الوحدة الإسلاميّة وتحدّيات التنوّع
الوحدة الإسلامية
قلّما نطالع في الكتب السياسيّة المتداولة بحثاً يتناول موضوع الوحدة والألفة بين أفراد الشعب في بلد ما أو بين أعضاء مدرسة فكريّة أو دين ما،
عدد الزوار: 105
مدخل
قلّما نطالع في الكتب السياسيّة المتداولة بحثاً يتناول موضوع الوحدة والألفة بين
أفراد الشعب في بلد ما أو بين أعضاء مدرسة فكريّة أو دين ما، بوصفه مبدأً أساسيّاً
وبنيويّاً، إلّا أنّ العناوين والشعارات الأخرى التي تنادي بها المدارس السياسيّة
مرتبطة بنحو أو بآخر، بموضوع الوحدة. وهكذا، فإنّ المدارس السياسيّة التي تنادي
مثلاً بالقوميّة العربيّة، أو الوحدة الإسلامية1، أو النظريّة الأممية2،
أو بعض المدارس الشمولية مثل الماركسيّة وغيرها، كلّها تدعو إلى الوحدة والتضامن من
زاوية معيّنة. وعلى الرّغم من أنّ بعض تلك الدّعوات كانت تنادي بتوحيد أفراد الشعب
في بلد معيّن أو منطقة معيّنة أو أبناء اللغة الواحدة أو المدرسة الفكريّة الواحدة،
فاختلفت آراؤهم، إلّا أنّهم اتفقوا جميعاً على نمط من الوحدة والسعي لتحقيقها.
وقد تجلّت المطالبة بالوحدة بين المسلمين، وتبلورت الدّعوة إلى توحيدهم في القرون
الحديثة في المساعي والجهود الحثيثة التي بذلها الشيخ جمال الدين الأسدآبادي
(الأفغانيّ) (1254 - 1314هـ/ 1838 - 1896م)، ومن ثمّ الجهود التي قدّمها في هذا
المجال الشيخ محمّد عبده3، الشيخ عبد الرحمن الكواكبيّ4،
محمد إقبال5 وغيرهم. وقد تزامنت تلك الجهود بعد نفوذ الاستعمار إلى جسد
الإمبراطوريّة العثمانيّة وزوال حاضرة البلدان الإسلاميّة وتحوّلها إلى دُويلات
صغيرة منفصلة عن بعضها. وفي الحقيقة، بعدما ذاقت الدول الإسلاميّة لأوّل مرّة طعم
الانفصال المرّ، بادر المصلِحون والمفكّرون المسلمون إلى إحياء فكرة توحيد تلك
الشعوب والعودة إلى الأمّة الإسلاميّة الموحَّدة.
وبالنظر إلى الفروق والاختلافات الموجودة بين المذاهب الإسلاميّة آنذاك، والتي كانت
بدورها تمثّل عاملاً رئيساً في بروز الاختلافات السياسيّة العميقة، انصبّت الجهود
على إيجاد الوحدة عبر أُسلوبين اثنيّن، هما: قيام بعض الجماعات بالدّعوة إلى
التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، حيث اقتربت الحوزات العلميّة الشيعية وجامعة
الأزهر بشكل عامّ من الوحدة الإسلاميّة، وذلك في ضوء مكانتهما المرموقة في العالم
الإسلاميّ، في حين اتّجهت جماعات أخرى إلى خلق الوحدة السياسيّة والاهتمام بقدرات
المسلمين الخلّاقة، وذلك عبر نبذ الخلافات المذهبيّة والطائفيّة والتخفيف من
حدّتها.
ولم يتمكّن سوى القليل من المفكّرين المعروفين الذين طرحوا فكرة الوحدة بين
المجتمعات الإسلاميّة، من الوصول إلى بعض الأهداف التي نادوا بها (مثل آية الله
البروجردي)، إلّا أنّ جهودهم تلك، وللأسف الشديد، ظلّت تراوح مكانها في العديد من
المراحل التاريخيّة وذلك بسبب وجود بعض العناصر المتعصّبة في كلا الجانبيْن، ناهيك
عن ممارسات الاستعمار المستمرّة في إذكاء نار الفتنة، والخلافات المذهبيّة بين
المسلمين.
الإمام الخميني من أعظم المنادين بالوحدة
ويُعتبر الإمام الخمينيّ قدس سره أحدَ أعظم المنادين بالوحدة الإسلاميّة
في العصر الحديث، إذ لم يقتصر إنجازه على طرح فكرة الوحدة بين المجتمعات والمذاهب
الإسلاميّة فحسب، بل كان يحمل رؤية عميقة حول موضوع (الوحدة) في المجالات الداخليّة
والخارجيّة المختلفة، مشيراً إليها في الكثير من المناسبات.
