الحج وأبعاده المعنوية
روح العبادة
الحج في اللغة يعني القصد أو القصد للزيارة. قال الخليل: هو كثرة القصد، وسمّيت الطريق محجّةً لكثرة التردّد. وسمّي الحاج بذلك: لأنه يتكرر للبيت لطواف القدوم، والإفاضة، والوداع
عدد الزوار: 1041
الحج لغةً واصطلاحاً
الحج في اللغة يعني القصد أو القصد للزيارة. قال الخليل: هو كثرة القصد، وسمّيت
الطريق محجّةً لكثرة التردّد. وسمّي الحاج بذلك: لأنه يتكرر للبيت لطواف القدوم،
والإفاضة، والوداع1.
وفي المصطلح الإسلامي هو الشعيرة السنوية التي تتمثّل في قصد المسلم مكّة المكرمة
في وقت محدّد ليطوف حول الكعبة ويقيم في ميدان عرفات ويأتي أعمالاً أخرى معروفة
بمراسم أو شعائر الحج. قال الله تعالى في كتابه الكريم:
﴿ وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ
بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٖ يَأۡتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ
عَمِيقٖ
﴾2، فقد فرض الله تعالى الحج على الإنسان المسلم الذي تتوفّر له الإمكانية
ضمن شروطٍ معينة.
حقيقة الحج
لم يـأتِ الإسلام بالحج وزيارة بيت الله على أنها من الأفعال والأعمال الخاصة
بالأمة الإسلامية، بل إن أساس هذا التشريع يعود إلى زمن حضرة آدم على نبينا وآله
وعليه الصلاة والسلام، فإن الكعبة أول بيت وضع من أجل عبادة الله تعالى:
﴿ إِنَّ
أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا وَهُدٗى
لِّلۡعَٰلَمِينَ ٩٦ فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن
دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ
﴾3.
والحج عبادةٌ تتّحد فيها عناصر كثيرة كالخضوع والتضرّع والزهد والتقوى وذكر الله
والتضحية في سبيله، وإنفاق المال والانقطاع عن الشهوات وملذّات الدنيا لإظهار
العبودية لله عز وجل في أنقى وأعمق حالاتها.
وحقيقة الحج أنه سفرٌ إلى الله تعالى ووفادةٌ إليه وقد ذكر الإمام الرضاعليه السلام
هذا الأمر كأول خصوصية للحج وقال: "علّة الحج الوفادة إلى الله"4. فالسفر المعنوي
إلى الله عزّ وجل هو الذي أدّى الى وجوب الحج. والهدف الأساسي لهذا السفر إثبات
العبودية والتسليم لله تعالى، فعَنْ الإمام الصادق عليه السلام قال: "وهذا بيت
استَعْبَد الله به خلقه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثّهم على تعظيمه وزيارته وجعله
محلّ أنبيائه وقبلة للمصلّين له، فهو شُعبةٌ من رضوانه وطريق يؤدّي إلى غفرانه،
منصوب على استواء الكمال ومجمع العظمة والجلال خلقه الله قبل دحو الأرض بألفي عام
فَأَحَقُّ من أُطِيعَ فيما أمر وانْتُهِيَ عمّا نهى عنه وزجر الله المُنْشِئُ
للأرواح والصّور"5.
فالحج إذاً، هو سيرٌ وسلوكٌ معنويٌّ وهجرةٌ إلهية. وتتجلّى في هذا السفر العبودية
لله بأجلى صورها وأبهاها، فكلّ شعيرة وكلّ منسك وكلّ حكم شرعي في هذا السفر هو
ترجمة مباشرة لحقيقة العبودية وإعلان من العبد بخضوعه لربه ووضعه لنير المذلّة على
عنقه والتصاغر أمام مالك الملوك وامتثاله له وحده ورفضه لكل ربٍّ أو معبودٍ دونه.
وقد ذكرنا مراراً أن من أهداف العبادات أن تترسّخ المعارف والأخلاق الإلهية في قلب
الإنسان وأن يتجلّى التوحيد في قلبه ثم يسري منه إلى كامل وجوده الباطني والظاهري.
