يتم التحميل...

العاقبة السيّئة للتخلّف عن جهاد النفس

تهذيب النفس

يجب على الإنسان الالتفات إلى نفسه كثيراً في هذه الجهاد. فمن الممكن - لا سمح الله - أن تُسفر هزيمة الجنود الرحمانية في مملكة الباطن وتركها خالية للغاصبين والمحتلّين

عدد الزوار: 235

النار والعذاب الأليم
يجب على الإنسان الالتفات إلى نفسه كثيراً في هذه الجهاد. فمن الممكن - لا سمح الله - أن تُسفر هزيمة الجنود الرحمانية في مملكة الباطن وتركها خالية للغاصبين والمحتلّين من جنود الشيطان، عن الهلاك الدائم للإنسان بالصورة التي يستحيل معها تلافي الخسارة، ولا تشمله شفاعة الشافعين، وينظر إليه أرحم الراحمين أيضاً بعين الغضب والسخط، نعوذ بالله من ذلك.

بل ويُصبح شفعاؤه خصماءه، وويلٌ لمن كان شفيعه خصمه.

ويعلم الله أيّ عذاب وظلمات وشدائد وتعاسات تلي الغضب الإلهيّ، وتعقب معاداة أولياء الله حيث تكون كلّ نيران جهنّم وكلّ الزقّوم والأفاعي والعقارب لا شيء أمام هزيمة جنود الرحمان من قبل جنود الشيطان، التي تترتّب عليها عقوبات تفوق جميع نيران جهنّم والزقّوم والأفاعي. والعياذ بالله من أن يُصبّ على رؤوسنا نحن الضعفاء والمساكين ذلك العذاب الذي يُخبر عنه الحكماء والعرفاء وأهل الرياضة والسلوك.

فإنّ جميع أشكال العذاب التي تتصوّرونها، يسيرة وسهلة في مقابله. وجميع النيران التي سمعتم بها، جنّة ورحمة في قباله، وبالنسبة إلى ذلك العذاب. إنّ وصف النار والجنّة الوارد في كتاب الله وأحاديث الأنبياء والأولياء، يتعلّق غالباً بنار الأعمال وجنّتها اللتين أُعدّتا للأعمال السيّئة والصالحة.

وهناك إشارة خفيّة أيضاً إلى جنّة الأخلاق ونارها، وأهمّيتها أكبر، وأحياناً يُشار إلى جنّة اللقاء ونار الفراق، وهذا أهمّ من الجميع، ولكنّها إشارات محجوبة عنّا ولها أهلها، وأنا وأنت لسنا من أهلها، ولكن من الأجدر بنا أن لا نكون منكرين لها. وليكن لدينا إيمان بكلّ ما قاله الله تعالى وأولياؤه. إذ أنّ في هذا الإيمان الإجمالي نفعاً لنا. ومن الممكن أن تكون للإنكار والرفض، الصادرين عن غير علم وفهم، أضرار كبيرة جداً علينا.

وهذه الدنيا ليست بعالم الالتفات لتلك الأضرار. فمثلاً: عند سماعك الحكيم الفلانيّ أو العارف الفلانيّ أو المرتاض الفلانيّ، يقول شيئاً لا يتلاءم وذوقك الخاص، فلا تحكم عليه فوراً بالبطلان والوهم، فقد يكون لذلك القول أصل في الكتاب والسنّة ولكن عقلك لم يطلّع عليه بعد. فما قالوه بشأن جنّة الأخلاق والملكات، وجهنّم الأخلاق والدركات مصيبة لا يطيق العقل حتّى سماعها.

جهنّم الأعمال السيّئة
إنّ جميع نيران جهنّم وعذاب القبر والقيامة وغيرها ممّا سمعت به، هي جهنّم أعمالك التي تراها هناك كما يقول الله تعالى: ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرً1.

لقد أكلت مال اليتيم وتلذّذت بذلك ولكنّ الله وحده يعلم ما هي صورة هذا العمل في ذلك العالم والتي ستراها في جهنّم، وما هي الذلّة التي ستكون من نصيبك هناك. الله يعلم أيّ عذاب شديد ينتظرك بسبب تعاملك السيّئ مع الناس وظلمك لهم في ذلك العالَم! ستفهم أيّ عذاب قد أعددت لنفسك بنفسك، عندما اغتبت!

فإنّ الصورة الملكوتية لهذا العمل قد أُعدّت لك وسترد عليك وتحشر معها، وستذوق عذابها، وهذه هي جهنّم الأعمال. وهي سهلة ويسيرة بالمقارنة مع جهنّم الأخلاق الفاسدة والعقائد الباطلة.

جهنّم الأخلاق الفاسدة
أمّا الذين زرعوا في نفوسهم الملكة الفاسدة والرذيلة السيّئة الباطلة، كالطمع والحرص والجدال والشرَه وحبّ المال والجاه والدنيا وباقي الملكات، فلهم جهنّم لا يُمكن تصوّرها، ولا يُمكن أن تخطر صورتها على قلبي وقلبك، فالنار تظهر من باطن النفس ذاتها، وأهل جهنّم أنفسهم يفرّون رعباً من عذاب أولئك.

وفي بعض الروايات الموثوقة أنّ هناك في جهنّم وادياً للمتكبّرين يُقال له "سقر" وقد شكا الوادي إلى الله تعالى من شدّة الحرارة وطلب منه سبحانه أن يأذن له بالتنفّس، وبعد أن أذن له تنفّس فأحرق سقر جهنّم2.

وأحياناً تُصبح هذه الملكات سبباً في أن يخلد الإنسان في جهنّم لأنّها تسلبه الإيمان، كالحسد الذي ورد في رواياتنا، فعن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب"3.

