تقسيم السور إلى آيات وترتيبها بأمر النبي
مفاهيم قرآنية
في من قسم السور إلى آيات وجعلها آية آية؟ وهو مع أنه لا ريب في كونه من الله لكن ربما يقع الاشتباه في ذلك وفي كل أمر ضروري. في من رتب الآيات على هذا النحو الذي لدينا الآن وجعل هذه تلو تلك؟ في ترتيب السور، ومن الذي جعل هذه قبل وتلك بعد؟
عدد الزوار: 149
إن ما نريد البحث حوله هنا هو الأمور التالية
1- في من قسم السور إلى آيات وجعلها آية آية؟ وهو مع أنه لا ريب في كونه من الله لكن ربما يقع الاشتباه في ذلك وفي كل أمر ضروري.
2- في من رتب الآيات على هذا النحو الذي لدينا الآن وجعل هذه تلو تلك؟
3- في ترتيب السور، ومن الذي جعل هذه قبل وتلك بعد؟ وأما حول :
تقسيم السور إلى آيات
فلابد من ذكر مقدمة ترتبط بالمقام، فنقول: إنه لا إشكال في أن كلمة " آية " تطلق الآن ويراد بها هذه الآيات التي نعرفها في القرآن، وهي المقصودة في قولهم في أول كل سورة: هي كذا وكذا آية كقولهم مثلا: سورة البقرة مدنية وهي "286" آية.
وكذا لا إشكال أيضاً في أن الأئمة عليهم السلام قد استعملوا كلمة " آية " وأرادوا بها هذا المعنى، وقد روي عنهم عليهم السلام الكثير من الروايات.
فلاحظ: أبواب قراءة القرآن من كتاب الوسائل للحر العاملي رحمه الله، ونذكر كمثال على ذلك الرواية التالية: محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: القرآن عهد الله إلى خلقه، فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وأن يقرأ منه في كل يوم خمسين آية 1.
ولا يخفى أن المراد من قوله عليه السلام " خمسين آية " هو هذه الآيات الموجودة بين أيدينا الآن في المصاحف، على هذا النحو الخاص.
وأما إطلاق الآية في زمان النبي وفي كلماته هو صلى الله عليه وآله فالظاهر أنها أيضا كذلك لا تختلف عما ورد في كلمات الأئمة عليهم السلاموعما نعرفه في عصرنا الحاضر.
وإذا ثبت ذلك أمكن أن يقال: إن القرآن أيضا استعمل كلمة " آية " وأراد بها هذه القطعات الموجودة بين أيدينا ولها مبدأ ومنتهى، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾2 وقوله: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾3.
ومما يشهد على أنه كانت الآية في زمن الرسول صلى الله عليه وآله تستعمل في نفس المعنى الذي نستعملها نحن فيه اليوم هو:
1- عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من قرأ مائة آية لم يكتب من الغافلين"4.
2- عن يونس عمن رفعه قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ قال: سورة الحمد، وهي سبع آيات، منها " بسم الله الرحمن الرحيم "5.
3- عن عمرو بن جميع رفعه إلى علي بن الحسين عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه، ولا يقربه الشيطان، ولا ينسى القرآن"6.
ولا يخفى أن الظاهر من كلامه هو إرادته من كلمة " آية " نفس ما يراد منها في عصرنا الحاضر، وهي القطعة المخصوصة من الكلام، لها مبدأ ومقطع.
إذا تمهد هذا قلنا في الإجابة عن الأسئلة الثلاثة: إن فيها ثلاثة بحوث
البحث الأول
في تقسيم السور إلى آيات
أعني تقسيم السور إلى آيات، وتقديرها في مقدار معين من الكلمات.
إن الظاهر أن ذلك حصل من الله جل وعلا، فنزل آيات كتابه على هذا النحو الخاص الموجود على الرسول صلى الله عليه وآله بواسطة جبرئيل، وليس لغير الله أي حظ في ذلك، ويدل على ذلك أمور:
الأول: ما دل على أن القرآن معجز للخلق يدل على أن أسلوب القرآن - ومنه التجزئة إلى الآيات - معجز أيضاً، فلا يمكن إيكاله إلى الناس، ليستقلوا به، وتلعب أيديهم فيه، مع ما هو من اختلافهم في الفهم والذوق.