وإذا دقّقنا في فريضة الحج نجد أن هذه الأهداف موجودة فيه بقوّة، فالحج يتمّ إلى
بيت الله الحرام الكعبة المعظّمة، وهي مركز التوحيد والمركز الأوحد لتحطيم الأصنام،
فقد رفع نبي الله إبراهيم الخليل عليه السلام نداء التوحيد من الكعبة في أول الزمان،
وسيرفعه فيها في آخر الزمان الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف. قال
الله تعالى لخليله إبراهيم:
﴿ وَأَذِّن فِي ٱلنَّاسِ بِٱلۡحَجِّ يَأۡتُوكَ رِجَالٗا
﴾6.
وقال عزّ من قائل:
﴿ طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ
وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ
﴾7. وهذا التطهير يكون من كلّ الأرجاس وعلى رأسها الشرك،
وفي سورة التوبة نقرأ:
﴿ وَأَذَٰنٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلنَّاسِ
يَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيٓءٞ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ
وَرَسُولُهُۥۚ
﴾8.
وقد بلغ موقع الحج في الإسلام أنه جُعل الميزان في حشر المسلم على دينه أو على غير
دين، فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "من لم يمنعه من الحجّ حاجة ظاهرة ولا
مرض حابس ولا سلطَان جائر فمات ولم يحجّ فليمت إن شاء يهوديّاً أو نصرانيّاً"9.
أبعاد الحج
إنّ فريضة حج بيت الله هي من أبرز الفرائض التي تحوي أبعاداً متعددةً ومتنوعةً
ترتبط بالحياة الفردية والاجتماعية بشكلٍ عظيمٍ، وهي ذات تأثيرٍ عميقٍ في الجسم
والنفس والفكر. وهذه الأبعاد المختلفة ليست منفصلة، بل يمتزج البُعد الروحي مع
البُعد التربوي مع البُعد السياسي والعبادي والاقتصادي والثقافي والفقهي والأخلاقي،
بحيث تكمل بعضها بعضاً لتصبح كياناً واحداً هو الحج الإسلامي. ولو أدّى الحاجّ هذه
الفريضة بالشكل الصحيح، فإنه سينال توفيقات كبيرة في جميع الميادين المادية
والمعنوية، وكذلك ستنعكس آثارها الطيبة على المجتمع الإسلامي أيضاً.
فلهذه الفريضة فوائد جمّة على الصعيدين الفردي والاجتماعي باعتبار أن العبادات في
الإسلام ليست محصورةً في بعدٍ واحد بل هي تشمل جميع أبعاد الإنسان، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ
طالما أن هدف العبادات تكامل الإنسان في حياته في الدنيا وحياته الحقيقية في الآخرة.
ويبرز البعد المعنوي للحج عندما يقارن بالعبادات الأخرى، لما يحتويه من أحكام مفعمة
بالرموز والأسرار. ويتمتع الحج بفضل مناسكه الخاصة، برياضات خاصّة تؤثّر في تزكية
النفس وعلوّ الدرجات المعنوية.
وتبلغ أهمية البعد المعنوي للحج في الروايات الإسلامية حداً بحيث إن الحج يفقد
معناه بدونه. وقد روي أن شخصاً دخل على الإمام الباقر عليه السلام في خلال مراسم
الحج وقال: ما أكثر الحجيج وأعظم الضّجيج، فقال عليه السلام: "بل ما أكثر الضّجيج
وأقلّ الحجيج"10.
وعن ذلك يقول الإمام الخميني قدس سره: "فمن المهم أن يعرف الحاج إلى أين هو ذاهب
ودعوة من يلبّي؟ وأنه ضيف من؟ ولأي سبب؟ وما هي آداب هذه الضيافة؟ وعليه أن يعلم
أيضاً أن الغرور والنظرة الذاتية والأنانية لا تجتمع مع حب الله وطلبه، وتتناقض مع
الهجرة إلى الله، وبالتالي تكونان سبباً للخلل في تحقيق الآداب المعنوية للحج"11.
