الولاية وتجلّياتها عند أصحاب الإمام علي عليه السلام
الأخلاق والثقافة الإسلامية
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ليسأله عن حبّ الإمام علي عليه السلام قائلا: هَلْ يَنْفَعُنِي حُبُّ عَلِيٍ عليه السلام فَقَالَ: "وَيْحَكَ، مَنْ أَحَبَّهُ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي أَحَبَّ اللَّهَ، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لَمْ يُعَذِّبْهُ".
عدد الزوار: 615
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ليسأله عن حبّ الإمام علي
عليه السلام قائلا: هَلْ يَنْفَعُنِي حُبُّ عَلِيٍ عليه السلام فَقَالَ:
"وَيْحَكَ، مَنْ أَحَبَّهُ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي أَحَبَّ اللَّهَ، وَمَنْ
أَحَبَّ اللَّهَ لَمْ يُعَذِّبْهُ".
مدخل
إنّ من يطالع حياة أصحاب أهل البيت عليهم السلام، وينظر في مواقفهم المشرّفة، يلاحظ
مجموعة من القيم، أبرزها: عشق الإمام، ومودَّته، وطاعته، والتسليم لأمره، والثبات
على ولايته، وصولاً إلى الشهادة بين يديه، مهما كانت الصعوبات أو التضحيات.
هذه حال أصحاب الأئمة عليهم السلام، ومنهم أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام الذين
صمدوا مع الإمام عليهم السلام، وحاربوا إلى جنبه، وكانوا على قدرٍ كبير من البصيرة
في أصعب مراحل التاريخ الإسلاميّ وأشدّها، حتى قال فيهم أمير المؤمنين عليه السلام:
"لا يحمل هذا العلم إلّا أهل البصر والصبر"1.
كانوا شخصيات مؤمنة ذوي بصيرة ووعي، وكان لهم دورٌ مؤثر في بثّ الوعي بين شرائح
المجتمع الإسلاميّ، ولهذا السبب يُلاحَظ أن الهجمات الأساس لأعداء أمير المؤمنين
عليه السلام وُجّهت صوب هذه الشخصيات، ضد مالك الأشتر وعمار بن ياسر ومحمد بن أبي
بكر، وضدّ كل من وقف إلى جانب أمير المؤمنين عليه السلام، وأثبت صلابة إيمانه
وإخلاصه، وسلامة بصيرته، وصدق ولايته لإمام زمانه، ولهذا قضى أكثر الأصحاب شهداء.
لذا سنحاول في هذا الدرس أن نسلّط الضوء على بعض المواقف الولائية المشرّفة التي
سطّرها بعض أصحاب أمير المؤمنين علي عليه السلام، لما لهذه المواقف من دروس وعبر
تربوية غاية في الأهمية عند كل متبصّر حريص على بناء وإعداد نفسه، ليكون على أتمّ
الجهوزية والاستعداد لنصرة دين الحق وأئمته عليهم السلام.
عشق الإمام علي عليه السلام
إنّ محبة أهل البيت عليهم السلام فرض إلهي واجب، جعله الله عز وجل أجراً لرسوله
﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾2،
فمودتهم وطاعتهم واجبة. لذا عندما جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه
وآله وسلم ليسأله عن حبّ الإمام علي عليه السلام قائلا: هَلْ يَنْفَعُنِي حُبُّ
عَلِيٍ عليه السلام فَقَالَ: "وَيْحَكَ، مَنْ أَحَبَّهُ أَحَبَّنِي، وَمَنْ
أَحَبَّنِي أَحَبَّ اللَّهَ، وَمَنْ أَحَبَّ اللَّهَ لَمْ يُعَذِّبْهُ"3. وقَالَ
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يَا سُلَيْمَانُ، حُبُ عَلِيٍ إِيمَانٌ،
وَبُغْضُهُ نِفَاقٌ. وَاللَّهِ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُهُ
إِلَّا مُنَافِق"4.
أصحاب الأمير عليه السلام أهل الطاعة والثبات على الولاية
تُعتبر مسألة الثبات مسألة أساس في تماسك التنظيم واستمراريته ونجاحه في بلوغ
أهدافه وتحقيق مساعيه. فمن دون الثبات لا يمكن لأيّ تنظيم أن يستمرّ، خصوصاً إذا
واجهته ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية ضاغطة.