أضف إلى ذلك: أنه لو كان اذن لهم لحصل الاختلاف قطعاً، ولو حصل الاختلاف لبان. ونحن لا نرى اختلافا بينهم - إلا ما شذ مما كان منشأه تلقي الآيات من النبي صلى الله عليه وآله، وسيأتي.
وهذا الاتفاق والتسالم من الناس كافة يعتبر أقوى شاهد على أن التجزئة أمر توقيفي إلهي، يجب إطاعته على الناس. ولو كانت الآيات تتكون نتيجة اجتهاد المجتهد لرأينا أن المجتهد الآخر الذي يرى نفسه أعلم وأفهم يعارض ذلك ويناقضه، ولا يتصور في حقه قبوله. فالرضا منهم جميعا دليل على أن ذلك حصل ممن تجب طاعته، وهو واضح.
الثاني: ما ورد من الأحاديث المروية في كتب الإمامية وغيرهم، الدالة على أن الآيات بهذه الصورة كانت موجودة في عصر النبي صلى الله عليه وآله وأنه كان يذكر الآيات ويعين مقدار الثواب لقارئها.
منها:
1- ما عن الشيخ الثقة ماجيلويه بسند ذكره عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه...الخ 7.
2- ما رواه الصدوق رحمه الله بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: " بسم الله الرحمن الرحيم " آية من فاتحة الكتاب، وهي سبع آيات، تمامها ببسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن الله عز وجل قال لي: يا محمد ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾8فأفرد الامتنان علي بفاتحة الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم...الخ9.
3- ما عن سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وآله - إلى أن قال الراوي: - فلما أراد أن يخرج قلت له: ألم تقل: لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن، قال: الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته10.
4- ما رواه الصدوق رحمه الله من أنه قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: أخبرنا عن " بسم الله الرحمن الرحيم " هل من فاتحة الكتاب؟ فقال: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يقرأها ويعدها آية منها، ويقول: فاتحة الكتاب هي السبع المثاني11.
فهذه الأخبار تدل على أن تجزئة سورة الحمد إلى آيات سبع كان من الله تعالى، حيث عبر عنها في كتابه المجيد بالسبع المثاني.
وهذه الرواية والتي قبلها وإن كانت واردة في مورد خاص إلا أنها يمكن أن تجعل دليلا على الكل بالاستعانة بالقول بعدم الفصل.
الثالث: إن عد جملة من كلام الله آية وعدم عد ما يشابهها آية دليل على أن ذلك أمر تعبدي لا اجتهادي، وإلا لاتحد المأخذ والأسلوب.
وعن الزمخشري: إن الآيات علم توقيفي، لا مجال للقياس فيه، ولذلك عدوا "ألم" آية حيث وقعت، و"المص "، ولم يعدوا "المر" و" الر"، وعدوا "حم" آية في سورة طه ويس، ولم يعدوا "طس"12.
ثم إن المصحف الأميري الذي تلقاه المسلمون بالقبول وعنه تطبع ملايين النسخ سنويا قد لوحظ فيه "طسم" و"ألم" و"يس" و "حم" وحيث وقعت، و "عسق" و"طه" و"المص" و"كهيعص" آية.
ولم يلاحظ فيه "طس" و "ص" و"ق" و"ن" و"الر" و"المر" آية.
وهذا يكشف أيضا عن أن لجنة مراجعة المصاحف بمشيخة الأزهر قد لاحظت أن هذا أمر تعبدي، لا يجوز المساس به ولا التصرف فيه.
الإختلاف في عدد آيات القرآن
وأما اختلافهم في عدد الآيات فهو كما في التبيان قليل جداً، حيث قال: وأما عدد آي القرآن فقد اتفق العادون على أنه ستة آلاف ومائتا آية وكسر، إلا أن هذا الكسر يختلف مبلغه باختلاف أعدادهم، ففي عدد المدني الأول: سبع عشرة، وبه قال نافع. وفي عدد المدني الأخير أربع عشرة، عند شيبة، وعشر عند أبي جعفر.
