يتم التحميل...

الفتنة التي امتحن بها سليمان

سليمان عليه ‌السلام

وتوضيح مفاد الآيات يترتب على البحث عن الأُمور التالية:

عدد الزوار: 254

قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ2,1.

وتوضيح مفاد الآيات يترتب على البحث عن الأُمور التالية:
١- ما هي الفتنة التي امتحن بها سليمان؟
٢- ما معنى طلب المغفرة مع التمسّك بحبل العصمة؟
٣- لماذا يطلب لنفسه الملك؟
٤- لماذا يطلب ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده؟

أمّا السؤال الأوّل:
فليس في الآيات الواردة في المقام ما يكشف عن حقيقتها.

وأمّا الروايات فقد نقل أهل الحديث حول تبيين الفتنة روايات يلوح منها أنّها إسرائيليات، بثّها أحبار اليهود بين المسلمين، وقد ابتلي بها المسلمون في كثير من المجالات التفسيرية والتاريخية والعقائدية و ... فالرجاء من الله سبحانه أن يقيض جماعة من المثقفين والمحقّقين ويوفّقهم لتهذيب الكتب الإسلامية منها وتنقيحها عن مروياتهم.

ولكن من بين هذه الروايات ما يمكن أن يعتمد عليه، وهو ما قيل: كان لسليمان ولد شاب ذكي كان يحبّه حبّاً شديداً، فأماته الله على بساطه فجأة بلا مرض، اختباراً من الله تعالى لسليمان وابتلاء لصبره في إماتة ولده، وألقى جسمه على كرسيه3.

ولا شك أنّ الابتلاء بموت الولد الشاب من أعظم الابتلاءات، والصبر في هذا المجال وتفويض الأمر إلى الله سبحانه آية كمال النفس، فلم يكن الهدف من الابتلاء إلاّ أن يتفتح الكمال المركوز في ذاته، حتى يخرج من القوّة إلى الفعل، وسنوضح فلسفة الابتلاء عند البحث عن ابتلاء إبراهيم بالكلمات فانتظر.

والعجب أن سيد قطب قد اعتمد في تفسير الفتنة على رواية يبدو أنّها من الإسرائيليات التي أخذها أبو هريرة عن كعب الأحبار، قال: ولم أجد أثراً صحيحاً أركن إليه في تفسير "الجسد الذي أُلقي على كرسي سليمان" سوى حديث صحيح، في ذاته، ولكن علاقته بأحد هذين الحادثين ليست أكيدة. وهذا الحديث هو ما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم، وأخرجه البخاري في صحيحه مرفوعاً، ونصه: "قال سليمان: لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل "إن شاء الله"، فطاف سليمان عليهن، فلم تحمل إلاّ امرأة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده: لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون".

ثم قال السيد: وجائز أن تكون هذه هي الفتنة التي تشير إليها الآيات، وأن يكون الجسد هو هذا الوليد الشق، ولكن هذا مجرد احتمال4.

نحن لا نعلّق على هذا الحديث شيئاً وإنّما نترك القضاء فيه إلى القارئ لكي يقضي فيه، وكفى في ضعفه أنّه من مرويات أبي هريرة، وقد وصفها سيد قطب بأنّها مجرّد احتمال كما عرفت.

وبذلك يعلم الجواب عن السؤال الثاني،
فالظاهر أنّه كان له عليه ‌السلام فيه رجاء أو أُمنية، فأماته وألقاه على كرسيه، حتى يوقفه على أنّ حق العبودية تفويض الأمر إلى الله والتسليم إليه، ولعل هذا المقدار من الرجاء وعقد الأُمنية على الولد يعد نحو انقطاع من الله إلى الولد.

وهو وإن لم يكن معصية ولكن الأليق بحال الأولياء غيره، ولأجل ذلك لما استشعر بوظيفته التي يوجبها مقامه، أناب إلى الله ورجع إليه وطلب المغفرة كما يقول سبحانه: ﴿ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي.

وقد تكرر منّا أنّ طلب المغفرة ليس دليلاً على العصيان وصدور الذنب، بل كل فعل أو ترك صدر من الرجال العارفين بحقيقة الربوبية وعمق العبودية، وكان الأولى والأليق خلافه، استوجب طلب الغفران، وإن لم يكن معصية وخلافاً في منطق الشرع، ولأجل ذلك انّ أولياء الله لم يزالوا مستغفرين كل يوم وليلة لسعة استشعارهم بعظمة الوظيفة في مقابل عظمة الخالق.

وأمّا السؤال الثالث:
أعني طلب الملك من الله سبحانه، فلم يكن الملك مقصوداً لذاته، لأنّ مثل هذا الملك لا ينفك عن الظلم والتعدّي وهضم الحقوق إلى غير ذلك مما أُشير إليه في قوله تعالى: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ5 وفي قوله عز اسمه: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا6.

هكذا كانت طبيعة الملوكية في الأعصار الغابرة والحاضرة، فهي مع الاستبداد والاستعباد وغصب الأموال وقتل النفوس المحترمة متلازمة، كما هو واضح لمن لاحظ تاريخ السلاطين في الأدوار الماضية والحاضرة.

