كلمة
الإمام الخامنئي بمناسبة عيد الغدير السعيد 17/12/2008
قضية الغدير: مسألة الحكومة في الإسلام من صميم الدين
أبعاد قضية
"الغدير"
أ ــ مسألة الحكومة في الإسلام من صميم الدين
النقطة الأولى، هي حادثة الغدير ذاتها. شهد العالم الإسلامي في زمن
الرسول الأكرم و كان قد أتسع نسبياً، أمراً على جانب كبير جداً من الأهمية، ألا و
هو إعلان خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. ليس الشيعة فقط هم من رووا حادثة
الغدير، فكثيراً ما روى محدثو أهل السنة و كبار أهل السنة أيضاً هذا الحدث، بيد أن
فهمهم للمسألة كان مختلفاً في بعض الأحيان. لكن أساس هذه الحادثة يعدّ من المسلمات
بين المسلمين. وقع هذا الحدث و هو تعيين خليفة للرسول في الأشهر الأخيرة من عمره أي
قبل نحو سبعين يوماً من وفاته. والحقيقة أن هذا الحدث يدل على أهمية قضية الحكومة و
السياسة و ولاية أمر الأمة الإسلامية من وجهة نظر الإسلام. حينما يشدد إمامنا
الجليل و الكثير من كبار الفقهاء قبله على قضية الوحدة بين الدين و السياسة و أهمية
قضية الحكم في الدين، فلهذا جذوره في تعاليم الإسلام و من ذلك درس الغدير الكبير.
هذا دليل على أهمية الموضوع. كل الذين يفهمون هذا المعنى من حادثة غدير خم - أي نحن
الشيعة و حتى كثير من غير الشيعة ممن شعروا أو فهموا هذا المعنى من حادثة الغدير -
عليهم التنبّه في جميع عصور التاريخ الإسلامي إلى أن مسألة الحكومة مسألة أساسية و
مهمة و في المرتبة الأولى في الإسلام. لا يمكن عدم الاكتراث لقضية الحكومة و
السيادة. ودور الحكومات في هداية الناس أو تضليلهم قضية تدل عليها التجربة البشرية.
كل هذا التأكيد على قضية إدارة البلد الإسلامي في نظام الجمهورية الإسلامية، سواء
في الدستور أو في سائر معارف الجمهورية الإسلامية، يعود إلى هذه الجذور العميقة و
العريقة جداً لهذه القضية في الإسلام. هذه نقطة يجب أن لا تغيب عن البال.
ب ــ أمير المؤمنين علي (ع) هو النموذج للحاكم الإسلامي
النقطة الأخرى إلى جانب هذه القضية هي أن رسول الإسلام عيّن علي بن أبي
طالب أمير المؤمنين (عليه الصلاة و السلام) في واقعة الغدير. فما هي الخصائص التي
عرف بها عليّ في تلك الفترة من حياته و في الفترات اللاحقة؟ هذه الخصائص هي المعيار
بالنسبة لنا؟ أولى خصائص الإمام أمير المؤمنين هي حبه و التزامه برضا الله و السير
على الصراط المستقيم مهما كانت الصعاب و مهما تطلب ذلك من جهد و جهاد. هذه هي أبرز
سمات الإمام أمير المؤمنين.
أمير المؤمنين إنسان لم يتراجع للحظة واحدة و في أية قضية حتى خطوة واحدة في سبيل
الله و من أجله منذ أوان طفولته و حتى لحظة استشهاده. و لم يعتره التردد و الشك، و
نذر كل كيانه في سبيل الله و قدمه إلى الميدان. بلّغ ودعا يوم كان عليه أن يبلغ و
يدعو، و يوم كان عليه أن يضرب بالسيف، ضرب بالسيف بين يدي الرسول و لم يهب الموت. و
صبر يوم كان عليه أن يصبر. و يوم كان عليه أن يمسك بزمام السياسة أمسك بزمام
السياسة وخاض غمار الساحة السياسية. و أبدى في كل هذه العهود و الفترات كل ما
تقتضيه التضحية. مثل هذا الشخص يضعه الرسول الأكرم على رأس المجتمع الإسلامي.. و
كان هذا درساً.. هذا درس للأمة الإسلامية، و ليس مجرد ذاكرة تاريخية و ذكرى تعود
للقرون الماضية. في هذا دلالة على أن المعايير و الملاكات لإدارة المجتمع الإسلامي
والمجتمعات الإسلامية والأمة الإسلامية هي هذه: العبودية لله، و الجهاد في سبيل رضا
الله، و تقديم الروح و المال فداءً لذلك، و عدم التهرب من أية مصاعب أو مشاكل، و
الإعراض عن الدنيا. هذه القمة هي أمير المؤمنين. المؤشر و المعيار هو أمير
المؤمنين. هذا هو درس الغدير الكبير.