وفي عدد المكي: عشرون. وفي عدد الكوفي: ست وثلاثون، وهو مروي عن حمزة الزيات. وفي عدد البصري: خمس، وهو مروي عن عاصم الجحدري، وفي رواية عنه أربع، وبه قال أيوب بن المتوكل البصري، وفي رواية عن البصريين أنهم قالوا: تسع عشرة، وروي ذلك عن قتادة. وفي عدد الشامي ست وعشرون، وهو مروي عن يحيى بن الحارث الذماري13.
ولكن ربما نجد الاختلاف بشكل أوسع مما قاله في التبيان، فقد نقل عن ابن عباس قوله: جميع آي القرآن ستة آلاف آية وستمائة آية وستة عشر آية 14.
وعن الداني: أجمعوا على أن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية، ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك، فمنهم من لم يزد، ومنهم من قال: ومائتا آية وأربع آيات...الخ 15.
وأما سبب اختلافهم فهو كما نقله السيوطي عن البعض: أن النبي صلى الله عليه وآله كان يقف على رؤوس الآي للتوقيف، فإذا علم محلها وصل للتمام، فيحسب السامع حينئذ أنها ليست فاصلة16.
هذا كله بالنسبة إلى تجزئة السور إلى آيات الذي ثبت أنه من الله تعالى.
البحث الثاني
في ترتيب الآيات
وهو أيضا توقيفي ومن الله عز وجل، وتدل عليه الوجوه التالية:
الأول: ما استدللنا به في نظائر البحث من أن العقل والاعتبار لا يريان للاجتهاد في القرآن مجالا، الأمر الذي يؤثر في إعجازه الخالد، إذ لو جاز إعمال الرأي والقياس في ترتيب آياته لأمكن حدوث الخطأ أحيانا في الترتيب بحيث يقدم ما حقه التأخير وبالعكس، وهذا يوجب اختلالا في الأسلوب القرآني المعجز.
أضف إلى ذلك: أن ترتيب القرآن الموجود ليس له ملاك واحد، يكون أساسا مطردا في تقديم هذا وتأخير ذاك، وكمثال على ذلك تأمل في الآيتين من سورة الشمس ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا* وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾17 فترى ذكر النهار فيها مقدما على ذكر الليل، بخلاف الآيتين في سورة الليل: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾18فالليل فيها مقدم على النهار، الأمر الذي يقوي الظن بأن الترتيب لم يكن بالاجتهاد والاستحسان، وإلا لقدم أحدهما في جميع المواضع.
الثاني: الأحاديث الدالة على أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله قد ذكر بعض الآيات بأنها آخر أو أول سورة كذا، مما يكشف عن أن أول السورة وآخرها قد أحدث في عصره صلى الله عليه وآله.
وكذا الحال في الروايات التي ورد فيها ذكر أسامي بعض السور، وهي كثيرة وتدل على أن السورة قد تكونت في عصره صلى الله عليه وآله.
ونذكر منها على سبيل المثال
1- ما تقدم عن الشيخ الثقة ماجيلويه عن علي بن الحسين عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها وثلاث من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه...الخ.
2- ما عن البخاري في كتاب فضائل القرآن: من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة...الخ.
قال العسقلاني: ومن حديث النعمان بن بشير رفعه: أن الله كتب كتابا أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة.
وقال في آخره: " آمن الرسول..." وأصله عند الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم19.
3- ما عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: "من قرأ آخر سورة الحشر ثم مات من يومه أو ليلته كفر عنه كل خطيئة عملها"20.
4- ما عن ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن سعد الإسكاف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "أعطيت السور الطوال مكان التوراة، وأعطيت المئين مكان الإنجيل، وأعطيت المثاني مكان الزبور، وفضلت بالمفصل ثمان وستون سورة، وهو مهيمن على سائر الكتب"21.