وإنّما طلب سليمان ما وراء ذلك، فقد طلب من الله سبحانه الملك الذي يقوده إنسان أُوتي العلم والحكم وتشرّف بالنبوة والوحي، ومن هذا حاله، لا يكون الملك مطلوباً له بالذات، وانّما يكون في طريق إحقاق الحق وإبطال الباطل والخدمة للخلق.

ولأجل أنّ المتبادر من الملك ـ في أذهان العامة ـ هو السلطة الجائرة نجد الذكر الحكيم عندما يصف الله بـ‍ (المَلِكِ) يتابعه بـ (الْقُدُّوسِ) مشيراً إلى أنّ ملكه وسلطته تفارق سائر السلطان، فهو في عين كونه ملكاً للعالم، قدوس منزّه من كل عيب وشين، ومن كل تعدّ وظلم، فهو: ﴿الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ7.

نقل أهل السير أنّ النبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله ‌وسلم كان يقول: "لست بملك" مع أنّه كان حاكماً إلهياً، ورئيس دولة إسلامية أسّسها منذ بدء وروده المدينة، ومراده هو إبعاد نفسه عمّا يتبادر إلى أذهان العامّة من سماع ذلك اللفظ، وأنّه ليس من أُولئك الزمرة، بل حاكم إلهي يسعى لصالح الأُمّة حسب القوانين الإلهية.

وبالجملة: فرق بين السلطة التي تستخدمها الغرائز المادية، والسلطة التي تراقبها النبوّة، ويكبح جماحها الخوف من الله، والعشق لرضوانه، والذي طلبه سليمان في الآية إنّما هو الثاني، وهو عمل إلهي وخدمة للدين وعمل مقرّب، دون الأوّل.

ولأجل أن لا تذهب أذهان الصحابة إلى المعنى المتبادر من لفظ "الملك" قام رسول الله بتوضيح ما طلب سليمان لنفسه من الله سبحانه وقال: "أرأيتم ما أُعطي سليمان بن داود من ملكه؟ فإنّ ذلك لم يزده إلاّ تخشعاً، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعاً لربِّه"8.

وقد أوضحنا حقيقة السلطة الإسلامية التي دعا إلى استقرارها الكتاب والسنّة، وملامحها وأهدافها، فلاحظ 9.

ومن هنا يعلم جواب السؤال الرابع:
وأنّه لماذا قال: (لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِي)؟ فإنّه لم يقل ذلك ضناً وبخلاً على الغير، وإنّما قال ذلك، لأنّه طلب الملك الذي لا يصلح في منطق العقل والشرع أن يمارسه غيره، أو من هو نظيره في العلم والإيمان، وذلك لأنّه سبحانه يبيّن ملامح هذا الحكم في آيات أُخر ويقول: ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ10 فالآيات بحكم "الفاء" في قوله ﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ تدل على أنّه لم يطلب مطلق الحكم، وهو السلطة التي يصح أن يمارسها المتعارف من الناس خصوصاً إذا كانوا من الصلحاء، وانّما طلب من القدرة ما يصل بها إلى تسخير الريح والجن والشياطين. ومثل هذه القدرة لا تصح في منطق العقل أن تقع في متناول المتعارف من الناس، لأنّ وجود تلك السلطة في متناول غير المعصوم يؤدي إلى الطغيان وهدم الحدود وادّعاء الربوبية، إلى غير ذلك من عظيم الفساد، وإنّما تكون مقرونة بالصلاح والفلاح إذا مارسها نبي عارف بعظمة المسؤولية أمام الله أوّلاً، وأمام العقل والوجدان ثانياً، وأمام الخلق ثالثاً.

ولأجل ذلك يقول: ﴿لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي ويريد منه الإنسان المتعارف غير المتمسّك بحبل العصمة، وغير المتحلّي بالنبوة، فإنّ هذا الملك ـ لما عرفت ـ لا ينبغي لأحد، وإنّما ينبغي لسليمان ومن يكون بمنزلته من الصيانة والعصمة.

وإلى ما ذكرنا يشير المرتضى ويقول: إنّما التمس أن يكون ملكه آية لنبوته، ليتبين بها عن غيره ممّن ليس بنبي وقوله: ﴿لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي أراد به لا ينبغي لأحد غيري ممّن أنا مبعوث إليه، ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة من النبيين 11.


1- الدر المنثور: ٥ / ٣٠٩.
2- ص: ٣٤ ـ ٣٥.
3- تنزيه الأنبياء: ٩٩ الطبعة القديمة.
4- في ظلال القرآن الكريم: ٢٣ / ٩٩.
5- النمل: ٣٤.
6- الكهف: ٧٩.
7- الحشر: ٢٣.
8- روح البيان: ٨ / ٣٩.
9- لاحظ الجزء الثاني من هذه الموسوعة: الفصل الأوّل: ١١ ـ ٧٢.
10-  ص: ٣٦ ـ ٤٠.
11- تنزيه الأنبياء: ١٠٠.

2016-06-14