والعارف بحقيقة التنظيم الشيعيّ لن يستغرب ثبات أفراده على مبادئهم، فهم أناس
عقائديون أصحاب مشروع أخرويّ لا خسارة فيه، والدنيا عندهم ليست سوى دار ممر، ومزرعة
للآخرة. وهم أيضاً مؤمنون بهدفهم، ويعرفون لماذا يجاهدون. وهم أيضاً يعشقون المعصوم
عليه السلام، ويرونه قد تحمّل من المصائب والمصاعب أكثر ممّا تحمّلوا بكثير. لذلك
فهم مستعدّون للتضحية بأرواحهم وأهلهم وأولادهم وكل ما يملكونه، لنصرة مشروعهم الذي
هو مشروع المعصوم عليه السلام، وهو مشروع الله عز وجل.
والثبات والتضحية يأخذ أشكالاً عديدة في حياة الإنسان، فقد يكون الثبات عبارة عن
التضحية بالروح، وقد يكون عبارة عن تحمّل الفقر وشَظَفِ العيش في سبيل المعتقدات،
وقد يكون عبارة عن تحمّل طبيعة وظروف العمل الشاقة التي لا يستطيع أن يتحمّلها
ويصبر عليها إلّا الثابتون على مبادئهم ومعتقداتهم.
وقد جسَّد أصحاب الامام علي عليه السلام أرقى معاني التضحية والثبات، حيث قُتلوا
وصلبوا وقُطّعت أيديهم وأرجلهم، وقطّعت ألسنتهم، وهُجّروا وسُجنوا ومُنعوا من بيت
مال المسلمين، وقُتّل أهلهم وإخوانهم وأصحابهم، وحوصروا، إلّا أنّهم بقوا متمسّكين
بمشروعهم وهدفهم وانتمائهم الفكريّ والعقائديّ والسياسيّ. وقد سطّر التاريخ نماذج
مذهلة من ثبات وتضحيات أصحاب الامام علي عليه السلام، وهذا غيضٌ من فيض، وبعضٌ من
مواقف العشق والولاية لعلي عليه السلام:
أ- عدي بن حاتم الطائيّ وإنصافُه للإمام:
روي أنَّ عدي بن حاتم الطائيّ وكان قد أُصيب بعينه يوم معركة الجمل، واستُشهد
أولاده الثلاثة: طريف وطراف وطرفة مع أمير المؤمنين عليه السلام دخل ذات يوم على
معاوية بن أبي سفيان، وعنده عبد الله بن الزبير، فقال له ابن الزبير: "يا أبا طريف،
متى ذهبت عينك، قال: يوم فرّ أبوك منهزماً فقُتل، وضُربتَ على قفاك وأنت هارب، وأنا
مع الحق، وأنت مع الباطل. فقال معاوية: ما فعل الطُرْفان (يعني طريفاً وطرافاً
وطرفة أبناءه)؟ قال: قُتلوا مع أمير المؤمنين عليه السلام، فقال له: ما أنصفَك
عليَّ إذ قَدّم أبناءك وأخّر أبناءه! قال: بل أنا ما أنصفته، قُتل وبقيتُ بعده"5.
ب- عمّار بن ياسر ومعركةُ صفين:
روي أنَّ عمار بن ياسر ارتجز بعض هذه الأبيات قبل شهادته في معركة صفين، وفيها
تتجلّى أسمى آيات العشق العلويّ:
كَلّا وربِّ البيت لا أبرح أجي***حتى أموت أو أرى ما أشتهي
لا أفتأ الدهر أحامي عن علي***صهرِ الرسول ذي الأمانات الوفي
ينصرنا ربّ السماوات العلي***ويقطع الهام بحدّ المشرفي
يمنحنا النصر على من يبتغي***ظلماً علينا جاهداً ما يأتلي6.
ج- رُشيد الهجريّ والصبرُ على الولاية :
عن أبي حسان العجليّ، عن قنوا بنت رُشيد الهجريّ، قال: قلت لها: أخبريني بما سمعتِ
من أبيك، قالت: سمعت من أبي يقول: قال: حدّثني أمير المؤمنين عليه السلام فقال: "يا
رُشيد، كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيّ بني أُميّة فقطع يديك ورجليك ولسانك؟" فقلت: يا
أمير المؤمنين، آخر ذلك الجنّة؟ قال: "بلى يا رُشيد، أنت معي في الدنيا والآخرة".