5- ما رواه العلامة المجلسي في فضائل سور القرآن وآياته، وهي روايات عديدة ذكر فيها أسماء سور على لسان النبي صلى الله عليه وآله، الأمر الذي يدل على أنها قد الفت في عصره صلى الله عليه وآله على النحو الموجود، وحيث لا يسع المجال ذكر الروايات بنصوصها فنحن نكتفي بذكر أسماء السور التي ورد لها ذكر على لسانه صلى الله عليه وآله22.
وهي: حم الدخان، والحواميم، واقتربت الساعة، والحشر، والجمعة، والمسبحات23، والمنافقون، وتبارك، والبروج، والطارق، والأعلى، وجميع السور التي نزلت دفعة، فإن الترتيب موجود فيها، وقد أسلفنا الكلام عليها في مقال7 سبق24.
هذا، ولا يخفى أننا لا نريد أن نأتي بشاهد ودليل من الأخبار على وضع وترتيب كل آية آية، بل كل ما ذكرناه إنما هو على سبيل الموجبة الجزئية لتوجيه الأذهان إلى أن بعض السور كانت قد استكملت تكونها في عصر النبي صلى الله عليه وآله وحصل لها طبعا ترتيب في آياتها، حتى سورة البقرة، فإذا كانت سورة البقرة الطويلة قد رتبت وجعل وعين لها أول وآخر فكيف بغيرها؟
الثالث: ما دل على أن وضع الآيات في أماكنها كان يحصل بأمره صلى الله عليه وآله وأنه كان يقول لكتابه: ضعوا هذه الآيات في مكان كذا وتلك في مكان كذا، ونذكر منها:
1- ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا: بينهما سطر: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وآله تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا نزل عليه الشئ دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا.
وكانت الأنفال من أوائل ما انزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يبين لنا أنها منها، فمن أحل ذلك قرنت بينهما...الخ 25.
2- ما عن أحمد عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله إذ شخص ببصره ثم صوبه، ثم قال: أتاني جبرئيل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى...﴾26
الرابع: ما دل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يقرأ سورة كذا وكذا مما يدل على أن هذه السورة كانت موجودة في عصره صلى الله عليه وآله.
منها: ما رواه الفقيه الهمداني بسند قد وثقه عن عيسى بن عبد الله القمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يصلي بالغداة بعم يتساءلون وهل آتاك حديث الغاشية ولا أقسم بيوم القيامة...الخ 27.
ومنها: ما رواه السيوطي عن حذيفة: أنه صلى الله عليه وآله قرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء.
وعن صحيح البخاري: أنه قرأ الأعراف 28.
فهذه الروايات المذكورة وغيرها مما لم تذكر تدل في الجملة على أن السور كانت موجودة ولها أسماء، كما هي الآن.
هذا كله بالإضافة إلى الإجماعات المنقولة على أن ترتيب الآيات توقيفي29.
البحث الثالث
في ترتيب السور
وفيه ثلاثة أقوال:
الأول: أنها رتبت في عصر النبي صلى الله عليه وآله.
الثاني: أنها رتبت بالاجتهاد بعده.
الثالث: أن كثيرا من السور قد علم ترتيبها في حياته كالسبع الطوال والحواميم والمفصل، وما سوى ذلك يمكن أن يكون قد فوض الأمر فيه إلى الأمة كما نقل عن ابن عطية30.
والذي نختاره هو القول الأول، وقد نسبه في الإتقان إلى جماعة منهم: القاضي في أحد قوليه، وأبو بكر الأنباري، والكرماني في البرهان، والطيبي. وقال في الإتقان: قال الزركشي في البرهان: فالخلاف بين الفريقين لفظي، لأن القائل بالثاني (أي بالاجتهاد بعده صلى الله عليه وآله) يقول: إنه رمز إليهم ذلك.