وكحبّ الدنيا والجاه والمال الذي ورد في الروايات الصحيحة أنّها أكثر إهلاكاً لدين المؤمن من ذئبين أُطلقا على قطيع بلا راع، فوقف أحدهما في أول القطيع والثاني في آخره...

فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها رُعاؤها أحدهما في أوّلها والآخر في آخرها بأفسد فيها من حبّ المال والشرف في دين المسلم"4.

جهنّم العقائد الباطلة
نسأل الله أن لا تؤول عاقبة المعاصي إلى الملكات والأخلاق الظلمانية القبيحة، والتي تؤول إلى فقدان الإيمان وموت الإنسان كافراً، لأنّ جهنّم الكافر وجهنّم العقائد الباطلة أشدّ بدرجات وأكثر إحراقاً وظلمة من ذينك الجهنّمين, جهنّم الأعمال وجهنّم الملكات الفاسدة.

أيّها العزيز.. لقد ثبت في العلوم العالية5 أنّ درجات الشدّة غير محدودة، فمهما تصوّرت ومهما تصورت العقول بأسرها شدّة العذاب، فوجود عذاب أشدّ أمر ممكن أيضاً، وأنت إذا لم ترَ برهان الحكماء، ولم تُصدّق كشف أهل الرياضات، ولكنّك بحمد الله مؤمن تُصدّق الأنبياء عليهم السلام، وتُقرّ بصحة الأخبار الواردة عنهم في الكتب المعتبرة التي يقبلها جميع علماء الإمامية، وتُقرّ بصحة الأدعية والمناجاة الواردة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام.

أنت الذي رأيت مناجاة مولى المتّقين أمير المؤمنين عليه السلام، ورأيت مناجاة سيد الساجدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي...

فتأمّل قليلاً في مضمونها، وفكّر قليلاً في محتواها، وتمعّن قليلاً في فقراتها، فليس ضرورياً أن تقرأ دعاء طويلاً دفعة واحدة وبسرعة دون تفكّر في معانيه.

أنا وأنت ليس لدينا حال سيّد الساجدين عليه السلام كي نقرأ تلك الأدعية المفصّلة بشوق وإقبال، اقرأ في الليلة ربع ذلك أو ثلثه وفكِّر في فقراته، لعلّك تُصبح صاحب شوق وإقبال وتوجّه.

وفوق ذلك كلّه فكّر قليلاً في القرآن، وانظر أيّ عذاب وعد به الحقّ تعالى، بحيث إنّ أهل جهنّم يطلبون من الملك الموكّل بجهنّم أن ينتزع منهم أرواحهم، ولكن هيهات فلا مجال للموت.

أنظر إلى قوله تعالى: ﴿...يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ6.

فأيّة حسرة هذه التي يذكرها الله تعالى بتلك العظمة وبهذا التعبير؟ تدبّر في هذه الآية القرآنية الشريفة ولا تمرّ عليها دون تأمّل.

وتدبّر أيضاً في آية: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ7.

حقّاً فكّر يا عزيزي! القرآن ليس بكتاب قصّة، ولا بممازح لأحد، انظر ما يقول.. أيّ عذاب هذا الذي يصفه الله تبارك وتعالى وهو العظيم الذي لا حدّ ولا حصر لعظمته ولا انتهاء لعزّته وسلطانه، فيقول بأنّه شديد وعظيم.. فماذا وكيف سيكون؟!

الله وحده هو العالِم, لأنّ عقلي وعقلك وعقول جميع البشر عاجزة عن تصوّره. ولو راجعت أخبار أهل بيت العصمة والطهارة وآثارهم، وتأمّلت فيها، لفهمت أنّ قضية عذاب ذلك العالَم، هي غير أنواع العذاب التي فكّرت فيها، وقياس عذاب ذلك العالَم بعذاب هذا العالَم، قياس باطل وخاطئ.

وهنا أنقل لك حديثاً شريفاً لكي تعرف ماهية الأمر وعظمة المصيبة مع أنّ هذا الحديث يتعلّق بجهنّم الأعمال، وهي أخفّ من جميع النيران, عن مولانا الإمام الصادق عليه السلام قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم قاعداً إذ أتاه جبرائيل وهو كئيب حزين متغيّر اللون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا جبرائيل ما لي أراك كئيباً حزيناً؟

فقال: يا محمد فكيف لا أكون كذلك وإنّما وضعت منافخُ جهنّم اليوم؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: وما منافخ جهنّم يا جبرائيل؟

فقال: إنّ الله تعالى أمر بالنار فأوقد عليها ألف عام حتّى احمرّت، ثمّ أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتّى ابيضّت، ثمّ أمر فأوقد عليها ألف عام حتّى اسودّت وهي سوداء مظلمة.

فلو أنّ حلقة من السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً وضعت على الدنيا، لذابت الدنيا من حرِّها، ولو أنّ قطرة من الزقّوم والضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لماتوا من نتنها.

قال: فبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبكى جبرائيل فبعث الله إليهما ملكاً، فقال: إنّ ربّكما يُقرئكما السلام ويقول: إنّي أمّنتكما من أن تُذنبا ذنباً أُعذِّبكما عليه"8.

* كتاب جهاد النفس في ضوء فكر الإمام الخميني، نشر دار المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة الكهف، آية: 49.
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 310.
3- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 306.
4- م.ن، ص 315.
5- لقد بيّن هذه الحقيقة صدر المتألّهين وغيره من الحكماء في كتبهم العلمية، الأسفار، ج 1، ص 45، 65، 69.
6- سورة الزمر، الآية 56.
7- سورة الحج، الآية 2.
8- الفيض الكاشاني، علم اليقين، المقصد 4، الباب 15، فصل 6، ص 1032.

2017-03-07