قالت: فوالله ما ذهبت الأيّام حتّى أرسل إليه الدعيّ عبيد الله بن زياد، فدعاه إلى
البراءة من أمير المؤمنين عليه السلام، فأبى أن يتبرّأ منه، فقال له الدعيّ: فبأيّ
ميتة قال لك تموت؟
قال: أخبَرني خليلي أنّك تدعوني إلى البراءة منه فلا أتبرأ منه، فتُقدّمني فتقطع
يديّ ورجليّ ولساني، فقال: والله لأكذبنّ قوله فيك، قدّموه فاقطعوا يديه ورجليه،
واتركوا لسانه، فحملت طوائفه7 لمّا قطعت يداه ورجلاه، فقلت له: يا أبه، كيف تجد
ألماً لما أصابك؟
فقال: لا يا بنية إلّا كالزحام بين الناس، فلمّا حملناه وأخرجناه من القصر، اجتمع
الناس حوله، فقال: ائتوني بصحيفة ودواة أكتب لكم ما يكون إلى أن تقوم الساعة، فإنّ
للقوم بقية لم يأخذوها منّي بعد، فأتوه بصحيفة فكتب الكتاب: بسم الله الرحمن
الرحيم.
وذهب لعينٌ فأخبره أنّه يكتب للناس ما يكون إلى أن تقوم الساعة، فأرسل إليه الحجّام
حتّى قطع لسانه فمات"8.
د- ميثم التمّار ورفضُ البراءة:
روي عن ميثم التمّار (رضي الله عنه) أنه قال: "دعاني أمير المؤمنين عليه السلام
وقال: كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعيّ بني أُمية ابن دعيّها عبيدُ الله بن زياد إلى
البراءة منّي؟ فقال: فذاك في الله قليل، فقال: يا ميثم، إذاً تكون معي في درجتي"9.
هـ- حجر بن عدي والثباتُ على الولاية:
يروى أيضا أنه لمّا أراد عامل معاوية قتل حجر بن عدي وأصحابه، طلب حجر أن يقتلوا
ابنه قبل أن يقتلوه، فقالوا له: تعجّلت الثكل! فأجابهم (رضي الله عنه): "خفت أن يرى
ولدي هول السيف على عنقي فيرجع عن ولاية علي بن أبي طالب عليه السلام"10.
التسليم للإمام عليه السلام
تُعتبر الطاعة ركيزة أساس في أي تنظيم. فكل تنظيم، مهما كان نوعه، يجب أن يكون له
قائد، ويجب أن يُطاع القائد، وإلا فليس هناك أي معنى لقيادته.
فالتسليم للمعصوم عليه السلام هو قرار يُتّخذ بعد عملية تفكير، والتسليم هو نتيجة
عقلية يصل إليها الإنسان البصير بعد استعراض مقدّمات مهمّة جداً. فالذي يصل إلى
مرحلة التسليم يكون ممّن هداه الله، وأرشده إلى حقيقة الأمور وأصلها، وأزاح عن قلبه
غشاوة حبّ النفس والنظر إليها. فالمُسلِّم إنسان أدرك حقيقة محدودية معرفته، وأدرك
حقيقة أنّه لا بدّ من وجود وسيلة بين عالم الحضور وعالم الغيب، ولا بدّ أن تكون هذه
الوسيلة عالمة بعلم إلهيّ واسع جداً، ولا بدّ أن تكون هذه الوسيلة حكيمة ومسدَّدة
من الله عزّ وجلّ، لذلك يجب عليه أن يتبع هذه الوسيلة التي هي المعصوم، وأنّ
يُسلِّم لها مطلقاً. أمّا الذي لم يصل إلى مرتبة التسليم، فهو إمّا جاهل بجهله
وبمحدودية علمه، أو أنَّه عالم بجهله ولكنّه لم يُهدَ إلى من يملك العلم والحكمة.
كما أن التسليم لا يمنع الإبداع والتفكير، بل يجب أن يُحفّز التفكير والإبداع.
فالمعصوم يُحدد الهدف ويرسم الطريق، ويطلب من الأفراد أن يجتهدوا ويبدعوا في تحقيق
الهدف والوصول إلى المطلوب.
وأبرز مصداقٍ للتسليم والطاعة هو تسليم الامام علي عليه السلام لأمر الرسول حين
أمره بالمبيت في فراشه، وقد خُلِّد هذا الموقف في قوله تعالى:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾11.