وأما دليلنا على ذلك هو ما أشرنا إليه غير مرة في نظائر المقام من أن العقل والاعتبار يدلان على أنه لا يجوز التسامح في أمر القرآن المعجز الخالد، حتى في ترتيب سوره، بأن يوكل الرسول صلى الله عليه وآله أمر ترتيبه إلى غيره من الصحابة، فيؤلفونه حسب أهوائهم واجتهاداتهم، وهل هذا إلا إلقاء للأمة التي يختلف أفرادها اختلافا شديدا في الفهم والذوق إلى مزالق الخلاف والتشتت.
وعن ابن الأنباري31 أن اتساق السور كاتساق الآيات والحروف، كله من النبي صلى الله عليه وآله، فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن.
وتشهد لما ذكرناه عدة أحاديث ذكرها في الإتقان، وهي
1- ما عن ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال قال: قد سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما أنزلتا بالمدينة؟ فقال: قدمتا وا لف القرآن على علم ممن ألفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مما ينتهى إليه ولا يسأل عنه32.
2- ما رواه الحاكم عن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله نؤلف القرآن من الرقاع.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه 33.
فالمستفاد من هذا الحديث هو أن القرآن كان متفرقا في الرقاع، وأن زيدا ومن معه كانوا يجمعون القرآن في مصحف واحد، وهو عند رسول الله صلى الله عليه وآله، وواضح أن التأليف يستلزم الترتيب، فإذا كان الترتيب عند الرسول صلى الله عليه وآله فالترتيب عنه أيضا وبأمره.
ويدل على ذلك اتفاق الأمة، وقبول الصحابة ومن بعدهم لهذا الترتيب الموجود، حتى فيما قبل عثمان، لأن عثمان لم يفعل في القرآن إلا أنه أمر بكتابته على قراءة واحدة، وحمل الناس عليها، ثم أحرق سائر المصاحف، أما الترتيب فإنما حصل بأمر النبي صلى الله عليه وآله.
مناقشتان وجوابهما
ثم إنه ربما يورد على ما قلناه سؤال وهو: أنه إذا كان الترتيب قد حصل بأمر النبي صلى الله عليه وآله فلم اختلف الأصحاب في ترتيب مصاحفهم حتى أن أبي بن كعب وابن مسعود قد رتبا مصحفيهما على خلاف ترتيب المصحف الذي بأيدينا اليوم؟ وربما يورد سؤال آخر أيضا هنا وهو: ماذا نصنع بالرواية المتقدمة الدالة على أن عثمان هو الذي رتب سور المصحف؟
والرواية هي: ما سبق عن أحمد في مسنده: من أن ابن عباس قال لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا (أي بسم الله الرحمن الرحيم) - إلى أن قال عثمان: - كانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولاً، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يبين لنا أنها منها، فمن أحل ذلك قرنت بينهما...الخ34.
أما الجواب عن السؤال الأول: فبما قيل من أن اختلاف الجامعين في ترتيب سور القرآن لعله كان قبل وقوفهم على أنه أمر توقيفي، ولابد وأن يؤخذ من النبي صلى الله عليه وآله، وقبل أمر النبي صلى الله عليه وآله بتأليف القرآن من الرقاع، فهم رتبوا ما سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله لأنفسهم بحسب آرائهم، وأما بعد تأليف القرآن من الرقاع بأمر الرسول صلى الله عليه وآله ومعرفتهم بترتيبه له لجميع المسلمين على هذا النحو فالواجب عليهم متابعته في ذلك أيضاً.
وأما عن السؤال الثاني: فبما قيل أيضا من أن الحديث ضعيف، لأن في السند يزيد الفارسي الذي عده البخاري في الضعفاء، وعن الشيخ أحمد شاكر في تعليقه له على هذا الحديث أنه حديث لا أصل له35.
ويزيد الرواية ضعفا ما ورد عن أبي هلال حدثنا مالك بن دينار عن يزيد الفارسي كاتب عبيد الله بن زياد...فالرجل إذا لا يبالي أن يكون من أعوان حتى قتلة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.