لننظر للعالم الإسلامي و الحكومات الإسلامية، و على مستوى العالم والإدارات
السياسية في العالم و نرى كم هو البون بين ما عرضه الإسلام على الإنسانية و بين ما
هو قائم اليوم على أرض الواقع. الخسائر التي تتحملها الإنسانية يعود شطر كبير منها
إلى هذه المسألة. يرى الإسلام أن سعادة الإنسانية تستدعي إدارة من نوع إدارة أمير
المؤمنين، و أمير المؤمنين في هذا المجال تلميذ الرسول و تابعه. الإمام علي نفسه
حينما جرى الحديث عن زهده قال أين زهدي من زهد الرسول؟ الإمام أمير المؤمنين تلميذ
رسول الله المميّز الكبير في الجهاد، و في الصبر، و في كل هذه الأمور. مثل هذا
الشخص هو الجدير، وعلينا جميعاً اعتباره نموذجاً و قدوة، لا لبلادنا وحسب، بل
للعالم الإسلامي برمته.
مثل هذا الإنسان المتسامي الكبير غير الآبه للدنيا و لأموالها و بهارجها، والمستعد
للتضحية في سبيل الحق و الحقيقة هو القادر على إنقاذ المجتمعات البشرية الكبرى..
شخص لا يستسلم للنـزوات النفسانية و لا تجعله المصالح الشخصية التافهة ينهزم أمام
أحداث الحياة الكبرى.
حين نقول مراراً إن رسالة الإسلام و رسالة الجمهورية الإسلامية للعالم رسالة جديدة
فهذا هو معنى قولنا. و هذا نموذج بارز لها.
لاحظوا مستوى حياة البشرية في العالم راهناً.. رؤساء البلدان، و مدراء شؤون السياسة
بين الشعوب، أيهم على استعداد لغض الطرف عن مصالحه الشخصية حين تكون هذه المصالح
متاحةً لهم و بوسعهم تأمينها؟ أيهم على استعداد للتضحية بأرواحهم في سبيل مصلحة
شعوبهم و بلدانهم؟ أيهم على استعداد لسحق الاعتبارات و الملاحظات؟ الفقر الكبير
الذي تعاني منه البشرية اليوم هو في جانب منه؛ هذا الفقر لمثل هؤلاء الرجال الذي
عرض الإسلام على الإنسانية نموذجهم السامي. طبعاً من الواضح أن الوصول إلى تلك
القمة ليس في مقدور أبناء البشر العاديين. ليس بوسع أحد الحياة والسلوك مثل الإمام
أمير المؤمنين.. هذا طموح لا يتحقق. بيد أن القمة تكشف لنا عن الاتجاه. ينبغي السير
نحو تلك القمة و التشبه بها و الاقتراب منها. هذه هي النقيصة و الثغرة الكبرى التي
تعاني منها البشرية. إنها نقطة موجودة و متوفرة في حادثة الغدير. هذه أيضاً قضية
ينبغي التنبه لها؛ رسالة الغدير للعالم رسالة نموذج الحكومة الإسلامية.
إنسان شديد و قاطع للغاية مع العدو و مع الحالات الانتهازية في سبيل الله، لكنه
متواضع و ترابي و صبور مع المظلومين و الضعفاء إلى درجة لا يصدق معها أحد أنه أمير
المؤمنين. في بداية دخول أمير المؤمنين للكوفة حيث لم يكن الناس يعرفونه، كان
سلوكه، و ثيابه، و أسلوبه بحيث لا يعلم أحد حينما يمشي الإمام في الأزقة و الأسواق
أن أمير المؤمنين بكل تلك العظمة هو هذا الشخص الذي يمشي بنحو جد طبيعي و عادي.
متواضع صبور ترابي لهذه الدرجة مع الناس الضعفاء و العاديين، و حاسم صامد كالجبل
أمام الأعداء الغادرين العتاة.. هذه قدوة.