وقد كان التسليم صفة بارزة في شخصية أصحاب الامام علي عليه السلام، مَعْلَماً
بارزاً من معالم التنظيم الشيعيّ. وسنعرض بعض النماذج من حياة أصحاب الأمير عليه
السلام:
روي أن عمرو بن الحمق الخزاعيّ قال لأمير المؤمنين عليه السلام في وقعة صفين:
والله، ما جئتك لمال من الدنيا تعطينيه، ولا لالتماس السلطان ترفع به ذكري، إلّا
لأنّك ابن عمّ رسول الله، وأولى الناس بالناس، وزوج فاطمة سيدة نساء العالمين، وأبو
الذرّية التي بقيت لرسول الله، وأعظم سهماً للإسلام من المهاجرين والأنصار. والله،
لو كلّفتني نقل الجبال الرواسي، ونزح البحور الطوامي أبداً حتى يأتي عليّ يومي، وفي
يدي سيفي أهزّ به عدوّك، وأقوّي به وليّك، ويُعلي به اللهُ كعبك، ويفلج به حجّتك،
ما ظننت أنّي أدّيت من حقّك كلّ الحقّ الذي يجب لك عليّ. فقال أمير المؤمنين عليه
السلام: "اللهم نوّر قلبه باليقين، واهده إلى الصراط المستقيم، ليت في شيعتي مائة
مثلك"12.
وعن منصور بن بزرج قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: ما أكثر ما أسمع
سيّدي ذكر سلمان الفارسيّ، فقال: "لا تقل سلمان الفارسيّ، ولكن قل سلمان المحمديّ.
أتدري ما كثرة ذكري له؟ قال: لثلاث خلال: إحداها إيثاره هوى أمير المؤمنين عليه
السلام على هوى نفسه، والثانية: حبّه للفقراء واختياره إيّاهم على أهل الثروة
والعدد، والثالثة: حبّة للعلم والعلماء. وإنّ سلمان كان عبداً صالحا حنيفاً مسلماً،
وما كان من المشركين"13. فسلمان لم يكن فقط مطيعاً لأمير المؤمنين عليه السلام، بل
كان مؤثراً هوى أمير المؤمنين عليه السلام على هوى نفسه، وهذه أعظم مراتب الطاعة
والتسليم.
ورويَ عن أبي الجارود أنه قال: قلت للأصبغ بن نباتة: ما كان منزلة هذا الرجل فيكم
(يريد علياً عليه السلام)؟ قال: "ما أدري ما تقول، إلّا أن سيوفنا كانت على
عواتقنا، فمن أومأ إلينا ضربناه بها"14. وسُئل الأصبغ: كيف سمّاك أمير المؤمنين
عليه السلام وأشباهك بشرطة الخميس؟ فقال: "إنّا ضمنّا له الذبح، وضمن لنا الفتح"،
أي شرطنا له القتال معه حتى النصر أو الشهادة، وشرط لنا الجنّة وضمنها15.
وتتّضح هنا أسمى درجات التسليم للإمام والانقياد له بكل ما يقوله.
الولاية تعني الحضور حيث يجب أن نكون
وفي ظلّ الأوضاع السياسية الراهنة، المليئة بالفتن التي يختلط فيها الحقّ بالباطل،
تزداد أهمية البصيرة، وتتجلّى الولاية الحقيقية، حيث يجب معرفة وتحديد التكليف بشكل
واضح وجليّ لا لبس فيه، لأنَّه، بناءً على هذا التكليف، سيُسفك دم، ويُقتل أناس
كثر. فمحاربة الذين يتظاهرون بالإسلام، والذين يظنُّهم الناس نسّاكاً وعبّاداً، ليس
بالأمر السهل، إلا على من استضاء بنور الحقّ ونور إمام زمانه ونائبه بالحقّ، وكانت
بصيرته قويّة تُريه حقائق الأمور، وتُميّز بين الحقّ وبين الباطل. يقول الإمام
الخامنئيّ: "رأيتم في صدر الإسلام أن أولئك الذين مُدحوا، إنّما مُدحوا بسبب
مواقفهم السياسية والاجتماعية وجهادهم، وليس بسبب صلاتهم وعباداتهم، فنحن قليلاً من
نمدح أبا ذر أو عماراً أو مالكاً الأشتر أو ميثماً التمّار بسبب عباداتهم، فالتاريخ
عرف هؤلاء بمواقفهم التي كانت مواقف مصيرية، وبالحركة العامّة التي تمكّنت من هداية
المجتمع وتشكيله والمساهمة في تطوره. وأولئك الذين ذُمّوا إنّما كان ذلك لهذا السبب
أيضاً، فالكثير من الكبار الذين ذُمّوا، لم يكن الأمر بسبب شربهم للخمر أو تركهم
للصلاة، بل بسبب عدم حضورهم حيث كان ينبغي"16.