هذا في سند الحديث، وأما في دلالته على ما نحن بصدده فهي أيضا محل إشكال، حيث إنه خاص في ترتيب سورتي الأنفال وبراءة، فمن تم عنده سند الحديث فعليه أن يقول: إن ترتيب هاتين السورتين فقط قد حصل بيد عثمان، كما فعل السيوطي في الإتقان حيث قال: والذي ينشرح له الصدر ما ذهب إليه البيهقي، وهو أن جميع السور ترتيبها توقيفي، إلا براءة والأنفال36.
أما نحن فنقول: سند الحديث ضعيف، وعثمان لم يفعل شيئا في القرآن، سوى كتابته على قراءة واحدة، ولم يتصرف في ترتيبه، فيكون ترتيب جميع سور القرآن توقيفياً ومأخوذاً من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، كما أن ترتيب آياته أيضا كذلك، وكذلك تقسيم السورة إلى آيات ذات بداية ونهاية، فإن كل ذلك قد حدث في عصر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ولم تنله يد الرأي والاستحسان والاجتهاد، والحمد لله رب العالمين.
*بحوث في تاريخ القرآن وعلومه، آية الله السيد أبو الفضل مير محمدي الزرندي، مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة، ط1، ص92-104.
1- هود: 1.
2- آل عمران: 7.
3- بحار الأنوار: ج 92 ص 199 نقله عن معاني الأخبار، والآية 87 من سورة الحجر.
4- بحار الأنوار: ج 92 ص 235 نقله عن تفسير العياشي.
5- المصدر السابق: ص 265 نقله عن ثواب الأعمال للصدوق.
6- بحار الأنوار: ج 92 ص 265 نقله عن ثواب الأعمال.
7- الحجر: 87.
8- بحار الأنوار: ج 92 ص 227 نقله عن أمالي الصدوق وعيون أخبار الرضا عليه السلام.
9- صحيح البخاري: ج 6 ص 20.
10- بحار الأنوار: ج 92 ص 227 نقله عن عيون أخبار الرضا عليه السلام.
11- الإتقان: ج 1 ص 68.
12- نقله عنه الزرقاني في مناهل العرفان: ج 1 ص 336.
13- الإتقان: ج 1 ص 69.
14- الإتقان: ج 1 ص 69.
15- الإتقان: ج 1 ص 69.
16- الشمس: 3 و 4.
17- الليل: 1 و 2.
18- راجع فتح الباري: ج 9 ص 50 هامش وص 51 شرح.
19- بحار الأنوار: ج 92 ص 309 نقله عن الدر المنثور.
20- الكافي: ج 2 ص 601 ح 10 كتاب فضل القرآن.
21- راجع بحار الأنوار: ج 92 ص 224 - 321.
22- المسبحات: على الظاهر هي السور التي أولها التسبيح، كالإسراء والحديد والحشر والجمعة والتغابن والأعلى.
23- راجع بحث " هل نزل القرآن سورا كاملة؟ " من هذا الكتاب.
24- الإتقان: ج 1 ص 62.
25- الإتقان: ج 1 ص 62 وذكر أن سنده حسن، والآية 90 من سورة النحل.
26- مصباح الفقيه: كتاب الصلاة ص 307.
27- الإتقان: ج 1 ص 62.
28- الإتقان: ج 1 ص 62 و 63، مناهل العرفان: ج 1 ص 339، مباحث في علوم القرآن لمناع القطان: ص 70.
29- الإتقان: ج 1 ص 65.
30- ابن الأنباري: لغوي نحوي علامة وقته في الأدب، وأكثر الناس حفظا لها، يحكى أنه كان يحفظ مائة وعشرين تفسيراً بأسانيدها، توفي سنة 328 ه. (راجع الكنى والألقاب للمحدث القمي).
31- الإتقان: ج 1 ص 65.
32- المستدرك على الصحيحين: ج 2 ص 611.
33- الإتقان: ج 1 ص 62، مسند أحمد: ج 1 ص 57 مسند عثمان.
34- مباحث في علوم القرآن لمناع القطان: ص 144.
35- الإتقان: ج 1 ص 65.
36- الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ج 1 ص 69.