ولا بد من إلفات النظر إلى البعد السياسي للحج والذي أبرزه الإمام الخميني وأطلق
على الحج بسببه تسمية "الحج الإبراهيمي" واعتبر أن الحج دون هذا البعد هو حج ناقصٌ،
لا يلبّي الأهداف الكبرى التي أرادها الله عز وجل من خلال تشريع الحج. وذلك أن شعار
الحج هو إعلان البراءة من المشركين، والبراءة تعني انقطاع كلّ صلةٍ بهم مهما صغرت،
ولهذا الانقطاع تداعياته ومفاعيله العملية الهائلة التأثير على الصعيدين السياسي
والاجتماعي في حياة المسلمين.
الآثار المعنوية للحج
يترتّب على أداء الحج بشروطه وآدابه آثار وثمار معنوية عظيمة للإنسان، وأهم هذه
الآثار:
1. توحيد الله ومعرفته: فإنّ الحجّ يجسّم لنا التوحيد، ونفي الشرك بكلّ مظاهره
ومعالمه. قال الإمام الصادق عليه السلام: "وزر البيت متحقّقاً لتعظيم صاحبه ومعرفة
جلاله وسلطانه"12.
2. التقرّب إلى الله سبحانه: فمن يقصد مكّة حاجّاً إنّما يحجّ إلى ربّه ويقصد الله
في عرشه كما ورد في دعاء الإمام الصادق عليه السلام عند خروجه للحج أو العمرة: "...اللهمّ
إنّي عبدك وهذا حُمْلَانُكَ والوجه وجهك والسّفر إليك..ولَقّني من القول والعمل
رضاك فإنّما أنا عبدك وبك ولك"13.
3. ضيافة الله سبحانه: فإن الخلق كلّهم في ضيافة الله بالمعنى الأعم. ولكن الحج
ضيافة الله بالمعنى الخاص ومأدبته، قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ ضيف الله
عزّ وجلّ رجل حج واعتمر، فهو ضيف الله حتّى يرجع إلى منزله"14.
4. التحقّق بالعبودية لله تعالى: إن الهدف من الخلق وسرّ الخلافة في الأرض وفلسفة
الحياة هو العبادة والمعرفة، وهذا ما يتجلّى في الحجّ بصورة أبهى وأجلّ، لكون الحجّ
تسليماً لله، يحرم فيه الحاج ويؤدّي جميع المناسك استجابة لأوامر الله تعالى. فالحج
إذاً يرسّخ في العبد عبوديته لله سبحانه وتعالى. ففي حديث طويل عن الإمام الرضا
عليه السلام قال: "إنّما أُمِروا بالحجّ لِعِلَّةِ الوِفادة إلَى الله عزّ وجل..."15.
5. تجذّر الجانب المعنوي في النفس: فإن للزمان والمكان والمناسك المقدّسة آثاراً
معنويّة وروحيّة تنعكس على الروح الإنسانيّة، فإنّها ممّا توجب طهارة وسلامة الباطن.
قال أمير المؤمنين عليعليه السلام: "...والحجّ تقوية للدين..."16. وفي الحديث عن
الإمام الرضا عليه السلام قال: "إنّما أُمِروا بالحجّ لِعِلَّةِ الوِفادة إلَى الله
عزّ وجل إلى أن قال وَحَظْرِ النّفس عن اللّذّات..."17. فالحج شفاء من كلّ سقم
وداء روحي ونفساني ومن الأمراض القلبيّة.
الآداب المعنوية للحجّ
فريضة الحج كسائر الفرائض لها ظاهرٌ ولها باطنٌ وما لم يؤدّي المكلّف الظاهر بشكلٍ
صحيحٍ فما له في الباطن من نصيب. فينبغي أن يطبّق المكلّف أحكام الحج الظاهرية بكلّ
دقّة ليتمكّن من تحقيق آدابه المعنوية ويحصّل آثار الحج العظيمة.
وفي رواية طويلة معروفة برواية الشبلي18 نتعلّم من الإمام السجاد عليه السلام
الآداب المعنوية للحج، وقد اخترنا أبرز أعمال الحج ولمن أراد الاستزادة مراجعة
الرواية الكاملة:
1. أدب الميقات وارتداء ثوب الإحرام والغسل:
قال الإمام السجاد عليه السلام لأحد أصحابه الشبلي: "حججت يا شبلي؟" قال: نعم، يا
ابن رسول الله. فقال عليه السلام: "أَنَزلْتَ الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب
واغتسلت؟" قال: نعم. قال عليه السلام: "فحين نزلت الميقات نويت أنّك خلعت ثوب
المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟" قال: لا. قال عليه السلام: "فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك
نويت أنّك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات ؟" قال: لا.