وختاماً، يمكن القول إنَّ تحديد الموقف السياسيّ والجهاديّ والاجتماعيّ هو المعيار
في الانتماء لمشروع قيام دولة العدل المهدوية، والذي يتجلى في عصرنا الراهن بالتمسك
بولاية الفقيه واتّباع التوجيهات والتوصيات المختلفة للوليّ قدس سره.
المتخاذلون ورفضُ الولاية العلوية
في الجهة المعاكسة لتيار الحقّ والولاية، الذي تمثّل بمالك الأشتر وعمار وميثم
التمار وحجر بن عدي وغيرهم من خُلّص أتباع امير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه
السلام، اصطفّت زمرة من المنافقين والمتخاذلين، أرادت مبايعةً مشروطةً للإمام عليه
السلام17، وذلك بالتنازل عن القيم والمبادئ الإسلامية، والركون إلى الفساد
والانحلال، لكنَّه عليه السلام أبى ذلك، معلناً اتّباعه منهج رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم في الحكم، وعدم المهادنة في الشريعة الإسلامية، فقد كانت سياسة
الإمام صريحة وواضحة، وهي السعي في إقامة العدل والحق، والقضاء على الظلم والفساد
وجوهه كافّة.
إذ يُنقل أنَّ طلحة والزبير عاتبا الإمام واعترضا على عدله، ومساواته بين المسلمين
في تقسيم بيت المال، فقالا للأمير عليه السلام: "إنّك جعلت حقّنا فـي القَسْم كحقّ
غيرنا، وسوّيت بيننا وبين من لا يُماثلنا فـي ما أفاء الله تعالى بأسيافنا
ورماحنا". فردَّ الإمام عليه السلام أنّ حُكمه امتدادٌ لحكم الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم: "فإنّ ذلك أمر لم أحكم فيه بادئ بدء، بل وجدتُ أنا وأنتما رسولَ صلى
الله عليه وآله وسلم يحكم بذلك"18.
وكان ثمن الموقف العلويّ ثلاثة حروبٍ خاضها الامام عليه السلام والخُلَّصُ من
أصحابه وأوليائه، وهي: حرب الجمل، وصفين، والنهروان.
فقد اصطفّت ضدّ عليّ عليه السلام في أيّام حكومته الّتي استمرّت أقلّ من خمس سنوات،
ثلاثة تيارات، تمثلت بالقاسطين والناكثين والمارقين، أُمِرَ عليه السلام بقتالهم،
وفي ذلك قوله عليه السلام: "أُمرت أن أُقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين"19.
والقاسطون فئة دخلت الإسلام ظاهريّاً بهدف الحفاظ على مصالحها الخاصّة، ورفضت
الحكومة العلويّة. والتفّت تلك الفئة حول محور بني أميّة، وعلى رأسه معاوية بن أبي
سفيان20، ومروان بن الحكم، والوليد بن عقبة. شكّل هذا المحور جبهة رفض التّفاهم
والاتّفاق مع أمير المؤمنين عليه السلام، وكان يرنو إلى نمطٍ آخر من الحكم يكون
زمامه بيده، فقد كانت غايتهم الوصول إلى حكومة دنيويّة محضة تدور في فلك ذواتهم
ومصالحهم الذاتية.
وانتُخب عمرو بن العاص حكماً ممثلاً للجهة المعادية. وبعد اجتماع الحكمين، أعلن
موسى الأشعريّ خلع الامام عليه السلام متبجِّحاً بقوله: "قد خلعتُ علياً كما خلعتُ
عمامتي هذه وأهوى إلى عمامته فخلعها"21.
وبعد إعلان رأي الحكمين، خرج بعض المسلمين الذين كانوا في صف الإمام عليه، وانتقدوه
لقبوله التحكيم الذي فرضوه هم أنفسهم عليه. وقد حدث قتال القاسطين عام 37 هجرية22.
والجبهة الثّانية الّتي حاربت أمير المؤمنين عليه السلام هي جبهة الناكثين. وأبرز
الشخصيات الناكثة للبيعة هما طلحة والزبير اللّذين بايعا علياً وكانا قد طلبا منه
أن يولّيهما أعمال البصرة والكوفة، ولكن الإمام رفض ذلك، وتركا المدينة سراً وفرّا
إلى مكة وقاما بإعداد وتجهيز جيشٍ لقتال أمير المؤمنين عليه السلام بأموال بيت
المال المختلَس من قبل بني أُمية، وانطلقوا نحو البصرة واستولوا عليها.
