوع أيضاً "مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَأكُفَّهِمْ وَرُكَبِهِمْ ،
وَأطْرَافِ أقْدَامِهِمْ" يعني ساجدون "يَطْلُبُونَ إلَى اللهِ تَعَالى فِي فَكَاكِ
رِقَابِهِمْ مِنَ النَّارِ". هذه قراءة القرآن عندما يقرأ آيات النعيم يتلهّف إليه
وكأنها أمام عينيه وعندما يقرأ آيات العذاب يشعر بالخوف وبالحزن ويستغيث بالله
سبحانه وتعالى ويلجأ إلى الله ويطلب منه فكاك رقبته من النار. ولا يقرأها مثل آيات
الأكل والشرب والوضوء والغسل والقصة والتاريخ وخلق السماوات كأنها كلها من الطبيعة
ذاتها. كلا بل يتفاعل ودرجة التفاعل قد تتفاوت بحسب الموضوع الذي يقرأه. إذاً؛
الأصل هو هذا التدبّر، الله سبحانه وتعالى ماذا يقول {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ
مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} إذن
لماذا أنزلناه؟؟ ليدّبروا آياته. إذا؛ مطلوب تلاوة وترتيل القرآن وقرائته بهدوء
وتأني وتمهّل. وإذا؛ مطلوب أن تبيّن الكلمات وتُقرأ بصوت حسن وصوت حزين؛ إنّما
للتدبّر. فهذه هي الغاية. أولاً: يتدبّرون. ثانياً: نتيجة تدبرهم وتأملهم وتفكّرهم
وفهمهم يتذكّرون من هم أولو الألباب والقلوب والعقول.
د ــ لا ضرورة لأحكام التجويد وأبعاد الترتيل الجمالية
هاتان النقطتان الأساسيتان اللتان يجب أن تكونا واضحتين عندنا أثناء
قراءة القرآن. بناءً عليه، إذا عدنا للترتيل الذي تكلمنا عنه فأنا أقول فلنخفف عن
انفسنا وعن الناس فهناك مرحلتين. المرحلة الثانية قد نحفظ أحكام التجويد ونقرأ
القرآن بناءً على أحكام التجويد بدقّة ويصبح لدينا صوت جميل ونفس طويل ونقلّد كبار
القرّاء القدامى والمعاصرين. هذا كله جيد، ولا مشكلة فيه، ومطلوب. لكن لتكن هذه
المرحلة الثانية. لأن المرحلة الأولى هي أن نقرأ القرآن. في صدر الإسلام وفي زمن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة والتابعين... كيف كانوا يقرأون القرآن؟
أحكام التجويد الموجودة الآن كانت موجودة آنذاك؟ وكل الناس ملتزمون بها؟ لذلك لا
نصعّب القراءة على أنفسنا ولا على الناس ولا على أولادنا ونطلب منهم القراءة بهذه
الطريقة. لأنه إلى أن يحفظ أجكام التجويد سوف يعرض عن القراءة من أساسها. لذلك
المطلوب أن نسهّل الأمور وهي كذلك. وهذا هو المطلوب. وتلك ليست من الأمور الواجبة
بأغلبها. نعم هي جيدة لكنها ليست واجبة. الواجب هو أن ننطق الكلمات كما هي وأن
نُخرج الحروف كما هي وأن نلتزم بقواعد النحو حتى لا يتغير المعنى للكلمات والآيات
وأن نقرأ الترتيل بهدوء وتأني وتمهّل. فالأصل هو أن تقرأ. إقرأ وأنت مرتاح
وبالطريقة التي تساعدك على التدبّر أما إذا أراد شخص أن يقرأ وكل همه النغم واللحن
وحتى أحكام التجويد والصوت الجميل والرنّة والجانب الجمالي والجانب الفني فهو
سيضيّع الهدف. هذا جيد إذا لم يتنافى مع الهدف. الهدف من القراءة والتلاوة هي
التأمّل والتدبّر والتفكر والفهم والتفاعل مع معاني الكلمات ومعاني الآيات مع كل ما
تريد أت تقوله لنا هذه الآيات وهذه الكلمات. لذلك لنخفف على أنفسنا بهذا الموضوع.
يجب أن نقرأ بتمهّل ونخرج الكلمات ولا ندمجها مع بعض ونخرج الحروف من مخارجها،
النحو محفوظ والسبك اللغوي محفوظ ولا ينشغل بالنفس الطويل ولا باللحن؛ بالغنّة ولا
بأحكام التجويد ولا بكل هذه الإضافات التي عملناها كي نجمّل المشهد.
لنعلّم أولادنا القراءة والتلاوة وفيما بعد إذا أصبحنا من أهل القراءة وأهل التلاوة
والترتيل يمكننا تعلّم أحكام التجويد والإلتزام فيها، وبصوت جميل ونتبع مدرسة في
التلاوة، أو نخترع مدرسة جديدة وألحان... هذا كله مفتوح. ونرى الفتاوى في ذلك من
الجائز وغير الجائز، لكن أهم شيء أن لا نصعّب الأمور. هذا هو الهدف الذي أريد أن
أصل إليه. في هذه الأيام وفي هذه الليالي وهذه الساعات ليكن القرآن ـ أيها الإخوة
والأخوات ـ جليسنا وصديقنا ورفيقنا وحبيبنا وأنيسنا. وهذا ممكن لأنه كلام الله
وكتاب الله والمعجزة الإلهية الخالدة. وإذا فعلنا ذلك سوف نجد أنه أجمل وأوفى وأصدق
وآنس صديق ورفيق وحليف وحبيب وأنيس يكمن أن يتّخذه الإنسان. المهم أن نقرأ وليس
المهم كثرة الختم.فالعبرة هي بمقدار التدبر والتأمل والتفكّر وبالتالي الإستفادة
والإستزادة الروحية والنفسية والعاطفية والفكرية والعقلية.
أسأل الله أن نكون حقاً ممن يتلون كتابه حق تلاوته والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.