ولعلّ تصريحاته بشأن الدعوة إلى الوحدة تفوق كثيراً ما قاله حول أيّ موضوع مهمّ في
الفكر السياسيّ، وتتجلّى هذه الحقيقة من خلال إلقاء نظرة سريعة على مجلّدات "صحيفة
النور" التي تمثّل السفر الكامل الذي يجمع أحاديثه السياسيّة والاجتماعيّة.
ومن خلال تحليله العوامل التي أدّت إلى انتصار الثورة الإسلاميّة، أشار الإمام قدس
سره إلى عامل الوحدة باعتباره أحد أهمّ تلك العوامل التي عجّلت بذلك الحدث العظيم،
وقد وصف الوحدة في بعض أحاديثه بأنّها (رمز النصر).
ولنقرأ جانباً من كلمات الإمام وتوجيهاته، يقول قدس سره: "لا بدّ لنا من
المحافظة على وحدة الكلمة والاتّكال على القرآن الكريم باعتبارهما رمز النصر
والانطلاق والتقدّم نحو الأمام لإرساء أُسس الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران"6.
وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة أشار إلى رمز الانتصار هذا، حيث قال سماحته: "إذا
استطعنا المحافظة على وحدة الكلمة هذه وعلى ميزة الإسلام الذي ينطوي على كلّ
المعاني، فإنّنا سنظلّ منتصرين حتى النهاية، وإذا أخلّ أولئك بتعهّدهم أو دبّ
الضّعف والوهن فينا - لا سمح الله - ولم نقف نحن ولا الشعب في وجههم، أو ظننّا
أنّنا قد انتصرنا وانتهى الأمر ووجد الضعف والعجز طريقهما إلينا، فإنّني أخشى
عندذاك من عودة الأمور - لا سمح الله - إلى ما كانت عليه ولكن بلبوس جديد. أمّا إذا
قاومنا وصمدنا وحافظنا على قدرتنا التي نمتلك الآن، وهي قدرة الشعب على وحدة
الكلمة، فسننتصر جميعنا"7.
هذا، وقد اعتبر الإمام الخمينيّ أنّ الوحدة كانت، وما تزال العلّة (المُحْدِثة)
و(المُبْقِية) للنظام الإسلاميّ، وأنّ الإسلام والوحدة هما الضمانة الأكيدة
لاستمرار المسلمين وبقائهم يقول سماحته: "إذا أراد المسلمون استعادة عزّتهم
وعظمتهم في صدر الإسلام فعليهم التمسّك بالإسلام وبوحدة الكلمة، إنّ الالتزام بمحور
الإسلام هو الذي أوجد كلّ تلك القدرة والشجاعة العجيبة"8.
فقد بذل الإمام الخمينيّ جهوداً جبارة من أجل إعادة اللحمة إلى الصف الإسلاميّ،
وبالنّظر إلى شموليّة الطرح الذي قدّمه في هذا المجال، فإنّ آراءه الوحدويّة تشكّل
مدخلاً مهمّاً من أجل استيعاب فكره السياسيّ، وذلك بسبب المكانة العظيمة التي
يحتلّها موضوع الوحدة في فكره.
* كتاب الوحدة الإسلامية، نشر دار المعارف الإسلامية الثقافية.
1- أو الاتّحاد الإسلاميّ بان
إسلاميسم panIslamism-: الدّعوة إلى توحيد البلدان الإسلاميّة. المترجم -.
2- = Internationalism-: سياسة التعاون بين الدول وبخاصّة في الحقليْن السياسيّ
والاقتصاديّ. المترجم -.
3- 1849 - 1905م -. المترجم -.
4- عبد الرحمن الكواكبيّ 1849 - 1902-: صحافيّ وأديب سوريّ، أنشأ جريدة الشهباء-،
واشتهر بتحرّره ودعوته إلى النهضة والإصلاح فاضطهده العثمانيّون ممّا اضطرّه إلى
الهجرة إلى مصر، من كتبه "أُمّ القرى" و"طبائع الاستبداد". المترجم -.
5- محمد إقبال 1876 - 1938م -: أشهر الشعراء والفلاسفة والمفكّرين المسلمين في
الهند. دعا إلى إنشاء الباكستان والاستقلال عن الهند. له مؤلّفات ودواوين
بالفارسيّة والأردو. المترجم-.
6- صحيفة النور، ج 22، ص 201.
7- م.ن، ج 5، ص 260.
8- م.ن، ج 8، ص 235، بتصرّف.