فتحرّك الامام علي عليه السلام تاركاً المدينة للقضاء عليهم، وحدثت حرب طاحنة قرب
البصرة انتهت بانتصار عليّ وهزيمة الناكثين، وهذه هي حرب الجمل التي لها مساحة
كبيرة في التاريخ، والتي اندلعت سنة 36 هجرية23.
والجبهة الثالثة كانت جبهة المارقين، وكانت هذه الفئة متمسّكة بظواهر الدين،
ويُكثرون من التبجّح باسم الدين. وهؤلاء هم الخوارج الّذين وضعوا أسسهم الفكريّة
على أساس فهم مغلوط للدين، ولم يأخذوا الدّين عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام
الّذي كان مفسّراً للقرآن وعالماً بالكتاب.
أمّا تكتّلهم، أو ما يُسمّى بالاصطلاح المعاصر "تحزّبهم"، فكان يستلزم سياسة معيّنة
توجّه من قِبل عمرو بن العاص ومعاوية . والسّمة البارزة الّتي كانت تُميّز أعضاء
هذه الفئة هي أنّك لا تكاد تتلفّظ بكلمة حتّى يُسارع أحدهم إلى الإتيان بآية من
القرآن، وكانوا كثيراً ما يقرؤون أثناء صلاةِ جماعةِ أمير المؤمنين عليه السلام
آيات، معرّضين به، أو يقومون عند منبره ويقرؤون آية فيها تعريض يقصدونه بها، وكان
شعارهم "لا حكم إلّا لله"، بمعنى أنّنا لا نعترف بحكومتك، ونحن أتباع حكومة الله!
* كتاب أنوار الحياة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- نهج البلاغة، ص 248.
2- سورة الشورى، الآية 23.
3- الهلاليّ، سليم بن قيس، كتاب سليم بن قيس الهلاليّ، إيران، قم، الهادي،
1405هـ، الطبعة الأولى، ج2، ص935.
4- المجلسيّ، محمد باقر بن محمد تقي، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة
الأطهار، بيروت، دار إحياء التراث العربيّ، 1403هـ، الطبعة الثانية، ج37، ص93.
5- المزربانيّ الخرسانيّ، محمد، مختصر أخبار شعراء الشيعة، مركز آل البيت العالميّ
للمعلومات، ص47.
6- الشيخ آل فقيه، محمد جواد، سلسلة الأركان الأربعة، عمار بن ياسر، لبنان، دار
التعارف للمطبوعات،1992م، ج4،ص227.
7- حُمِلَت طوائفه، أي حُملت أطراف يديه ورجليه لمّا قُطعت.
8- المفيد، الاختصاص، تحقيق حسين الأستادوليّ وعلي أكبر الغضادريّ، ط2، بيروت، دار
المفيد، 1993م، ص77.
9- الطوسيّ، اختيار معرفة الرجال، تعليق ميرداماد الاسترأباديّ، تحقيق مهدي
الرجائيّ، قم، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث. 1983م، ج1، ص259.
10- الأمين، محسن، أعيان الشيعة، تحقيق حسن الأمين، ط5، بيروت، دار التعارف
للمطبوعات، 2000م، ج2، ص305.
11- سورة البقرة، الآية 207.
12- المفيد، الاختصاص، م. س، ص14 – 15.
13- القمّيّ، عباس، منتهى الآمال، ج1، م. س، ص162.
14- م. ن، ص271.
15- م. ن.
16- الإمام الخامنئيّ، خطاب الوليّ 2010، مركز نون للتأليف والترجمة، 2011م، ص128.
17- أمثال الوليد بن العقبة الذي تبجّح بقوله: "ونحن نُبايعك اليوم على أن تضع عنّا
ما أصبناه من المال فـي أيّام عثمان" ، شرط مبايعته الإمام هو الإبقاء على أموالهم
التي حصلوا عليها خلال عهد عثمان.
18- م. ن، ص 22.
19- العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 44، ص 36.
20- والي الشام في تلك الفترة الزمنية.
21- تاريخ الطبريّ: 6|39.
22- القرشيّ، باقر شريف،المآسي المروعة للإمام أمير المؤمنين عليه السلام وأصحابه،
دار جواد الأئمة عليه السلام،2005م.ط1،ص:68،69،88،89.بتصرف -.
23- البيشوائيّ، مهدي، سيرة الأئمة عليهم السلام، قم مؤسسة الإمام الصادق عليه
السلام، 1383هـ.ش. ص:81.