قال عليه السلام: "فحين اغتسلت نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب ؟" قال: لا.
قال عليه السلام: "فما نزلت الميقات، ولا تجرّدت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت!".
إذاً، فإن على الحاج أن ينوي الخروج من الذنوب والمعاصي، والتوبة إلى الله تعالى
عند وروده إلى الميقات19 حيث أولى محطات السفر إلى الله، فيغتسل بماء التوبة النصوح،
إذ يرمز غسل الإحرام إلى أن الإنسان يغسل نفسه من الذنوب والقبائح بتوبة خالصة،
ويرجع إلى ربّه بنية صادقة، وجوارح وجوانح طاهرة، فإن الطهارة الظاهريّة مقدّمة
للطهارة الباطنيّة. وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في هذا المورد: "اغْسِلْ
بماء التّوبةِ الخالصةِ ذُنوبَك"20.
2. أدب الإحرام وعقد نية الحج:
وبالعودة إلى الرواية الطويلة عن الحج وآدابه المعروفة برواية الشبلي قال الإمام
السجاد عليه السلام: "تنظّفت وأحرمت وعقدت بالحج؟". قال: نعم. قال عليه السلام: "فحين
تنظّفت وأحرمت وعقدت الحجّ، نويت أنّك تنظّفت بنور التوبة الخالصة لله تعالى؟" قال:
لا. قال عليه السلام: "فحين أحرمت نويت أنّك حرّمت على نفسك كلّ محرّم حرّمه الله
عزّ وجلّ؟" قال: لا. قال عليه السلام: "فحين عقدت الحجّ نويت أنّك قد حللت كلّ عقد
لغير الله؟" قال: لا. قال عليه السلام له: "ما تنظّفت ولا أحرمت ولا عقدت الحج".
فأدب الحاج عند الإحرام أن يؤكد التزامه بالتوبة إلى الله تعالى وأن يتعهّد بترك
جميع المحرّمات التي حرمها تعالى التزاماً بشرعه الأنور. وأدبه عند عقد نية الحج أن
يخرج من كل عقد أو ولاية إلا ولاية الله تعالى والبراءة من كل شرك. وفي هذا المورد
يقول الإمام الصادق عليه السلام: "وأحْرِم من كُلِّ شيءٍ يَمْنَعُك عن ذِكر الله
تعالى ويَحْجُبُك عن طاعتِه"21.
3. أدب دخول الميقات والتلبية:
قال الإمام السجاد عليه السلام للشبلي: "أدخلت الميقات وصلّيت ركعتي الإحرام ولبّيت؟" قال: نعم. قال عليه السلام: "فحين دخلت الميقات نويت أنّك بنيّة الزيارة؟" قال:
لا. قال عليه السلام: "...فحين لبّيت نويت أنك نطقت لله سبحانه بكلّ طاعة، وصمتّ عن
كلّ معصية؟" قال: لا. قال عليه السلام له: "ما دخلت الميقات...ولا لبّيت!". فالحج
هو سفر إلى الله، وقصد بيت الله هو بغرض زيارته، وليس للحاج هدف آخر وعليه منذ دخول
الميقات والإحرام أن يستحضر هذا الهدف ولا يغفل عنه البتة. وحين يهتف الحاج
بالتلبية "لبيك اللهم لبيك" عليه أن يعلن خضوعه وإذعانه لله تعالى وحده في كل شؤونه،
وفي هذا المورد يقول الإمام الصادق عليه السلام: "ولَبِّ بمَعنى إجابةٍ صافيةٍ
خَالصةٍ زاكيةٍ للهِ عزّ وجلّ في دَعوتك مُتَمَسِّكاً بالعُروة الوثقى"22.
4. أدب الطواف والسعي:
مما قاله أيضاً الإمام السجاد عليه السلام للشبلي: "طفت بالبيت ومسست الأركان وسعيت؟" قال: نعم. قال عليه السلام: "فحين سعيت نويت أنّك هربت إلى الله، وعرف منك ذلك
علاّم الغيوب؟" قال: لا. قال عليه السلام: "فما طفت بالبيت ولا مسست الأركان ولا
سعيت!". قال عليه السلام له: "أسعيت بين الصفا والمروة، ومشيت وتردّدت بينهما؟" قال:
نعم. قال عليه السلام له: "نويت أنّك بين الرجاء والخوف؟" قال: لا. قال عليه السلام:
"فما سعيت ولا مشيت، ولا تردّدت بين الصفا والمروة!".
فالحاج عندما يطوف حول الكعبة المشرّفة سبعة أشواط في حركة دؤوبة فكأنما يهرب من
نفسه ويلوذ بصاحب البيت، فأدب الطواف أن يعقد العزم على الخروج من بيت نفسه والهروب
منها وإعلام صاحب البيت بنيته، عسى أن يخلصه برحمته من هوى النفس، فإن: "أعدى
أعدائك نفسك التي بين جنبيك". كما عليه أن يتمثّل بملائكة الله في تعظيم رب العرش
العظيم: يقول الإمام الصادق عليه السلام: "وطُفْ بقلبِك مع الملائكة حولَ العرش
كطَوافك مع المسلمين بنَفسك حولَ البيت. ودُرْ حولَ البيتِ مُتَحقِّقاً لتعظيمِ
صاحبِه ومعرفةِ جلالِه وسُلطانِه"23.
وأما أدب السعي بين الصفا والمروة فهو أن لا يخرج الحاج عن أمرين: رجاء رحمة الله
وخوف عدله ونقمته. فإن قلب المؤمن لا يزال يتردد بين الخوف والرجاء، فهو لا يأمن
عقوبته وفي الوقت عينه لا ييأس من رحمته. وقد ورد في الحديث: إنّ الشيطان أراد أن
يهجم على نبي الله إبراهيم فهرول منه فارّاً كي لا يلتقي به، فكانت الهرولة سنّة
للطائفين ليفرّوا من الشياطين من الجنّ والإنس، ويحذرونهم في إغوائهم وتسويلاتهم
وخُططهم. وفي هذا المورد يقول إمامنا الصادق عليه السلام: "وهرول هرولة فرا من هواك
وتبرأً من جميع حولك وقوتك"24.
5. آداب الوقوف بعرفة:
وقال الإمام السجاد عليه السلام للشبلي: "هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة الله سبحانه
أمر المعارف والعلوم، وعرفت قبض الله على صحيفتك واطّلاعه على سريرتك وقلبك؟" قال:
لا. قال عليه السلام: "فما وقفت بعرفة...".
ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "الحج عرفة"25، كما نجد إشارات متعددة في
الروايات لبيان أهمية الموقف في عرفة، وتُشير إلى أنّ عرفة سُمِّيت بهذا الاسم، لأنّ
آدم عليه السلام اعترف فيها بذنبه. فأدب عرفة أن يعلم أن الله هو العليم المطّلع
على السرّ وأخفى، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات أو الأرض، وهو مطّلع على
ظاهر الحاج وسريرته، فأين المهرب من علّام الغيوب؟! وقد قيل: إنّ من أعظم الذّنوب
أن يحضر عرفات ويظنّ أنّ اللَّه لم يغفر له، ولذا يقول إمامنا الصادق عليه السلام:
"واعتَرِفْ بالخطايا بعَرَفات وجَدِّدْ عهدَك عندَ الله تعالى بوحدانيَّتِه"26.
6. آداب منى ورمي الجمار وحلق الرأس ونحر الهدي:
وممّا قاله عليه السلام للشبلي أيضاً: "فنويت عندما وصلت منى ورميت الجمار أنّك
بلغت إلى مطلبك، وقد قضى ربّك لك كلّ حاجتك؟" قال: لا. قال عليه السلام: "فعندما
رميت الجمار نويت أنّك رميت عدوّك إبليس وغضبته بتمام حجّك النفيس؟ قال: لا.
قالعليه السلام: "فعندما حلقت رأسك نويت أنّك تطهّرت من الأدناس ومن تبعة بني آدم،
وخرجت من الذنوب كما ولدتك اُمّك؟" قال: لا. قال عليه السلام: "فعندما ذبحت هديك
نويت أنّك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسّكت به من حقيقة الورع، وأنك اتّبعت سنّة
إبراهيم عليه السلام بذبح ولده وثمرة فؤاده وريحان قلبه، وأحييت سنّته لمن بعده،
وقرّبه إلى الله تعالى لمن خلقه؟" قال: لا. قال له الإمام زين العابدين عليه السلام:
"فما وصلت منى، ولا رميت الجمار، ولا حلقت رأسك، ولا أدّيت نسكك،...ولا تقرّبت،
ارجع فإنّك لم تحجّ!". فطفق الشبلي يبكي على ما فرّطه في حجّه، وما زال يتعلّم حتّى
حجّ من قابل بمعرفة ويقين.
وأدب المكوث بمنى أن يثق الحاج بأن الله تعالى قد أجابه في دعائه وأعطاه مناه، فليس
من عادة الكريم أن يعد بالإجابة ثم يخلف وعده، ومما وُعد به هو غفران ذنوب الحاج في
عرفات، فعلى الحاج أن يستحضر كرم الله وإجابته ولطفه وأن لا يغفل عن حضوره تعالى في
كل شؤونه، وعليه أن يلتزم بآداب الدعاء طالما أنه يثق بأن الله مجيبه فلا يطلب إلا
ما يحلّ له، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "واخْرُجْ مِنْ غَفْلتِك وزَلّاتِكَ
بخُروجِك إلى مِنى. ولا تَتَمَنّ ما لا يَحِلُّ لكَ ولا تَسْتَحِقُّه"27. وبرمي
الجمرات ينوي الحاج أنه يرمي عدوّه إبليس ومواريث إبليس من حب النفس والأنانية
والعجب والكبر، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "وارمِ الشّهواتِ والخَساسةَ
والدّناءةَ والذّميمةَ عندَ رَمْي الجَمَراتِ"28.
أما أدب ذبح الهدي فهو ذبح النفس الأمّارة وترك الهوى والطمع واتّباع سنّة نبي الله
ابراهيمعليه السلام، وأدب حلق الشعر هو عزم نيّة التخلّص من كل دنسٍ وعيبٍ ظاهر أو
باطن، وفي هذا المورد يقول الإمام الصادق عليه السلام: "واذبح حنجرَة الهوى والطّمع
عنك عند الذّبيحة"29. وفي حلق الشعر قال عليه السلام: "واحلق العيوب الظّاهرَة
والباطنة بحلق شعرك"30.
* روح العبادة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1 محمود عبد الرحمن عبد المنعم، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، ج1، ص550.
2 سورة الحج، الآية 27.
3 سورة آل عمران، الآيتان 96-97.
4 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص12.
5 م.ن، ص11.
6 سورة الحج، الآية 27.
7 سورة البقرة، الآية 125.
8 سورة التوبة، الآية 3.
9 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج8، ص19.
10 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج46، ص261.
11 أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، مركز نون
للتأليف والترجمة، ص 22.
12 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 96، ص 125.
13 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص383.
14 م. ن، ج14، ص586.
15 م.ن، ج11، ص12.
16 العلّامة المجلسي، بحار الأنوار، ج6، ص110.
17 الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج11، ص12.
18 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج10، ص 166.
19 تعريف الميقات: وهي الأمكنة التي يُحرم منها الحجّ، ولكل بلد ميقاته، مثلاً: أهل
مصر والشام، ميقاتهم الجحفة، أهل العراق ميقاتهم وادي العقيق.
20 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج10، ص 172.
21 م. ن.
22 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج10، ص 172.
23 م. ن.
24 منسوب للإمام الصادق عليه السلام، مصباح الشريعة، باب الحج، ص 47.
25 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج10، ص 34.
26 م.ن، ج10، ص 172.
27 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج10، ص 172.
28 م. ن.
29 م. ن.
30 م. ن.
31 الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج10، ص 172.